الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              7 [ ص: 363 ] 7 - باب

                                                                                                                                                                                                                              7 - حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس، أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش -وكانوا تجارا بالشأم- في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا.

                                                                                                                                                                                                                              فقال أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره.

                                                                                                                                                                                                                              ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه.

                                                                                                                                                                                                                              فوالله لولا الحياء من أن يأثروا على كذبا لكذبت عنه.

                                                                                                                                                                                                                              ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت لا.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم.

                                                                                                                                                                                                                              قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت لا.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فهل يغدر؟ قلت لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.

                                                                                                                                                                                                                              قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه.

                                                                                                                                                                                                                              قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 364 ] فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك؟ قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمى هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه.

                                                                                                                                                                                                                              ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [آل عمران: 64] قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام. وكان ابن الناظور، صاحب إيلياء وهرقل، سقفا على نصارى الشأم، يحدث [ ص: 365 ] أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك. قال ابن الناظور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مداين ملكك، فيقتلوا من فيهم من اليهود. فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان، يخبر عن خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا. فنظروا إليه، فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون. فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأى هرقل على خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي. وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت. فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.


                                                                                                                                                                                                                              رواه صالح بن كيسان، ويونس، ومعمر، عن الزهري. [51، 2681، 2804، 2141، 2178، 3174، 4553، 5180، 6260، 7116، 7541 - مسلم 1772 - فتح: 1 \ 31]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الحديث السابع:

                                                                                                                                                                                                                              قال البخاري رحمه الله:

                                                                                                                                                                                                                              حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع أبنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس، أخبره، أن أبا سفيان بن حرب أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش -وكانوا تجارا بالشأم- في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها [ ص: 366 ] أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بالترجمان، فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان فقلت: أنا أقربهم نسبا. فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره. ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه. فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبا لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده، لا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.

                                                                                                                                                                                                                              فقال للترجمان قل له: سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من [ ص: 367 ] ملك؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد سخطة عن دينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر؟ (فقلت:) فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بما يأمركم، فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف. فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمى هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه. ثم دعا بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يوتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [آل عمران: 64].

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده [ ص: 368 ] الصخب، وارتفعت الأصوات فأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام. وكان ابن الناطور، صاحب إيلياء وهرقل، سقفا على نصارى الشام، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك. قال ابن الناطور وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مدائن ملكك، فليقتلوا من فيهم من اليهود. فبينما هم على أمرهم أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان، يخبر عن خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا. فنظروا إليه، فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون. فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع فقال: يا معاشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان قال: ردوهم علي. وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت. فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.
                                                                                                                                                                                                                              رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر، عن الزهري.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 369 ] الكلام عليه من عشرة وجوه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث وجه مناسبته للباب عدم اتهامه بالكذب، وأنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله تعالى، وأيضا فهو مشتمل على ذكر آيات أنزلت على من تقدم من الأنبياء، وعلى ذكر جملة من أوصاف من يوحى إليه، وكرره البخاري في "صحيحه" في مواضع:

                                                                                                                                                                                                                              أخرجه هنا كما ترى، وفي الجهاد عن إبراهيم بن حمزة، عن إبراهيم بن سعد عن صالح.

                                                                                                                                                                                                                              وفي التفسير عن إبراهيم بن موسى، عن هشام. وفيه: عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق قالا: حدثنا معمر، كلهم عن الزهري به.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الشهادات عن إبراهيم بن حمزة، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن الزهري مختصرا: سألتك هل يزيدون أو ينقصون ؟ وفي الجزية عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس عن الزهري مختصرا.

                                                                                                                                                                                                                              وفي الأدب عن ابن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري مختصرا أيضا، وعن محمد بن مقاتل عن عبد الله عن يونس عن [ ص: 370 ] الزهري مختصرا.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه أيضا في الإيمان، والعلم، والأحكام، والمغازي، وخبر الواحد، والاستئذان. فهذه أربعة عشر موضعا.

                                                                                                                                                                                                                              وأخرجه مسلم في المغازي عن خمسة من شيوخه: إسحاق بن إبراهيم، وابن أبي عمر، وابن رافع، وعبد بن حميد، والحلواني عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري به بطوله، وعن الأخيرين عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح، عن الزهري به.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 371 ] وأخرجه أبو داود في الأدب، والترمذي في الاستئذان، والنسائي في التفسير، ولم يخرجه ابن ماجه.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث ليس لأبي سفيان في الصحيحين وهذه الكتب الثلاثة سواه، ولم يروه عنه إلا ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              لما ساق البخاري الحديث قال في آخره: (رواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري، وذكر مسلم رواية صالح وفيها: وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لما (آتاه) الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              قال الحميدي: اختصر مسلم زيادة صالح. وقد أتمها أبو بكر البرقاني بعد قوله: لما أبلاه الله تعالى. فلما جاء قيصر كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال حين قرأه: التمسوا ها هنا أحدا من قومه نسألهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن عباس: فأخبرني أبو سفيان بن حرب أنه كان بالشام (وقته)، فوجدنا رسول قيصر، فانطلق بي وبأصحابي حين قدمنا إيليا فأدخلنا عليه، فإذا هرقل جالس على مجلس ملكه عليه التاج، وإذا حوله عظماء الروم فذكر نحوه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 372 ] رابعها: في التعريف برواته:

                                                                                                                                                                                                                              وقد سلف التعريف بابن عباس وعبيد الله والزهري ويونس ومعمر.

                                                                                                                                                                                                                              وأما أبو سفيان: فهو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي الأموي المكي، ويكنى بأبي حنظلة أيضا، ولد قبل الفيل بعشر سنين. وأسلم ليلة الفتح، وشهد الطائف وحنينا، وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين مائة من الإبل وأربعين أوقية، وفقئت عينه الواحدة يوم الطائف والأخرى يوم اليرموك تحت راية ابنه يزيد، (نزل المدينة، ومات بها سنة إحدى وثلاثين، وقيل: أربع، ابن ثمان وثمانين سنة وصلى عليه عثمان بن عفان).

                                                                                                                                                                                                                              وهو والد معاوية وإخوته، وأمه صفية بنت حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة، وهي عمة ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، روى عنه مع ابن عباس ابنه معاوية وغيره.

                                                                                                                                                                                                                              وقال له - صلى الله عليه وسلم - لما ذهبت عينه وهي في يده: "أيما أحب إليك عين في الجنة، أو أدع الله أن يردها عليك؟ " قال: بل عين في الجنة.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              أبو سفيان في الصحابة جماعة، لكن هذه الترجمة -أعني: ابن حرب- من الأفراد.

                                                                                                                                                                                                                              وأما شعيب: (ع) فهو ابن أبي حمزة دينار القرشي الأموي، مولاهم [ ص: 373 ] أبو بشر الحمصي. سمع خلقا من التابعين منهم الزهري، وعنه خلق، وهو ثقة حافظ متقن.

                                                                                                                                                                                                                              مات سنة اثنتين وقيل: ثلاث وستين ومائة، وقد جاوز السبعين، وهذا الاسم مع أبيه من أفراد الكتب الستة ليس فيها سواه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما أبو اليمان: (ع) الحكم بن نافع فهو حمصي أيضا بهراني، مولى امرأة من بهراء يقال لها: أم سلمة.

                                                                                                                                                                                                                              روى عن خلق، منهم إسماعيل بن عياش، وعنه أحمد وخلائق، ولد سنة ثمان وثلاثين ومائة، ومات سنة إحدى أو اثنتين وعشرين ومائتين.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              في هذا من لطائف الإسناد: رواية حمصي عن حمصي، والزهري شامي. وأما صالح بن كيسان فهو أبو محمد الغفاري مولاهم المدني، مؤدب ولد عمر بن عبد العزيز، سمع ابن عمر وابن الزبير، وغيرهما من التابعين، وعنه من التابعين عمرو بن دينار وغيره، سئل أحمد عنه فقال: بخ بخ، قال الحاكم: توفي وهو ابن مائة سنة ونيف وستين [ ص: 374 ] سنة، وكان لقي جماعة من الصحابة ثم بعد ذلك تتلمذ على الزهري وتلقن منه العلم وهو ابن تسعين سنة، ابتدأ (بالتعلم) وهو ابن (تسعين) سنة. قال ابن معين: وصالح أكبر من الزهري يعني: في السن. قال الواقدي: توفي بعد الأربعين ومائة، قال غيره: سنة خمس وأربعين، قلت: فعلى هذا يكون أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمره نحو العشرين، وفيما قاله الحاكم نظر.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              ليس في الكتب الستة الحكم بن نافع وصالح بن كيسان غير هذين، وفي الرواة الحكم بن نافع آخر، روى عنه الطبراني، وهو قاضي القلزم، ذكره الخطيب في "المتفق والمفترق".

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الخامس: في التعريف بالأسماء الواقعة فيه ممن ليس له رواية فيه.

                                                                                                                                                                                                                              هرقل وهو بكسر الهاء وفتح الراء على المشهور، وحكى جماعة إسكان الراء وكسر القاف منهم: الجوهري كخندف، ولم يذكر القزاز غيره. وكذا صاحب "الموعب"، ولما أنشد صاحب "المحكم" بيت لبيد بن ربيعة :


                                                                                                                                                                                                                              غلب الليالي خلف آل محرق وكما فعلن بتبع وبهرقل

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 375 ] قال: أراد هرقلا فاضطر فغير.

                                                                                                                                                                                                                              والهرقل : المنخل، ولا ينصرف للعلمية والعجمة، وزعم الجواليقي أنه عجمي تكلمت به العرب، وهو اسم علم له ولقبه قيصر، وكذا كل من ملك الروم يقال له: قيصر، كما أن كل من ملك الفرس يقال له: كسرى، والترك: خاقان، والحبشة: النجاشي، والقبط: فرعون، ومصر: العزيز، وحمير: تبع، والهند: دهمى وفغفور، والزنج: عانة، واليونان: بطليموس، واليهود: (فطيون) أو مالخ، ورأس جالوت لمن كان ملكا منهم من بني داود خاصة، [ ص: 376 ] ومن ملك الصائبة يقال له: نمرود، والتبابعة: ملوك اليمن من بني قحطان، وجالوت: لملك البربر. والإخشيد: لمن ملك فرغانة، والنعمان: لمن ملك العرب من قبل العجم، وجرجير: لمن ملك إفريقية، وشهرمان: لمن ملك خلاط، وفور: لمن ملك السند، والأصفر: لمن ملك علوى، ورتبيل: لمن ملك الخزر، وكابل: لمن ملك النوبة، وماجد: لمن ملك الصقالبة.

                                                                                                                                                                                                                              وتنازع ابنا (عبد الحكم) في أنه يقال له: هرقل أم قيصر وترافعا إلى الشافعي فقال: هو هرقل، وقيصر الأول علم له والثاني لقب كأمير المؤمنين، وهو أول من ضرب الدنانير وأحدث البيعة.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى الحديث الصحيح: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده" لا قيصر بعده بالشام ولا كسرى بعده بالعراق كما قاله الشافعي في "المختصر"، قال: وسبب الحديث أن قريشا كانت تأتي الشام والعراق كثيرا للتجارة في الجاهلية فلما أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليهما لمخالفتهم أهل الشام والعراق بالإسلام، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا قيصر ولا كسرى" أي: بعدهما في هذين الإقليمين ولا ضرر عليكم فلم يكن قيصر بعده بالشام ولا كسرى بعده بالعراق ولا يكون، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده (لتنفقن [ ص: 377 ] كنوزهما) في سبيل الله" ففتحت الصحابة الإقليمين في زمن عمر وسيمر بك قريبا حاله إن شاء الله.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              معنى قيصر: البقير والقاف على لغتهم (غير صافية) وذلك أن أمه لما أتاها الطلق به ماتت فبقر بطنها عنه فخرج حيا، وكان يفخر بذلك; لأنه لم يخرج من فرج، واسم قيصر في لغتهم مشتق من القطع; لأن أحشاء أمه قطعت حتى أخرج منها; لأنها لما ماتت عندما اشتد بها الطلق بقي الولد يضطرب في جوفها فشقوا جوفها وأخرجوه، وكان شجاعا جبارا مقداما في الحروب نبه على ذلك ابن دحية في: "مرج البحرين".

                                                                                                                                                                                                                              وفيه أيضا: دحية هو بكسر الدال وفتحها لغتان مشهورتان اختلف في أرجحهما.

                                                                                                                                                                                                                              قال المطرز: والدحى: الرؤساء، واحدهم دحية، وهو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن امرئ القيس بن الخزج -بخاء معجمة مفتوحة ثم زاي ساكنة ثم جيم- وهو العظيم -واسمه زيد مناة -سمي بذلك لعظم بطنه- بن عامر بن بكر بن عامر الأكبر بن عوف -وهو زيد اللات- وقيل: ابن عامر الأكبر بن بكر بن زيد اللات، وهو ما ساقه المزي أولا، قال: وقيل: عامر الأكبر ابن عوف بن بكر بن [ ص: 378 ] عوف بن عبد بن زيد اللات بن (رفيدة) -بضم الراء وفتح الفاء- بن ثور بن كلب، بن وبرة -بفتح الباء- بن تغلب -بالغين المعجمة- بن حلوان بن عمران بن الحاف -بالحاء والفاء- بن قضاعة بن معد بن عدنان، وقيل: قضاعة إنما هو ابن مالك بن حمير بن سبأ، كان من أجمل الصحابة وجها ومن كبارهم، وكان جبريل -عليه السلام- يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورته، وذكر السهيلي عن ابن سلام في قوله تعالى: أو لهوا انفضوا إليها [الجمعة: 11]، قال: كان اللهو نظرهم إلى وجه دحية لجماله، وروي أنه كان إذا قدم الشام لم يبق (معصرة) إلا خرجت تنظر إليه.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سعد: أسلم قديما ولم يشهد بدرا وشهد المشاهد بعدها وبقي إلى خلافة معاوية. وقال غيره: شهد اليرموك وسكن المزة قرية بقرب دمشق.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              كان بعث الكتاب سنة ست، قاله أبو عمر، قال خليفة: سنة [ ص: 379 ] خمس، وقال محمد بن عمر لقيه بحمص فدفع له الكتاب في المحرم سنة سبع. وروى الحارث بن أبي أسامة في حديث دحية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ينطلق بكتابي هذا إلى قيصر وله الجنة". قالوا: وإن لم يقتل يا رسول الله؟ قال: "وإن لم يقتل". فانطلق به رجل. يعني: دحية. وساق الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وقال السهيلي: لم يذكر ابن إسحاق في غزوة تبوك ما كان من أمر هرقل فإنه - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه من تبوك مع دحية ثم كتب كتابا وأرسله مع دحية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فيه: إني مسلم ولكني مغلوب على أمري، وأرسل إليه بهدية، فلما قرأ الكتاب قال: "كذب عدو الله ليس هو بمسلم بل هو على نصرانيته" وقبل هديته وقسمها بين المسلمين.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وكانت تبوك في السنة التاسعة كما سيأتي.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 380 ] فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              ليس في الصحابة من اسمه دحية سواه.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة ثالثة:

                                                                                                                                                                                                                              لم يخرج من الستة حديثه إلا السجستاني في "سننه" وهو من أصحاب الحديثين قاله ابن البرقي.

                                                                                                                                                                                                                              وقال البزار لما ساق حديثه من طريق عبد الله بن شداد بن الهاد عنه: لم يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 381 ] وفيه أيضا أبو كبشة رجل من خزاعة كان يعبد الشعرى العبور ولم يوافقه أحد من العرب على ذلك قاله الخطابي، وفي "المختلف والمؤتلف" للدارقطني أن اسمه: وجز بن غالب من بني (غبشان) ثم من بني خزاعة.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو الحسن النسابة وغيره في معنى نسبة الجاهلية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي كبشة: إنما ذلك عداوة له ودعوة إلى غير نسبه المعلوم المشهور، كان وهب بن عبد مناف بن زهرة جده أبو آمنة يكنى أبا كبشة.

                                                                                                                                                                                                                              وكذلك عمرو بن زيد بن أسد النجاري أبو سلمة أم عبد المطلب كان يدعى أبا كبشة، وكان وجز بن غالب بن حارث أبو قيلة أم وهب بن عبد مناف بن زهرة أبو أم جده لأمه يكنى: أبا كبشة وهو خزاعي، وكان أبوه من الرضاعة الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي يكنى بذلك أيضا، وقيل: إنه والد حليمة مرضعته، حكاه ابن ماكولا.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر الكلبي في كتاب "الدفائن" أن أبا كبشة هو حاضن النبي - صلى الله عليه وسلم - زوج حليمة ظئر النبي - صلى الله عليه وسلم - واسمه الحارث كما سلف، وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 382 ] ونقل ابن التين في الجهاد عن الشيخ أبي الحسن أن أبا كبشة جد ظئر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: قيل: إن في أجداده ستة يسمون أبا كبشة. فأنكر ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه السادس: في بيان الأسماء المبهمة الواقعة فيه:

                                                                                                                                                                                                                              فابن الناطور هو :..

                                                                                                                                                                                                                              وملك غسان هو الحارث بن أبي شمر أراد حرب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج إليهم في غزاة ونزل قبيل - من كندة - ماء يقال له: غسان بالمشلل فسموا به.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه السابع: في أسماء الأماكن الواقعة فيه:

                                                                                                                                                                                                                              أما الشأم فمهموز ويجوز تركه وفيه لغة ثالثة شآم بفتح الشين والمد وهو مذكر ويؤنث أيضا حكاه الجوهري والنسبة إليه شآمي، وشآم بالمد على فعال، وشآمي بالمد والتشديد حكاها الجوهري عن سيبويه، وأنكرها غيره; لأن الألف عوض من ياء النسب فلا يجمع بينهما.

                                                                                                                                                                                                                              وحد الشام: طولا من العريش إلى الفرات وقيل: إلى بالس.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 383 ] وقال ابن حبان في "صحيحه": أول الشام بالس وآخره العريش.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حده عرضا فمن جبل طيء من نحو القبلة إلى بحر الروم وما يسامت ذلك من البلاد نبه (عليه) صاحب "التنقيب على المهذب"، وفي اشتقاقه وسبب تسميته خلاف كبير ذكرته في "الإشارات لغة كتاب المنهاج" فراجعه منه، ودخله نبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة وبعدها ودخله أيضا عشرة آلاف صحابي كما قاله ابن عساكر في "تاريخه".

                                                                                                                                                                                                                              وأما إيلياء فهو بيت المقدس، وفيه ثلاث لغات أشهرها كسر الهمزة واللام وإسكان الياء بينهما وبالمد، والثانية مثلها إلا أنها بالقصر، والثالثة إلياء بحذف الياء الأولى وإسكان اللام وبالمد حكاهن صاحب "المطالع" قال: قيل: معناه: بيت الله. وفي "الجامع": أحسبه عبرانيا. ويقال: الإيلياء كذا رواه أبو يعلى الموصلي في "مسنده" في مسند ابن عباس.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 384 ] ويقال: بيت المقدس وبيت (المقدس).

                                                                                                                                                                                                                              وأما بصرى فبضم الباء وهي مدينة حوران مشهورة ذات قلعة، وهي قريبة من طرف العمارة والبرية التي بين الشام والحجاز، قال ابن عساكر: فتحت صلحا في ربيع الأول لخمس بقين سنة ثلاث عشرة، وهي أول مدينة فتحت بالشام.

                                                                                                                                                                                                                              وأما رومية، فبضم الراء وتخفيف الياء مدينة معروفة للروم وكانت مدينة رئاستهم ويقال: إن روماس بناها.

                                                                                                                                                                                                                              وأما حمص -بكسر الحاء وسكون الميم- بلدة معروفة بالشام، دخلت بها في رحلتي وسمعت بها، سميت باسم رجل من العمالقة اسمه حمص بن (المهر) بن جاف كما سميت حلب بحلب بن المهر وكانت حمص في قديم الزمان أشهر من دمشق.

                                                                                                                                                                                                                              قال الثعلبي: دخلها تسعمائة رجل من الصحابة، افتتحها أبو عبيدة بن الجراح سنة ست عشرة، وفي كتاب "من نزل حمص" لأبي القاسم عبد الصمد بن سعيد القاضي: إن حمص فتحت سنة خمس عشرة افتتحها أبو عبيدة ومعه اثنا عشر ألفا، وفيه عن قتادة: نزل حمص خمسمائة صحابي. قال الجواليقي: وليست عربية، تذكر وتؤنث، قال البكري: ولا يجوز فيها الصرف كما يجوز في هند; لأنه اسم أعجمي، سميت برجل من العمالقة يسمى حمص ويقال: رجل من عاملة هو أول من نزلها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 385 ] وقال ابن التين في الجهاد: يجوز الصرف وعدمه لقلة حروفه وسكون وسطه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الدسكرة فهي بفتح الدال والكاف وإسكان السين بينهما، وهو بناء كالقصر حوله بيوت، وليس بعربي وهي بيوت الأعاجم وأنشد ابن سيده للأخطل:


                                                                                                                                                                                                                              في قباب حول دسكرة حولها الزيتون قد ينعا

                                                                                                                                                                                                                              والدسكرة: الصومعة عن أبي عمرو. وعزا غيره هذا البيت إلى الأحوص وبعضهم إلى يزيد بن معاوية، وصححه الأخفش في كلامه على المبرد، وقال ابن السيد: إنه لأبي دهبل الجمحي (أيضا).

                                                                                                                                                                                                                              وفي "جامع القزاز": الدسكرة أيضا: الأرض المستوية.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ياقوت: إنه أصلها، وقال التبريزي: الدسكرة: مجمع البساتين والرياض.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه الثامن: في تبيين ما وقع فيه من القبائل والأنساب:

                                                                                                                                                                                                                              فيه: قريش وهم ولد النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة واسمه عامر، دون سائر ولد كنانة وهم مالك وملكان ومويلك وغزوان وعمرو [ ص: 386 ] إخوة النضر لأبيه وأمه، وأمهم مرة بنت مر أخت تميم بن مر، وهذا ما ذكره الجمهور.

                                                                                                                                                                                                                              وقيل: إنهم بنو فهر بن مالك وفهر جماع قريش، ولا يقال لمن فوقه: قرشي وإنما يقال له: كناني، ورجحه الزبير بن بكار وهو ما ذكره ابن سعد فهو لقب وقريش اسمه، وأبعد من قال: إنهم ولد إلياس بن مضر أو ولد مضر بن نزار حكاهما الرافعي وهما غريبان جدا، وقد أسلفنا ذلك أول الكتاب ولماذا سموا بذلك؟ فيه أقوال:

                                                                                                                                                                                                                              أصحها عند الجمهور: لتقرشهم أي: لتكسبهم يقال: قرش (يقرش) -بكسر الراء- وكانوا أصحاب كسب.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: أن قريشا تصغير القرش وهو حوت سميت به القبيلة أو أبوها لقوتهم.

                                                                                                                                                                                                                              ثالثها: لتجمعهم بعد التفرق، والتقرش: التجمع.

                                                                                                                                                                                                                              رابعها: لأنهم كانوا يقرشون عن خلة الناس وحاجتهم. أي: يسدونها بما لهم، والتقرش: التفتيش ويصرف ولا يصرف على إرادة الحي أو القبيلة والأوجه صرفه، قال تعالى: لإيلاف قريش [قريش: 1] وقال الزبير بن بكار عن عمه: سميت قريش بقريش بن بدر بن يخلد بن النضر كان دليل بني كنانة في تجاراتهم فكان يقال:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 387 ] قدمت عير قريش. وأبوه بدر صاحب بدر الموضع، قال: وقال غير عمي: قريش بن الحارث بن يخلد اسمه بدر الذي سميت به بدر وهو احتفرها، وينسب إلى قريش: قرشي وقريشي.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه الروم: وهم هذا الجيل المعروف، قال الجوهري: هم من ولد الروم بن عيصو، واحدهم رومي كزنجي وزنج، فليس بين الواحد والجمع إلا الياء المشددة، كما قالوا: تمرة وتمر، ولم يكن بين الواحد والجمع إلا الهاء.

                                                                                                                                                                                                                              قال الواحدي: هم جيل من ولد آرم بن عيص بن إسحاق غلب عليهم فصار كالاسم للقبيلة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الرشاطي: الروم منسوبون إلى رومي بن لنطى بن يونان بن يافث بن نوح. فهؤلاء الروم من اليونانيين، وقوم من الروم يزعمون أنهم من قضاعة من تنوخ وبهراء وسليخ، وكانت تنوخ أكثرها على دين النصارى.

                                                                                                                                                                                                                              وكل هذه القبائل خرجوا مع هرقل عند خروجهم من الشام فتفرقوا في بلاد الروم.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه بنو الأصفر وهم الروم، ولم سموا بذلك؟ فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: أن جيشا من الحبشة غلب على ناحيتهم في وقت فوطئ نساءهم فولدن أولادا صفرا من سواد الحبشة وبياض الروم قاله ابن الأنباري.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: أنها نسبة إلى الأصفر بن الروم بن عيصو بن إسحاق بن [ ص: 388 ] إبراهيم -عليه السلام- قاله الحربي، قال القاضي. عياض: وهو الأشبه.

                                                                                                                                                                                                                              وعبارة القزاز: قال قوم: بنو الأصفر من الروم هم ملوكهم ولذلك قال عدي بن زيد:


                                                                                                                                                                                                                              وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم لم يبق منهم مذكور

                                                                                                                                                                                                                              قال: ويقال: إنما سموا بذلك; لأن عيصو بن إسحاق -عليه السلام- كان رجلا أحمر أشعر الجلد، كان عليه خواتيم من شعر، وهو أبو الروم، وكان الروم رجلا أصفر في بياض شديد الصفرة، فمن أجل ذلك سموا بذلك، وتزوج عيصو ابنة عمه إسماعيل بن إسحاق، فولدت له الروم بن عيصو وخمسة آخرين، فكل من في الروم فهو من نسل هؤلاء الرهط.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "المغيث": تزوج الروم بن عيصو إلى الأصفر ملك الحبشة، فاجتمع في ولده بياض الروم وسواد الحبشة، فأعطوا جمالا وسموا بني الأصفر.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "تاريخ دمشق" لابن عساكر: تزوج مهاطيل الرومي إلى النوبة، فولد له الأصفر.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "التيجان" لابن هشام: إنما قيل لعيصو بن إسحاق: الأصفر; لأن جدته سارة حلته بالذهب فقيل له ذلك لصفرة الذهب.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 389 ] قال: وقال بعض الرواة: إنه كان أصفر. أي: أسمر إلى صفرة، وذلك موجود في ولده إلى اليوم فإنهم سمر كحل الأعين.

                                                                                                                                                                                                                              الوجه التاسع: في ضبط ألفاظه وتبيين معانيه:

                                                                                                                                                                                                                              الأول: الركب: جمع راكب، وقيل: اسم يدل على الجمع كقوم وذود، وهو قول سيبويه، وهم أصحاب الإبل في السفر العشرة فما فوقها، قاله ابن السكيت وغيره.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن سيده: أرى أن الركب قد يكون للخيل والإبل. وفي التنزيل: والركب أسفل منكم [الأنفال: 42] فقد يجوز أن يكون منهما جميعا، وقول علي: ما كان معنا يومئذ فرس إلا فرس عليه المقداد بن الأسود. يصحح أن الركب ها هنا ركاب الإبل.

                                                                                                                                                                                                                              قالوا: والركبة -بفتح الراء والكاف- أقل منه، والأركوب -بالضم- أكثر منه. وجمع الركب: أركب وركوب، والجمع أراكب، والركاب: الإبل، واحدها: راحلة وجمعها: ركب.

                                                                                                                                                                                                                              وفي بعض طرق هذا الحديث أنهم كانوا ثلاثين رجلا منهم أبو سفيان.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: التجار بكسر التاء وتخفيف الجيم، ويجوز ضم التاء وتشديد الجيم، وهما لغتان جمع تاجر، ويقال أيضا: تجر كصاحب وصحب.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث: ماد بتشديد الدال، وهو من المفاعلة كضارب وحاد وشاد يكون من اثنين، يقال: تماد الغريمان إذا اتفقا على أجل، وهو من المدة، وهي القطعة من الزمان تقع على القليل والكثير، أي اتفقوا على الصلح مدة من الزمان، وهذه المدة هي صلح الحديبية، الذي [ ص: 390 ] جرى بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وكفار قريش، سنة ست من الهجرة لما خرج - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة معتمرا، قصدته قريش وصالحوه على أن يدخلها في العام المقبل على وضع الحرب عشر سنين، فدخلت بنو بكر في عهد قريش وبنو خزاعة في عهده - صلى الله عليه وسلم - ثم نقضت قريش العهد بقتالهم خزاعة حلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر الله تعالى بقتالهم بقوله تعالى: ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) [التوبة: 13].

                                                                                                                                                                                                                              الرابع: قوله: (وحوله) هو بفتح اللام يقال: حوله وحواله وحوليه وحواليه أربع لغات واللام مفتوحة فيهن. أي: مطيفون به من جوانبه قال الجوهري: ولا تقل: حواليه بكسر اللام.

                                                                                                                                                                                                                              الخامس: الترجمان: بفتح التاء أفصح من ضمها، والجيم مضمومة فيهما وهو المعبر عن لغة بلغة، والتاء فيه أصلية، وأنكر على الجوهري جعلها زائدة، وتبعه ابن الأثير فقال في "نهايته": والتاء والنون زائدتان.

                                                                                                                                                                                                                              السادس: إنما سأل عن أقربهم نسبا; لأن غيره لا يؤمن أن تحمله العداوة على الكذب في نسبه والقدح فيه بخلاف القريب فإن نسبه نسبه.

                                                                                                                                                                                                                              السابع: قوله: (فاجعلوهم عند ظهره) قيل في معناه: لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب.

                                                                                                                                                                                                                              الثامن: قوله: (فإن كذبني) هو بالتخفيف، فكذبوه هو بالتشديد، الكذب نقيض الصدق، يقال: كذب يكذب كذبا وكذبا وكذبة وكذبة.

                                                                                                                                                                                                                              ويقال: كذبته وكذبت له.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 391 ] التاسع: (يأثروا) بكسر الثاء وضمها، ولم يذكر القاضي غيره.

                                                                                                                                                                                                                              أي: يحكوه عني ويتحدثوا به فأعاب به; لأن الكذب قبيح، وإن كان على عدو يقال: أثرت الحديث -بقصر الهمزة- آثره -بالمد وضم المثلثة وكسرها- أثرا -ساكنة الثاء- حدثت به.

                                                                                                                                                                                                                              العاشر: قوله: (لكذبت عنه) أي: لأخبرت عن حاله بكذب لبغضي إياه. وقد قال الفقهاء: إن شهادة العدو على عدوه لا تسمع لمثل هذا المعنى.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (عنه). أي: عليه. وقد جاء كذلك في بعض نسخ البخاري، ولم تقع هذه اللفظة في مسلم، ووقع فيه لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب وعلي بمعنى عني، كما هو في قوله:


                                                                                                                                                                                                                              إذا رضيت علي بنو قشير ..................



                                                                                                                                                                                                                              ووقع أيضا لفظة: (علي). في البخاري في التفسير.

                                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر: قوله: (قط) فيها لغات أشهرها فتح القاف وتشديد الطاء المضمومة.

                                                                                                                                                                                                                              قال الجوهري: معناها: الزمان، يقال: ما رأيته قط. قال: ومنهم من يقول: قط بضمتين، وقط بتخفيف الطاء وفتح القاف وضمها مع التخفيف، وهي قليلة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 392 ] الثاني عشر: قوله: (فهل كان من آبائه من ملك) هذا روي على وجهين:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: من بكسر الميم وملك بفتح الميم وكسر اللام.

                                                                                                                                                                                                                              وثانيهما: (من) بفتح الميم، وبفتحها أيضا وفتح اللام على أنه فعل ماض وكلاهما صحيح والأول أصح وأشهر، ويؤيده رواية مسلم: هل كان في آبائه ملك؟ بحذف (من)، وكذا هو في كتاب التفسير من "صحيح البخاري" أيضا. وعلى هذا يحتمل أن تكون من زائدة في الرواية الأخرى; لأنها في سياق الاستفهام.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث عشر: (أشراف الناس): كبارهم وأهل الأحساب منهم. وإنما كان أتباع الرسل الضعفاء دون الأشراف; لكون الأشراف يأنفون من تقديم مثلهم عليهم، والضعفاء لا يأنفون فيسرعون إلى الانقياد واتباع الحق، وهذا على الغالب، وإلا فقد سبق إلى اتباعه أكابر أشراف دينه كالصديق والفاروق وحمزة وغيرهم، وزيادتهم دليل على صحة النبوة; لأنهم يرون الحق كل يوم يتجدد، فيدخل فيه كل يوم طائفة.

                                                                                                                                                                                                                              الرابع عشر: قوله: (سخطة) (هو) بفتح السين، والسخط والسخط هو الكراهة للشيء وعدم الرضا به، يقال منه: سخط يسخط سخطا، ومعناه: أن من دخل في الشيء على بصيرة يمتنع رجوعه بخلاف ضده.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 393 ] الخامس عشر: (يغدر) بكسر الدال، وهو ترك الوفاء بالعهد.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها) فيها يعني: مدة الهدنة، وهي صلح الحديبية.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة) إنما فعل ذلك; لأنه كان يعلم من اخلاقه الوفاء والصدق، وأنه يفي بما عاهدهم عليه، وأحال الأمر على الزمن المستقبل، وقال ما قال مع علمه أن صدقه ووفاءه ثابت مستمر لا يتغير.

                                                                                                                                                                                                                              السادس عشر: قوله: (فكيف كان قتالكم إياه؟) فيه انفصال ثاني (الضميرين)، والاختيار أن لا يجيء المنفصل إذا تأتى مجيء المتصل.

                                                                                                                                                                                                                              السابع عشر: (سجال) بكسر السين، أي: نوب، نوبة لنا ونوبة له. والمساجلة: المفاخرة، بأن تصنع مثل صنعه في جري أو سعي، وأصله من السجل وهو الدلو ملأى، وأصله المستقيان بالسجل حتى يكون لكل واحد منهما سجل.

                                                                                                                                                                                                                              الثامن عشر: (العفاف): الكف عن المحارم وخوارم المروءة.

                                                                                                                                                                                                                              قال صاحب "المحكم": العفة: الكف عما لا يحل ولا يجمل، يقال: عف يعف عفة وعفافا وعفافة وعفة، وتعفف واستعف، ورجل عف وعفيف، والأنثى عفيفة، وجمع العفيف: أعفة وأعفاء.

                                                                                                                                                                                                                              التاسع عشر: الصلة: كل ما أمر الله تعالى به أن يوصل وذلك بالبر والإكرام وحسن المراعاة، وفي مسلم: (ويأمرنا بالزكاة) بدل الصدق [ ص: 394 ] في رواية البخاري (هنا، وقد أخرجها في الزكاة بعلة ما).

                                                                                                                                                                                                                              العشرون: قوله: (وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها). يعني: أفضله وأشرفه. قيل: الحكمة في ذلك أن من شرف نسبه كان أبعد من انتحال الباطل، وكان انقياد الناس إليه أقرب.

                                                                                                                                                                                                                              الحادي بعد العشرين: سؤاله عن الارتداد; لأن من دخل على بصيرة في أمر محقق لا يرجع عنه، بخلاف من دخل في أباطيل كما سلف. وسؤاله عن الغدر; لأن من طلب حظ الدنيا لا يبالي بالغدر وغيره مما يتوصل به إليها، ومن طلب الآخرة لم يرتكب غدرا ولا غيره من القبائح. وسؤاله عن حربهم جاء تفسيره له في (غير) هذه الرواية في البخاري في التفسير، ومسلم قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون (لهم) العاقبة، يبتليهم بذلك ليعظم أجرهم لكثرة صبرهم وبذلهم وسعهم في طاعته، قال تعالى: والعاقبة للمتقين [الأعراف: 128]، ولئلا يخرج الأمر عن العادة، ومن تأمل ما استقرأه هرقل من هذه الأوصاف تبين له حسن ما استوصف من أمره، واستبرأه من حاله، ولله دره من رجل ما كان أعقله لو ساعدته المقادير بتخلية ملكه والاتباع! الثاني بعد العشرين: قوله: (يأتسي) هو بهمزة بعد الياء، أي: يتبع [ ص: 395 ] ويقتدي، والأسوة: القدوة. يقال: أسوة بكسر الهمزة وضمها، وقد قرئ بهما، قرأ عاصم بالضم، والباقون بالكسر.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث بعد العشرين: قوله: (حين يخالط) كذا وقع في أكثر النسخ: حين بالنون، وفي بعضها: حتى بالياء، ووقع في "المستخرج" للإسماعيلي حتى أو حين على الشك، والروايتان وقعتا في مسلم أيضا ووقع فيه أيضا: إذا بدل حين.

                                                                                                                                                                                                                              الرابع بعد العشرين: البشاشة: بفتح الباء يقال: بش به وتبشبش، وروي: بشاشة. كما سقناه. وبشاشته.

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي: وهذه أصح. يعني: رواية الهاء، والمراد: انشراح الصدر والفرح به والسرور، وأصلها اللطف بالإنسان عند قدومه وإظهار السرور برؤيته وتأنيسه، يقال: بش بالشيء يبش بشاشة إذا أظهر بشرى عند رؤيته. قال الليث: البش: اللطف في المسألة والإقبال على أخيك. وقال ابن الأعرابي: هو فرح الصدر بالصديق. وقال ابن دريد: بش إذا ضحك إليه ولقيه لقاء جميلا.

                                                                                                                                                                                                                              الخامس بعد العشرين: قوله: (وقد كنت أعلم أنه خارج) إنما علم ذلك من التوراة والإنجيل، وفي مسلم: فإن يك ما تقول حقا فإنه نبي.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (فسيملك موضع قدمي هاتين). يعني: الشام، فإنه قاله به. وقوله:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 396 ] (لم أكن أظن أنه منكم). كأنه استبعد أن يتنبأ من العرب.

                                                                                                                                                                                                                              السادس بعد العشرين: معنى: (أخلص). أصل. ومعنى: (لتجشمت لقاءه): تكلفت على خطر ومشقة. وهو بالجيم، وفي مسلم: لأحببت لقاءه، (مكان تجشمت. قال القاضي: وتجشمت أصح في المعنى، ويحتمل أن يكون أحببت مغيرة منه، وكان الإسلام لم يتمكن من قلبه ولم يرد الله هدايته كما أراد هداية النجاشي.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن بطال: قوله: (لتجشمت لقاءه) يعني: دون خلع من ملكه ولا اعتراض عليه في شيء، وهذا التجشم هو الهجرة، وكانت فرضا على كل مسلم قبل الفتح، فإن قلت: النجاشي لم يهاجر قبل الفتح وهو مؤمن، فكيف سقط عنه فرض الهجرة؟ فالجواب أنه كان ردءا للإسلام هناك وملجأ لمن أوذي من الصحابة والردء كالمقاتل، وكذا ردء اللصوص والمحاربين عند مالك والكوفيين يقتل بقتلهم ويجب عليه ما يجب عليهم وإن لم يحضروا القتل، ومثله تخلف عثمان وطلحة وسعيد بن زيد عن بدر وضرب لهم الشارع بسهمهم وأجرهم.

                                                                                                                                                                                                                              السابع بعد العشرين: قوله: (ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه). هذا فيه إيماء إلى أنه علم بنبوته لكنه خشي خلع قومه له، على ما جاء مفسرا في البخاري فأصر على كفره بعد علمه به، فكان أشد في الحجة عليه.

                                                                                                                                                                                                                              وهذه عبارة القاضي، وكذا قوله آخر الحديث: (هل لكم في الفلاح والرشد فتبايعوا هذا النبي؟) فيه إعلام بإيمانه.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 397 ] وقال ابن بطال: لم يصح عندنا أنه جهر بالإسلام وإنما آثر ملكه على الجهر بكلمة الحق، ولسنا (نقنع) بالإسلام دون (الجهر به)، ولم يكن مكرها حتى يعذر وأمره إلى الله.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي: إذا تأملت معاني ما استقرأه من أوصافه (تبينت) حسن ما استوصف من أوصافه واستبرأ من حاله، فلله دره من رجل ما كان أعقله لو صادف معقوله مقدوره، وهذا أسلفته فيما مضى قريبا.

                                                                                                                                                                                                                              وقد حكى القاضي وغيره خلافا للعلماء: فيمن اطمأن قلبه بالإيمان ولم يتلفظ وتمكن من الإتيان بكلمتي الشهادة فلم يأت بها، هل يحكم بإسلامه أم لا؟ والمشهور المنع.

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عبد البر في حديث دحية أنه - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى قيصر في الهدنة سنة ست، قال: فآمن به قيصر (وأبت) بطارقته أن يؤمنوا، فأخبر دحية النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ثبت ملكه"، ومما يبعد صحة إيمانه نصبه القتال للمسلمين غزوة مؤتة في جمادى سنة ثمان، وما جرى في الوقعة إذ في "سيرة ابن إسحاق" وغيرها أن المسلمين مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام فبلغهم أن هرقل نزل في مائة ألف من الروم فالتقيا، [ ص: 398 ] وقتل من قتل إلى آخر القصة.

                                                                                                                                                                                                                              وروى البزار في الحديث الآتي عنه في أثناء الفوائد أنه قال لدحية: أبلغ صاحبك أني أعلم أنه نبي ولكن لا أترك ملكي. وفيه أنه دعا الأسقف فقال له: هذا الذي كنا ننتظر وبشرنا به عيسى. (فقال له قيصر: كيف تأمرني؟ قال الأسقف: أما أنا فمصدقه ومتبعه). قال له قيصر: أما أنا إن فعلت ذهب ملكي. وفيه أن الأسقف تلفظ بالشهادتين وأنه قتل.

                                                                                                                                                                                                                              الثامن بعد العشرين: (عظيم بصرى) أميرها وكذا عظيم الروم، أي: الذي تعظمه الروم وتقدمه، ولم يقل: إلى ملك الروم; لما يقتضيه هذا الاسم من المعاني التي لا يستحقها من ليس من أهل الإسلام، فلو فعل لكان فيه التسليم لملكه وهو بحق الدين (معزول، ومع ذلك فلم يخله من نوع من الإكرام في المخاطبة ليكون آخذا بأدب) الدين في تليين القول لمن (يبتدره) بالدعوة إلى دين الحق.

                                                                                                                                                                                                                              التاسع بعد العشرين: قوله: (بعث به). أي: أرسله. ويقال أيضا: بعثه وابتعثه. بمعنى: أرسله.

                                                                                                                                                                                                                              الثلاثون: قوله: (مع). هو بفتح العين على اللغة الفصيحة المشهورة وبها جاء القرآن، وفي لغة قليلة بإسكانها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 399 ] قال صاحب "المحكم": مع اسم معناه: الصحبة، وكذلك مع بسكون العين، غير أن: مع المفتوحة تكون اسما وحرفا، ومع المسكنة حرف لا غير وأنشد سيبويه:


                                                                                                                                                                                                                              وريشي منكم وهواي معكم وإن كانت زيارتكم (لماما)

                                                                                                                                                                                                                              قال اللحياني: وحكى الكسائي أن ربيعة وغنما يسكنون العين من مع، ويقولون: معكم ومعنا. قال: فإذا جاءت الألف واللام وألف الوصل اختلفوا، فبعضهم يفتح العين، وبعضهم يكسرها، فيقولون: مع القوم، ومع ابنك، ومع القوم ومع ابنك، والفتح كلام عامة العرب وبسط الكلام فيها.

                                                                                                                                                                                                                              ومن [في] قوله: "من محمد رسول الله" لابتداء الغاية وليست من الابتداء في المكان ولا في الزمان فاعلمه.

                                                                                                                                                                                                                              الحادي بعد الثلاثين: "أما بعد". فهو(بالضم- أي:) بضم الدال- وفتحها ورفعها منونة، وكذا نصبها.

                                                                                                                                                                                                                              وفي المبتدئ بها خمسة أقوال: داود، وقس بن ساعدة، أو كعب بن لؤي، أو يعرب بن قحطان، أو سحبان، ومعناها: أما بعد ما سبق وهو البسملة والسلام، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقولها في خطبه وشبهها، رواه عنه عدة من (الصحابة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 400 ] وقد ترجم له البخاري بابا في الجمعة وذكر فيه أحاديث كثيرة في خطبة الكسوف ومرضه وغيرهما، وسنوضح الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني بعد الثلاثين: "دعاية الإسلام" -بكسر الدال- أي: يدعونه، والدعاية بمعنى: الدعوة من دعا، مثل الشكاية من شكو، هو مصدر كالرماية، والمراد: دعوة الإسلام. أي: آمرك بكلمة التوحيد، قال تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم الآية [آل عمران: 64]، وفي البخاري في الجهاد، ومسلم هنا: بداعية الإسلام. أي: الكلمة الداعية إلى الإسلام، وهو بمعنى الأول، ويجوز أن تكون دعاية هنا بمعنى: دعوة. فيرجع إلى الأول كما في قوله تعالى: ليس لها من دون الله كاشفة [النجم: 58]: كشف.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث بعد الثلاثين: قوله: ("أسلم تسلم") هذا من محاسن الكلام وبليغه وإيجازه واختصاره كما سيأتي التنبيه عليه، عدد البخاري في الجهاد والتفسير بعد "أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين" بزيادة: "أسلم خيرا".

                                                                                                                                                                                                                              الرابع بعد الثلاثين: يعني: يؤتك أجرك مرتين لإيمانك بعيسى وإيمانك واتباعك لي، بخلاف الجاهلية وأهل الأوثان الذين لم يكونوا على شيء من دين الله ولا كتاب.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 401 ] الخامس بعد الثلاثين: اختلف في ضبط (الأريسيين) على أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: بيائين بعد السين.

                                                                                                                                                                                                                              وثانيها: بياء واحدة والهمزة مفتوحة والراء مكسورة مخففة في كلا الوجهين.

                                                                                                                                                                                                                              وثالثها: بهمزة مكسورة وتشديد الراء وياء واحدة بعد السين، ووقع في إحدى روايتي البخاري ومسلم، (...) وهو ما عزاه النووي وغيره إلى البخاري هنا بفتح الياء وكسر الراء وبالسين المهملة، ويجوز أن تكون بدلا من الهمزة في أدنى وبرئ. قال: والهمزة أكثر استعمالا عند أهل اللغة وفي روايات أهل الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن الأعرابي: يقال: أرس يأرس أرسا، فهو أريس، وأرس يؤرس تأريسا، فهو إريس والجمع: أريسيون وأرارسة غيره، وأراريس وأرارس.

                                                                                                                                                                                                                              قال في "الصحاح": وهي شامية. قال: ويقولون للأريس: أريسي، وفي "الجامع" وزن أريس: فعيل. ولا يمكن أن تكون الهمزة فيه أصلية; لأنه كان تبقى عينه وفاؤه من لفظ واحد، وهذا لم يأت في كلامهم في أحرف يسيرة نحو كوكب وديدن، وددن، وبابوس. وقال ابن فارس: الهمزة والراء والسين ليست عربية.

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في المراد به هنا، والصحيح المشهور أنهم الأكارون. أي:

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 402 ] الفلاحون الزراعون، أي: عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك. ونبه بهؤلاء على جميع الرعايا; لأنهم الأغلب في رعاياهم، وأسرع انقيادا. أي: أكثر تقليدا، فإذا أسلم أسلموا، وإذا امتنع امتنعوا.

                                                                                                                                                                                                                              وقد جاء مصرحا به في "دلائل النبوة" للبيهقي والطبري ; "فإن عليك إثم الأكارين". ولأبي عبيد: "وإن لم تدخل في الإسلام فلا تحل بين الفلاحين والإسلام".

                                                                                                                                                                                                                              والبرقاني يعني: الحراثين.

                                                                                                                                                                                                                              وللإسماعيلي: "فإن عليك إثم الركوسيين"، وهم أهل دين من النصارى والصابئين، يقال لهم: الركوسية.

                                                                                                                                                                                                                              وكتب معاوية إلى الطاغية ملك الروم لما بلغه أنه يريد قصد بلاد الشام أيام صفين: تالله لئن هممت على ما بلغني، وذكر كلاما، ثم قال: ولأردنك أريسا من الأراسة ترعى الدوائل. يعني: ذكور الخنازير.

                                                                                                                                                                                                                              ويقال: إن الأريسيين الذين كانوا يحرثون أرضهم كانوا مجوسا، وكان الروم أهل كتاب، فيريد: أن عليك مثل وزر المجوس إن لم تؤمن وتصدق.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عبيد: هم الخدم والخول. يعني: بصدهم إياهم عن الدين كما قال تعالى: وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا [الأحزاب: 67] أي: عليك مثل إثمهم، حكاه ابن الأثير.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 403 ] وقيل: هم المتخيرون. قال القرطبي: فعلى هذا يكون المراد: عليك إثم من تكبر على الحق.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سيده: الأريس: الأكار. عند ثعلب، والأريس: الأمير عند كراع، والأصل عنده (رئيس) فعيل من الرياسة، فقلت: وفي "الجامع": الأريس: الزارع، وعند قوم: الأمير، كأنه من الأضداد، وقيل: هم اليهود والنصارى، أتباع عبد الله بن أريس الذي ينسب إليه الأروسية من النصارى، رجل كان في الزمن] الأول، قتل هو ومن معه نبيا بعثه الله إليهم.

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو الزناد: حذره النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ كان رئيسا متبوعا مسموعا أن يكون عليه إثم الكفر وإثم من عمله واتبعه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل سيئة كان عليه إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة".

                                                                                                                                                                                                                              السادس بعد الثلاثين: قوله: و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء تعالوا هو بفتح اللام وأصله تعاليوا، لأن الأصل في الماضي تعالى، والياء منقلبة عن واو; لأنه من العلو، فأبدلت الواو ياء لوقوعها رابعة، ثم أبدلت الياء ألفا، فإذا جاءت واو الجمع حذفت [ ص: 404 ] لالتقاء الساكنين وبقيت الفتحة تدل عليها، تقول للرجل إذا دعوته: تعال. وللرجلين: تعاليا. وللجماعة: تعالوا. وللمرأة: تعالي. وللمرأتين: تعاليا. وللنسوة: تعالين. بفتح اللام في جميع ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: (و يا أهل الكتاب هذه الواو ثبتت في (رواية عبدوس والنسفي والقابسي، وسقطت في) رواية الأصيلي وأبي ذر كما نبه عليه القاضي قال: وقد اختلف المحدثون فيما وقع من الأوهام في نص التلاوة فمنهم من أوجب إصلاحها; لأنه إنما سيقت للدلالة، ولا حجة إلا في الثابت في المصحف.

                                                                                                                                                                                                                              ومنهم من قال: ننقلها كما وقعت (وننبه) عليها; لأنه يبعد خفاؤها عن المؤلف والناقل عنه ثم على جميع الرواة حتى وصلت إلينا فلعلها قراءة شاذة، ثم ضعف بأن الشاذ مروي معلوم لا يحتج به في حكم، ولا يقرأ به في صلاة، انتهى.

                                                                                                                                                                                                                              والحكمة في تخصيص هذه الآية بالإرسال إلى هرقل دون غيرها من الآي; لأنه نصراني، والنصارى (جمعت) هذه الأمور الثلاثة فعبدوا عيسى -عليه السلام-، وأشركوا بالله فقالوا: إنه ثالث ثلاثة. واتخذوا الأحبار والرهبان أربابا من دون الله. قال الله تعالى: اتخذوا أحبارهم الآية [التوبة: 31].

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: ( كلمة سواء [آل عمران: 64]، هي: لا إله إلا الله. كما رواه عبد بن حميد في "تفسيره" عن مجاهد، وابن أبي حاتم، عن [ ص: 405 ] أبي العالية، وعن الحسن قال: دعوا إلى الإسلام فأبوا. وقال البخاري في التفسير: سواء: قصد.

                                                                                                                                                                                                                              السابع بعد الثلاثين: الصخب بفتح الصاد والخاء، ويقال: بالسين أيضا بدل الصاد، وضعفه الخليل، ومعناها: (اختلاط) الأصوات وارتفاعها. يقول: صخب: بكسر الخاء فهو صخب وصخاب وصخبان ويقرب منه اللغط وهو بفتح الغين وإسكانها، وكذا وقع في مسلم، وفي البخاري في الجهاد: وكثر لغطهم. وفي التفسير: وكثر اللغط. وهو الأصوات المختلفة. قال أهل اللغة: هو أصوات مبهمة لا تفهم.

                                                                                                                                                                                                                              الثامن بعد الثلاثين: قوله: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة) أما أمر فهو بفتح الهمزة وكسر الميم أي: عظم أمره. وأصله من الكثرة، يقال: أمر القوم إذا كثروا، وأمرته: كثرته.

                                                                                                                                                                                                                              قال (ابن سيده) : والاسم منه: الإمرة -بالكسر-. وقال الزمخشري: الأمرة على وزن: بركة: الزيادة، ومنه هذا الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الصحاح" عن أبي عبيدة: آمرته بالمد وأمرته بمعنى: كثرته، وأمر هو أي: كثر، فخرج على تقدير قولهم: علم فلان ذلك، وأعلمته أنا ذلك، قال يعقوب: ولم يقله أحد غيره.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 406 ] وقال الأخفش: يقال: أمر أمر يأمر أمرا: اشتد والاسم الأمر، وفي "أفعال ابن القطاع": أمر الشيء أمرا، وأمر: كثر.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "المجرد" لكراع يقال: زرع أمر وأمر: كثير، وفي "أفعال ابن طريف": أمر الشيء أمرا وإمارة: كثر، ومن أمثال العرب: من قل ذل ومن أمر قل.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الجامع" أمر الشيء إذا كثر والأمرة: الكثرة والبركة والنماء، ومن كلامهم: في وجه ملك تعرف أمرته، وهو الذي يعرف في أوله الخير، وأمرته زيادته وخيره وكثرته.

                                                                                                                                                                                                                              وأما قوله: (ابن أبي كبشة) فقد أسلفنا أنه كان رجلا من خزاعة على قول وكان يعبد الشعرى العبور ولم يوافقه أحد من العرب على ذلك، فشبهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - به لمخالفته إياهم في دينهم كما خالفهم أبو كبشة فأرادوا مجرد التشبيه دون العيب. وقد قال أبي بن خلف لما طعنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: طعنني ابن أبي كبشة.

                                                                                                                                                                                                                              التاسع بعد الثلاثين: قوله: (إنه ليخافه ملك بني الأصفر) هو بكسر الهمزة ويجوز على ضعف فتحها على أنه مفعول من أجله.

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي: ضعف الفتح لوجود اللام في الخبر لكن جوزه بعض النحاة، وقد قرئ شاذا: (إلا أنهم ليأكلون) بالفتح في (أنهم) والمعنى [ ص: 407 ] على الفتح في الحديث عظم أمره - صلى الله عليه وسلم - لأجل أنه يخافه ملك بني الأصفر.

                                                                                                                                                                                                                              الأربعون: قوله: (وكان ابن الناطور، صاحب إيلياء وهرقل، سقفا على نصارى الشأم، يحدث)، أما ابن الناطور فروي بالطاء المهملة والمعجمة.

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي: هو بطاء مهملة عند الجماعة وعند الحموي بالمعجمة، قال أهل اللغة: فلان ناظور بني فلان، وناظرهم بالمعجمة المنظور إليه منهم، والناطور بالمهملة حافظ النخل عجمي تكلمت به العرب، قال الأصمعي: هو من النطر، والنبط يجعلون الظاء طاء.

                                                                                                                                                                                                                              الحادي بعد الأربعين: (صاحب): منصوب على الاختصاص، و(هرقل): بفتح اللام، وهو مجرور معطوف على إيليا أي: صاحب إيليا وصاحب هرقل، وخبر (كان): سقف، ويجوز أن يكون: يحدث أن هرقل وهو أوجه في العربية وأصح في المعنى، كما قال القاضي.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني بعد الأربعين: وقع هنا (سقفا) بضم السين والقاف وتشديد الفاء، ويروى أسقفا بضم الهمزة مع تخفيف الفاء (وتشديدها ذكرها ابن الجواليقي وغيره، والأشهر ضم الهمزة وتشديد الفاء قاله النووي. وعن غيره أن الرواية فيه تخفيف الفاء)، وجمعه أساقفة وأساقف، وللإسماعيلي: أساقفة، وفي بعض الأصول سقف بضم [ ص: 408 ] السين وكسر القاف المشددة أي: جعل أيضا أسقفا ويقال أيضا: سقف كقفل أعجمي معرب.

                                                                                                                                                                                                                              ولا نظير لأسقف إلا (أسرب)، وهو للنصارى رئيس دينهم وقاضيهم، قال الخليل: وهو للنصارى رئيس دينهم.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي: هو العالم. قيل: سمي به لانحنائه وخضوعه لتدينه عندهم وهو قيم شريعتهم ودون القاضي. والأسقف: الطويل في انحنائه كأنه لطول عبادته وقيامه يعرض له انحناء.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الصحاح": السقف بالتحريك: طول في انحناء، يقال: رجل أسقف بين السقف، قال ابن السكيت: ومنه اشتق أسقف النصارى; لأنه يتخاشع وهو رئيس من رؤسائهم في الدين.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث بعد الأربعين: خبث النفس: كسلها وقلة نشاطها أو سوء خلقها. والبطارقة بفتح الباء قواد الملك وخواص دولته وأهل الرأي والشورى منهم، واحدهم بطريق -بكسر الباء-، وقيل: هو المختال المتعاظم، ولا يقال ذلك للنساء.

                                                                                                                                                                                                                              الرابع بعد الأربعين: قوله: (وكان هرقل حزاء) هو بفتح الحاء وتشديد الزاي، ويقال فيه: الحازي وهو المتكهن يقال: حزى يحزي ويحزو وتحزى. قال الأصمعي: وحزيت الشيء أحزيه حزيا وحزوا.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "الصحاح" حزى الشيء يحزيه ويحزوه إذا قدر وخرص، والحازي الذي ينظر في الأعضاء وفي خيلان الوجه يتكهن.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 409 ] وفي "المحكم": حزى الطير (حزيا) : زجرها وفسر في الحديث ذلك بأنه ينظر في النجوم ويمكن أن يكون أراد بيان جهة حزوه; لأن التكهن يكون لوجوه منها ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              الخامس بعد الأربعين: قوله: (ملك الختان قد ظهر) هذا قد ضبط على وجهين:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: ملك بفتح الميم وكسر اللام.

                                                                                                                                                                                                                              وثانيهما: ضم الميم وإسكان اللام وكلاهما صحيح، ومعناه: رأيت الملك لطائفة تختتن.

                                                                                                                                                                                                                              السادس بعد الأربعين: قوله: (فلا يهمنك شأنهم) هو بضم الياء يقال: أهمني الأمر: أقلقني وأحزنني والهم: الحزن، وهمني: أذابني (إذا) بالغ في ذلك، وهمني المرض: أذابني، ومنه المهموم.

                                                                                                                                                                                                                              قال الأصمعي: وهممت بالشيء أهم به إذا أردته وعزمت عليه، وهممت بالأمر أيضا: قصدته، يهمني، وهم يهم -بالكسر- هميما: دب، ومراده أنهم أحقر من أن تهتم لهم أو تبالي بهم، والأمر: الشأن.

                                                                                                                                                                                                                              السابع بعد الأربعين: قوله: (وابعث إلى مدائن ملكك، فيقتلوا من فيهم من اليهود) يعني: وابعث إلى أهل مدائن ملكك فليقتلوا من بين أظهرهم من اليهود، والمدائن بالهمز أفصح من تركه وأشهر وبه جاء القرآن.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 410 ] قال الجوهري: مدن بالمكان أقام به، ومنه سميت المدينة وهي فعيلة، وتجمع على مدائن بالهمز، وتجمع أيضا على مدن بإسكان الدال وضمها، وقيل: إنها مفعلة من دنت، أي: ملكت. وقيل: من جعله من الأول همزه أو من الثاني حذفه كما لا تهمز معايش.

                                                                                                                                                                                                                              قال الجوهري: والنسبة إلى المدينة النبوية مدني، وإلى مدينة المنصور مديني، وإلى مدائن كسرى مدائني للفرق بين النسب; لئلا يختلط.

                                                                                                                                                                                                                              وما ذكره محمول على الغالب وإلا فقد جاء فيه خلاف ذلك كما ستمر به إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              الثامن بعد الأربعين: قوله: (فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر) هو بفتح الميم وكسر اللام ويروى بضم الميم وإسكان اللام وعزي إلى القاضي أنها رواية الأكثر، لكن الذي عزاه صاحب "المطالع" إلى الأكثر الأولى ومعناها ظاهر، وفيه رواية ثالثة (هذا يملك) بزيادة ياء مفتوحة على أنه فعل مضارع.

                                                                                                                                                                                                                              قال القاضي عياض: وأراها ضمة الميم اتصلت بها فتصحفت ولما حكاها صاحب "المطالع" قال: أظنه تصحيفا. وأما النووي فقال: كذا ضبطناه عن أهل التحقيق، وكذا هو في أكثر أصول بلادنا. قال: وهي صحيحة أيضا، ومعناها: هذا المذكور يملك (هذه) الأمة وقد ظهر، والمراد بالأمة هنا أهل العصر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 411 ] التاسع بعد الأربعين: قوله (برومية) هي بتخفيف الياء كما سلف في أسماء الأماكن.

                                                                                                                                                                                                                              الخمسون: قوله: (فلم يرم حمص) هو بفتح الياء وكسر الراء أي: لم يفارقها، يقال: ما يريم يفعل أي: ما يبرح. يقال: رامه يريمه ريما أي: برحه. ويقال: لا ترمه أي: لا تبرحه، قال ابن طريف: ما رامني ولا يريمني لم يبرح عني، ولا يقال إلا منفيا، قال الأعشى يحكي قول بنت له:


                                                                                                                                                                                                                              أيا أبتا لا ترم عندنا ... فإنا بخير إذا لم ترم

                                                                                                                                                                                                                              وحمص غير مصروفة; لأنها عجمية علم مؤنثة كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              الحادي بعد الخمسين: قوله: (يا معشر الروم) قال أهل اللغة: هم الجمع الذين شأنهم واحد فالإنس معشر، والجن معشر، والأنبياء معشر، والفقهاء معشر، والجمع معاشر.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني بعد الخمسين: قوله: (هل لكم في الفلاح والرشد) أما الفلاح فهو الفوز والبقاء والنجاة، وأما الرشد فبضم الراء وإسكان الشين، وبفتحهما أيضا لغتان وهو خلاف الغي، قال أهل اللغة: هو إصابة الخير.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الهروي: هو الهدى والاستقامة وهو بمعناه يقال: رشد يرشد ورشد يرشد لغتان، والرشد كالرشد وهما مصدران.

                                                                                                                                                                                                                              الثالث بعد الخمسين: قوله: (فتتابعوا هذا النبي؟) هو بمثناة فوق، ثم أخرى مثلها كذا هو في أكثر الأصول من المتابعة وهي: الاقتداء، وفي بعضها فنتابع وهو بمعناه، وفي بعضها فتبايعوا بالباء الموحدة من البيعة، وكله صحيح.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 412 ] الرابع بعد الخمسين: قوله: (فحاصوا حيصة حمر الوحش) هو بالحاء والصاد المهملتين أي: نفروا وكروا راجعين، حاص يحيص: نفر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الفارسي في "مجمع الغرائب": هو الروغان والعدول عن طريق القصد.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي: يقال: حاص وجاض بمعنى واحد بالجيم والضاد المعجمة. وكذا قال أبو عبيد وغيره، قالوا: ومعناه: عدل عن الطريق. وقال أبو زيد: معناه بالحاء رجع وبالجيم عدل.

                                                                                                                                                                                                                              الخامس بعد الخمسين: قوله: (إني قلت مقالتي آنفا) أي: قريبا أو بعجلة أو في أول وقت كنا فيه أو الساعة، وكله بمعنى، وهو بالمد والقصر، والمد أشهر، وبه قرأ جمهور القراء السبعة، وروى البزي عن ابن كثير القصر، قال المهدي: المد هو المعروف.

                                                                                                                                                                                                                              السادس بعد الخمسين: معنى رواية مسلم التي أسلفناها عن رواية صالح: (مشى يعني: قيصر من حمص إلى إيلياء شكرا لما أبلاه الله تعالى)، أي: شكرا لما من الله عليه وأنعم. والبلاء لفظ مشترك يقال في الخير والشر; لأن أصله الاختبار، قال تعالى وبلوناهم بالحسنات [الأعراف: 168] وأكثر استعماله في الخير مقيدا وأما في الشر فقد يطلق.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 413 ] الوجه العاشر: في فوائده:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: خبر الجماعة أوقع من خبر الواحد ولا سيما إذا كانوا جمعا يقع العلم بخبرهم، وهذه مأخوذة من قوله: (وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره).

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: تقديم صاحب الحسب في أمور المسلمين ومهمات الدين والدنيا، ولذلك جعلت الخلفاء من قريش; لأنهم أحوط من أن يدنسوا أحسابهم، وقد قال الحسن البصري: حدثوا عن الأشراف; فإنهم لا يرضون أن يدنسوا شرفهم بالكذب ولا بالخيانة.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: استدلال هرقل من كونه ذا حسب ليس بدليل قاطع على (النبوة)، وإنما القاطع المعجز الخارق للعادة المعدوم فيها المعارضة. قاله المازري، قال: ولعل هرقل كان عنده علم بكونها علامات هذا النبي، وقد قال فيه: وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم، وقطع ابن بطال بهذا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال: إخبار هرقل وسؤاله عن كل (فصل) إنما كان عن الكتب القديمة وإنما ذلك كله نعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وجزم به النووي في "شرحه" فقال: هذا الذي قاله هرقل أخذه من الكتب القديمة، ففي التوراة هذا أو نحوه من أعلام نبوته.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 414 ] الرابعة: جواز مكاتبة الكفار، وقد كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعة من الملوك فيما قاله الداودي: هرقل، وكسرى، والنجاشي، والمقوقس، وملك غسان، وهوذة بن علي، والمنذر بن ساوى.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن هشام: حدثني من أثق به عن أبي بكر الهذلي قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب ذات يوم بعد عمرته التي صد عنها يوم الحديبية فقال: "أيها الناس، إن الله بعثني رحمة وكافة، فلا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم" فقال أصحابه: وكيف اختلفوا؟ فقال: "دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه إليه مبعثا قريبا فرضي وسلم، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل; فشكا ذلك عيسى -عليه السلام- إلى الله سبحانه وتعالى، فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها" فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلا من أصحابه، وبعث معهم كتبا إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام، بعث دحية إلى قيصر ملك الروم، وبعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك فارس، وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة، وبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك الإسكندرية، وبعث عمرو بن العاص السهمي إلى ابني الجلندى الأزديين ملكي عمان، وبعث سليط بن عمرو إلى ثمامة بن أثال وهوذة بن علي ملكي اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين، وبعث شجاعا الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام، وبعث شجاع بن وهب إلى جبلة بن الأيهم، وبعث المهاجر بن [ ص: 415 ] أبي أمية المخزومي إلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن.

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست أرسل الرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام فقيل له: إن الملوك لا يقرءون كتابا إلا مختوما، وفيه: فاتخذ خاتما من فضة، وختم به الكتب، فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد، فكان أول رسول بعثه عمرو بن أمية إلى النجاشي. وفيه: فأخذ كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعه على عينيه ونزل عن سريره تواضعا، ثم أسلم وشهد شهادة الحق، وكتب له كتابا آخر يأمره أن يزوجه أم حبيبة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "صحيح مسلم" أنه - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وظاهر هذا أنه نجاشي آخر، فالنجاشي لقب لكل من ملك الحبشة كما مر.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: استحباب تصدير الكتب بالبسملة، وإن كان المبعوث إليه كافرا، وقد قال الشعبي فيما ذكره ابن سعد: كان - صلى الله عليه وسلم - يكتب كما تكتب قريش: "باسمك اللهم"، حتى نزلت: بسم الله مجراها [هود: 41]، فكتب: "بسم الله". حتى نزلت: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن [الإسراء: 110]، فكتب: "بسم الله الرحمن". حتى نزلت: وإنه بسم الله الرحمن الرحيم [النمل: 30] فكتبها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 416 ] السادسة: أن المراد بحمد الله في الحديث السابق أول الكتاب: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع" كما ورد في تلك الرواية الأخرى السالفة، وروي: بـ "بسم الله" كما سلف أيضا، وهذا الكتاب كان ذا بال، بل من المهمات ولم يبدأ فيه - صلى الله عليه وسلم - بلفظ الحمد وبدأ بالبسملة.

                                                                                                                                                                                                                              السابعة: أن السنة في المكاتبات والرسائل بين الناس أن يبدأ الكاتب بنفسه فيقول: من فلان إلى فلان. وهو قول الأكثر كما حكاه الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه: "صناعة الكتاب".

                                                                                                                                                                                                                              وروي أن هرقل لما أخرج الكتاب فرأى أخو هرقل أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بنفسه أخذ الكتاب ليمزقه، فأخذه هرقل وقال: أنت أحمق صغيرا، أحمق كبيرا.

                                                                                                                                                                                                                              وروى البزار من حديث عبد الله بن شداد بن الهاد عن دحية أنه لما أعطى الكتاب إلى قيصر كان عنده ابن أخ له أحمر أزرق سبط الرأس فلما قرأ الكتاب نخر ابن أخيه نخرة وقال: لا يقرأ اليوم. فقال له قيصر: لم؟ قال: إنه بدأ بنفسه وكتب صاحب الروم ولم يكتب ملك الروم فقال (له) قيصر: لنقرأنه وذكر الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 417 ] وروى النحاس فيه أحاديث وآثارا كثيرة، منها: حديث العلاء بن الحضرمي الذي في أبي داود: وكان عاملا على البحرين، فكان إذا كتب إليه بدأ بنفسه. وفي لفظ: بدأ باسمه.

                                                                                                                                                                                                                              (ومنها) : أن ابن عمر كان يقول لغلمانه وأولاده: إذا كتبتم إلي فلا تبدءوا بي. وكان إذا كتب إلى الأمراء بدأ بنفسه، وعن الربيع بن أنس قال: ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أصحابه يكتبون إليه فيبدءون بأنفسهم.

                                                                                                                                                                                                                              وقال حماد بن زيد: كان الناس يكتبون: من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان، أما بعد. قال النحاس: وهو إجماع الصحابة. قال: وسواء في هذا تصدير الكتاب والعنوان.

                                                                                                                                                                                                                              وقال غيره: كره جماعة من السلف خلافه، ورخص جماعة من العلماء في أن يبدأ بالمكتوب إليه فيقول في التصدير والعنوان: (إلى فلان أو إلى فلان بن فلان).

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 418 ] ثم روى بإسناده أن زيد بن ثابت كتب إلى معاوية فبدأ باسم معاوية.

                                                                                                                                                                                                                              وعن محمد بن الحنفية أنه لا بأس بذلك.

                                                                                                                                                                                                                              وعن بكر بن عبد الله وأيوب السختياني مثله.

                                                                                                                                                                                                                              قال: وأما العنوان فالصواب أن يكتب عليه: إلى فلان. ولا يكتب: لفلان; لأنه إليه لا له إلا على مجاز، هذا هو الصواب الذي عليه أكثر العلماء من الصحابة والتابعين. ثم روى بإسناده عن ابن عمر قال: يكتب الرجل: من فلان بن فلان، ولا يكتب: لفلان.

                                                                                                                                                                                                                              وعن إبراهيم النخعي، قال: كانوا يكرهون أن يكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم لفلان بن فلان. وكانوا يكرهونه في العنوان.

                                                                                                                                                                                                                              قال النحاس: ولا أعلم أحدا من المتقدمين رخص في أن يكتب: لأبي فلان. في عنوان ولا غيره.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: وأغرب بعضهم فقال: يقدم الأب، ولا يبدأ ولد باسمه على والده، والكبير السن كذلك، ويرده حديث العلاء السالف، فإنه بدأ فيه بنفسه وحقه أعظم من حق الوالد وغيره.

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة: التوقي في الكتابة واستعمال الورع فيها فلا يفرط (ولا يفرط) ; وجه ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - (كتب) : "إلى هرقل عظيم الروم" فلم يقل: ملك الروم. لأنه لا ملك له ولا لغيره بحكم دين الإسلام، ولا سلطان لأحد إلا لمن ولاه الشارع أو نائبه فيه بشرطه، وإنما ينفذ بأحكامهم ما ينفذه للضرورة، ولم يقل: إلى هرقل فقط، بل أتى بنوع من الملاطفة (فقال: "عظيم الروم" أي: الذي تعظمه [ ص: 419 ] الروم وتقدمه، وقد أمر الله تعالى) بإلانة القول لمن يدعى (إلى) الإسلام حيث قال: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [النحل: 125]، وقال تعالى فقولا له قولا لينا [طه: 44] وغير ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة: جواز معاملة الكفار بالدراهم المنقوش فيها اسم الله للضرورة وإن كان عن مالك الكراهة; لأن ما في هذا الكتاب أكثر مما في هذا المنقوش من ذكر الله، نبه عليه القاضي، ونقل ابن بطال عن العلماء عدم تمكينهم من الدراهم التي فيها ذكر الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              العاشرة: وجوب العمل بخبر الواحد، وإلا فلم يكن في بعثه مع دحية فائدة، وهذا إجماع من يعتد به، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- (مبسوطا حيث ذكره البخاري في أواخر "صحيحه" إن شاء الله) وقدر الوصول إليه، اللهم أعن عليه.

                                                                                                                                                                                                                              الحادية عشرة: منع ابتداء الكافر من السلام; فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "سلام على من اتبع الهدى" ولم يسلم عليه، وهو مذهب الشافعي وأكثر [ ص: 420 ] العلماء، وأجازه جماعة مطلقا.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه قول ثالث: جوازه للائتلاف أو لحاجة، والصواب الأول; فإنه صح النهي عنه، ومنه: "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام" كما سيأتي في موضعه -إن شاء الله- قال البخاري (وغيره) : ولا يسلم على المبتدع ولا على من اقترف ذنبا عظيما ولم يتب منه، فلا يرد عليهم السلام، واحتج البخاري بحديث كعب بن مالك، وفيه: فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 421 ] الثانية عشرة: استعمال أما بعد في الخطب والمكاتبات.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة عشرة: دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم، وهذا مأمور به، فإن لم تكن بلغتهم الدعوة كان الأمر به واجبا، وإن كانت بلغتهم كان مستحبا، فلو قوتل هؤلاء قبل إنذارهم ودعائهم إلى الإسلام جاز لكن فاتت السنة والفضيلة، بخلاف الضرب الأول.

                                                                                                                                                                                                                              هذا مذهب الشافعي، وفيه خلاف للسلف سيأتي إن شاء الله في موضعه، وحاصله ثلاثة مذاهب حكاها المازري ثم القاضي، أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              يجب الإنذار مطلقا قاله مالك وغيره.

                                                                                                                                                                                                                              وثانيها: لا يجب مطلقا.

                                                                                                                                                                                                                              وثالثها: التفصيل السالف. وبه قال نافع والحسن والثوري والليث والشافعي وابن المنذر، وهو الصحيح، وبه قال أكثر العلماء.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة عشرة: جواز المسافرة إلى أرض الكفار.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة عشرة: جواز البعث إليهم بالآية من القرآن ونحوها، والنهي عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو محمول على المسافرة بكله أو جملة منه، وعلى ما إذا خيف وقوعه في أيدي الكفار كما [ ص: 422 ] سيأتي -إن شاء الله تعالى- إيضاحه في موضعه، وأبعد ابن بطال فقال: كان ذلك في أول الإسلام ولم يكن (بد) من الدعوة العامة.

                                                                                                                                                                                                                              السادسة عشرة: استدل أصحابنا به على جواز مس المحدث والكافر كتابا فيه آية أو آيات يسيرة من القرآن مع غير القرآن.

                                                                                                                                                                                                                              السابعة عشرة: استحباب البلاغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة; فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أسلم تسلم" في نهاية الاختصار وغاية الإيجاز والبلاغة وجميع المعاني مع ما فيه من بديع التجنيس كقوله تعالى: وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين [النمل: 44] فإنه جمع بقوله: "تسلم" نجاة الدنيا من الحرب والخزي بالجزية، وفي الآخرة من العذاب.

                                                                                                                                                                                                                              ومثله من الكلام المعدود في فصاحته - صلى الله عليه وسلم - كثير: كقوله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم".

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: "الناس كأسنان المشط".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 423 ] و"المرء مع من أحب".

                                                                                                                                                                                                                              و"الناس معادن".

                                                                                                                                                                                                                              و"ما هلك أمرؤ عرف قدره".

                                                                                                                                                                                                                              و"المستشار مؤتمن".

                                                                                                                                                                                                                              و"ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها".

                                                                                                                                                                                                                              ونهيه عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال، وشبهه مما لا ينحصر عدا.

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة عشرة: أن من أدرك من أهل الكتاب نبينا - صلى الله عليه وسلم - فآمن به له أجران كما صرح به هنا، وفي الحديث الآخر في "الصحيح" كما سيأتي: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين" منهم (مؤمن) أهل الكتاب [ ص: 424 ] (من) آمن بنبيه ونبينا واتبعه وصدق به.

                                                                                                                                                                                                                              التاسعة عشرة: البيان الواضح أن صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلاماته كان معلوما (لأهل) الكتاب علما قطعيا، وإنما ترك الإيمان من تركه منهم عنادا وحسدا وخوفا على فوات مناصبهم في الدنيا.

                                                                                                                                                                                                                              العشرون: أن من كان سببا لضلالة أو منع هداية كان آثما لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين" وفي هذا المعنى قوله تعالى: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم [العنكبوت: 13].

                                                                                                                                                                                                                              تتمات:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: فيه أيضا أن الكذب مهجور وعيب في كل أمة.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: أن العدو لا يؤمن أن يكذب على عدوه وقد سلف.

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة: أن الرسل لا ترسل إلا من أكرم الأنساب; لأن من شرف نسبه كان أبعد له من الانتحال لغير الحق، ومثله الخليفة ينبغي أن يكون من أشرف قومه.

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة: أن الإمام وكل من حاول مطلبا عظيما إذا لم يتأس بأحد يقدمه من أهله ولا طلب رئاسة سلفه، كان أبعد للظنة وأبرأ للساحة.

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة: أن من اخبر بحديث وهو معروف بالصدق قبل منه بخلاف ضده.

                                                                                                                                                                                                                              خاتمة: لا عتب على البخاري في إدخاله أحاديث أهل الكتاب في "صحيحه" كهرقل وغيره ولا في ذكر قوله: (وكان حزاء ينظر في النجوم); لأنه إنما أخبر أنه كان في الإنجيل ذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان من [ ص: 425 ] يتعلق بالنجامة قبل الإسلام ينذر بنبوته; لأن علم النجوم كان مباحا ذلك الوقت فلما جاء الإسلام منع منه فلا يجوز لأحد اليوم أن يقضي بشيء منه، وكان علم النجوم قبل الإسلام على (التظنين) يصيب مرة ويخطئ كثيرا، فاشتغالهم بما فيه الخطأ الغالب ضلال، فبعث الله نبيه بالوحي الصحيح ونسخ ذلك العناء الذي كانوا فيه من أمر النجوم.

                                                                                                                                                                                                                              وقال: "نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب"، ونصب الله الأهلة مواقيت للناس في (صيامهم) وآجال ديونهم (وحجهم ونجوم) كتابتهم وأوقات بلوغهم، ونصب أوقات الصلوات ظاهرة لم تحتج إلى حساب وغيره مع أنه لو وقف ذلك على ظن (وحساب) لأدى إلى الصدق مرة وللكذب أخرى ويقبح في الشريعة ذلك، فإن الذي يشبه الصواب منه إنما هو اتفاقيات ثم لو أمكن فيه الصدق لكان فيه مفاسد جمة فإنه إذا نجم وظن أنه يعيش مائة سنة مثلا لربما سوف بالتوبة وانهمك على المعاصي، أو أنه يعيش أقل، تنكد عليه عيشه وانفسد النظام، فلله الحمد على الهداية إلى الصراط الأقوم.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية