الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  167 34 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، قال: أخبرنا مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحانت صلاة العصر فالتمس [ ص: 33 ] الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الإناء يده، وأمر الناس أن يتوضئوا منه قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه حتى توضئوا من عند آخرهم.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وجه مطابقته للترجمة ما ذكرناه.

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم أربعة قد ذكروا كلهم وهو من رباعيات البخاري، وأبو طلحة اسمه زيد بن سهل الأنصاري.

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ومنها أن رواته ما بين تنيسي ومدني وبصري، فعبد الله بن يوسف شامي نزل تنيس بلدة بساحل البحر الملح بالقرب من دمياط واليوم خراب ومالك بن أنس وإسحاق مدنيان، وأنس بن مالك يعد من أهل البصرة، ومنها أن إسناده قريب إلى النبي عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري أيضا في علامات النبوة، عن القعنبي، وأخرجه مسلم في الفضائل، عن إسحاق بن موسى الأنصاري، عن معن وعن أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، عن ابن وهب، وأخرجه الترمذي في المناقب عن إسحاق بن موسى، عن معن، وأخرجه النسائي في الطهارة عن قتيبة خمستهم عنه به، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لغاته وإعرابه ) قوله: حانت بالحاء المهملة أي قرب وقت صلاة العصر، وزاد قتادة وهو بالزوراء وهو سوق بالمدينة. قوله: فالتمس الناس الالتماس الطلب. قوله: الوضوء بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به وكذا قوله: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء بالفتح.

                                                                                                                                                                                  قوله: ينبع فيه ثلاث لغات ضم الباء الموحدة وكسرها وفتحها، ومعناه يخرج مثل ما يخرج من العين. قوله: من بين أصابعه جمع أصبع فيه لغات إصبع بكسر الهمزة وضمها والباء مفتوحة فيهما، ولك أن تتبع الضمة الضمة والكسرة الكسرة.

                                                                                                                                                                                  وأما الإعراب فقوله: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى أبصرت، فلذلك اقتصر على مفعول واحد. قوله: وحانت الواو فيه للحال والتقدير والحال أنه قد حانت صلاة العصر.

                                                                                                                                                                                  قوله: فلم يجدوه بالضمير المنصوب رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره: فلم يجدوا بدون الضمير وهو من الوجدان بمعنى الإصابة. قوله: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحيح من الرواية: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيغة المجهول. قوله: في ذلك الإناء متعلق بقوله: فوضع و"يده" منصوب به قوله: أن يتوضئوا أي بأن يتوضئوا وأن مصدرية أي: بالتوضؤ منه أي من ذلك الإناء.

                                                                                                                                                                                  قوله: قال الضمير فيه يرجع إلى أنس رضي الله تعالى عنه. قوله: ينبع جملة من الفعل والفاعل وهو الضمير الذي هو فيه الذي يرجع إلى الماء، وهي في محل النصب على الحال، وقد علم أن الجملة الفعلية إذا وقعت حالا تأتي بلا واو إذا كان فعلها مضارعا، فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون مفعولا ثانيا لرأيت؟ قلت: قد قلت لك: إن رأيت هنا بمعنى أبصرت فلا تقتضي إلا مفعولا واحدا. قوله: حتى توضئوا قال الكرماني : حتى للتدريج، ومن للبيان أي: توضأ الناس حتى توضأ الذين من عند آخرهم وهو كناية عن جميعهم ، ثم نقل عن النووي أن من في من عند آخرهم بمعنى إلى وهي لغة .

                                                                                                                                                                                  ثم قال: أقول: ورود من بمعنى إلى شاذ قل ما يقع في فصيح الكلام، قلت: حتى هاهنا حرف ابتداء يعني حرف يبتدأ بعده جملة أي تستأنف فتكون اسمية أو فعلية والفعلية يكون فعلها ماضيا ومضارعا، ومثال الاسمية قول جرير:


                                                                                                                                                                                  فما زالت القتلى تمج دماءها بدجلة حتى ماء دجلة أشكل



                                                                                                                                                                                  ومثال الفعلية التي فعلها ماض ( حتى عفوا ) ، وحتى توضئوا، ومثال الفعلية التي فعلها مضارع حتى يقول الرسول في قراءة نافع. قوله: من للبيان قلت: إنما تكون من للبيان إذا كان فيما قبلها إبهام ولا إبهام هاهنا; لأن التقدير وأمر الناس أن يتوضئوا فتوضئوا حتى توضأ من عند آخرهم، على أن من التي للبيان كثيرا ما تقع بعد ما ومهما لإفراط إبهامهما نحو ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها ومهما تأتنا به من آية ، ومع هذا أنكر قوم مجيء من لبيان الجنس، والظاهر أن من هاهنا للغاية، والمعنى توضأ الناس ابتداء من أولهم حتى انتهوا إلى آخرهم، على أن من تأتي على خمسة عشر وجها ، [ ص: 34 ] والغالب عليها أن تكون للغاية حتى ادعى قوم أن سائر معانيها راجعة إليها، ولم أجد في هذه المعاني الخمسة عشر مجيء من بمعنى إلى، وادعى الكرماني أنها لغة قوم ولم يبين ذلك ، ثم ادعى أنه شاذ قلت: إن استعمل بمعنى إلى في كون كل منهما للغاية; لأن من لابتداء الغاية وإلى لانتهاء الغاية يجوز ذلك; لأن الحروف ينوب بعضها عن بعض، والمراد بالغاية في قولهم ابتداء الغاية وانتهاء الغاية جميع المسافة; إذ لا معنى لابتداء الغاية وانتهاء الغاية فيكون معنى الحديث حتى توضئوا وانتهوا إلى آخرهم، ولم يبق منهم أحد والشخص هو آخرهم داخل في هذا الحكم; لأن السياق يقتضي العموم والمبالغة.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : عند ظرف خاص واسم للحضور الحسي فالعموم من أين يأتي؟ قلت: عند هنا تجعل لمطلق الظرفية حتى تكون بمعنى في كأنه قال: حتى توضأ الذين هم في آخرهم وأنس رضي الله تعالى عنه داخل في عموم لفظ الناس، ولكن الأصوليين اختلفوا في أن المخاطب بكسر الطاء داخل في عموم متعلق خطابه أمرا أو نهيا أو خبرا أم غير داخل، والجمهور على أنه داخل.

                                                                                                                                                                                  ( بيان المعاني ) قوله: فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء وفي بعض الروايات "فأتي بقدح رحراح" وفي بعضها "زجاج" وفي بعضها "جفنة" وفي بعضها "ميضأة" وفي بعضها "مزادة" وفي رواية ابن المبارك "فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح من ماء يسير". وروى المهلب أنه كان مقدار وضوء رجل واحد.

                                                                                                                                                                                  قوله: وأمر الناس وكانوا خمس عشرة ومائة وفي بعض الروايات ثمانمائة وفي بعضها زهاء ثلاثمائة وفي بعضها ثمانين وفي بعضها سبعين قوله: ينبع من تحت أصابعه وفي بعض الروايات يفور من بين أصابعه وفي بعضها يتفجر من أصابعه كأمثال العيون وفي بعضها سكب ماء في ركوة، ووضع إصبعه وبسطها وغسلها في الماء وهذه المعجزة أعظم من تفجر الحجر بالماء.

                                                                                                                                                                                  وقال المزني: نبع الماء من بين أصابعه أعظم مما أوتيه موسى عليه الصلاة والسلام حين ضرب بعصاه الحجر في الأرض; لأن الماء معهود أن يتفجر من الحجارة، وليس بمعهود أن يتفجر من بين الأصابع، وقال غيره: وأما من لحم ودم فلم يعهد من غيره صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                  وقال القاضي عياض : وهذه القضية رواها الثقات من العدد الكثير، عن الجم الغفير، عن الكافة متصلا عمن حدث بها من جملة الصحابة، وأخبارهم أن ذلك كان في مواطن اجتماع الكثير منهم من محافل المسلمين ومجمع العساكر، ولم يرو واحد من الصحابة مخالفة للراوي فيما رواه، ولا إنكارا عما ذكر عنهم أنهم رأوه كما رآه فسكوت الساكت منهم كنطق الناطق منهم; إذ هم المنزهون عن السكوت على الباطل والمداهنة في كذب، وليس هناك رغبة ولا رهبة تمنعهم فهذا النوع كله ملحق بالقطعي من معجزاته عليه الصلاة والسلام، وفيه رد على ابن بطال حيث قال في شرحه: هذا الحديث شهده جماعة كثيرة من الصحابة إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس رضي الله تعالى عنه، وذلك والله تعالى أعلم لطول عمره ويطلب الناس العلو في السند.

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) الأول فيه عدم وجوب طلب الماء للتطهر قبل دخول الوقت; لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر عليهم التأخير، فدل على الجواز، وذكر ابن بطال أن إجماع الأمة على أنه إن توضأ قبل الوقت فحسن، ولا يجوز التيمم عند أهل الحجاز قبل دخول الوقت وأجازه العراقيون.

                                                                                                                                                                                  الثاني أن فيه دليلا على وجوب المواساة عند الضرورة لمن كان في مائه فضل عن وضوئه.

                                                                                                                                                                                  الثالث فيه دليل على أن الصلاة لا تجب إلا بدخول الوقت.

                                                                                                                                                                                  الرابع يستحب التماس الماء لمن كان على غير طهارة، وعند دخول الوقت يجب.

                                                                                                                                                                                  الخامس فيه رد على من ينكر المعجزة من الملاحدة.

                                                                                                                                                                                  السادس استنبط المهلب منه أن الأملاك ترتفع عند الضرورة; لأنه لما أتي رسول الله عليه الصلاة والسلام بالماء لم يكن أحد أحق به من غيره، بل كانوا فيه سواء، ونوقش فيه، وإنما تجب المواساة عند الضرورة لمن كان في مائه فضل عن وضوئه.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية