الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  1289 110 - حدثنا عبدان قال : أخبرنا عبد الله ، عن يونس ، عن الزهري قال : أخبرني سالم بن عبد الله أن ابن عمر رضي الله عنهما أخبره أن عمر انطلق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رهط قبل ابن صياد حتى وجدوه يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة ، وقد قارب ابن صياد الحلم ، فلم يشعر حتى ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده ، ثم قال لابن صياد : " تشهد أني رسول الله ؟ " فنظر إليه ابن صياد فقال : أشهد أنك رسول الأميين ، فقال ابن صياد للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أتشهد أني رسول الله ؟ فرفضه وقال : آمنت بالله وبرسله فقال له : ماذا ترى ؟ فقال ابن صياد : يأتيني صادق وكاذب ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " خلط عليك الأمر " ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إني قد خبأت لك خبيئا " فقال ابن صياد : هو الدخ ؟ فقال : " اخسأ فلن تعدو قدرك " فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنقه ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن يكنه فلن تسلط عليه ، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله " .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " تشهد أني رسول الله " فإن فيه عرض الإسلام على الصبي ، ويفهم منه أيضا أنه لو لم يصح إسلام الصبي لما عرض عليه الصلاة والسلام على ابن صياد وهو غير مدرك ، فطابق الحديث جزئي الترجمة كليهما .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله )

                                                                                                                                                                                  وهم ستة : الأول : عبدان وهو لقب عبد الله بن عثمان وقد مر في الباب السابق ، الثاني : عبد الله بن المبارك ، الثالث : يونس [ ص: 170 ] ابن يزيد ، الرابع : محمد بن مسلم الزهري ، الخامس : سالم بن عبد الله بن عمر ، السادس : عبد الله بن عمر بن الخطاب .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده )

                                                                                                                                                                                  فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد والإخبار كذلك في موضع وبلفظ الإفراد في موضعين ، وفيه العنعنة في موضعين ، وفيه القول في موضع ، وفيه أن شيخه مذكور بلقبه ، وأنه وشيخه عبد الله مروزيان ، ويونس أيلي ، والزهري وسالم مدنيان ، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره )

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في بدء الخلق وأحاديث الأنبياء عن عبدان مقطعا ، وأخرجه مسلم في الفتن عن حرملة ، عن ابن وهب عنه به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه )

                                                                                                                                                                                  قوله : ( في رهط ) قال أبو زيد : الرهط ما دون العشرة من الرجال ، وفي العين : هو عدد جمع من ثلاثة إلى عشرة ، وبعض يقول من سبعة إلى عشرة ، وما دون السبعة إلى ثلاثة نفر ، وعن ثعلب : الرهط للأب الأدنى ، وقال سيبويه : قالوا : رهط وأراهط كأنهم كسروا أرهط ، وقال كراع : جاءنا أرهوط منهم مثل أركوب والجمع أراهيط وأراهط ، وفي ( المحكم ) : أراهط جمع أرهط ، والرهط لا واحد له من لفظه ، وفي الجامع : الرهط ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وربما جاوزوا ذلك ، وأراهط جمع الجمع ، وفي ( الصحاح ) : أرهط الرجل قومه وقبيلته ، والرهط ما دون العشرة من الرجال ولا يكون فيهم امرأة ، والجمع أرهاط ، وفي الجمهرة : ربما جمع رهط فقالوا أرهط ، قوله : ( قبل ابن صياد ) بكسر القاف وفتح الباء الموحدة أي جهته ، ويروى ابن صائد ، وقال ابن الجوزي : إن ابن الصياد يقال له ابن الصائد وابن صائد ، واسمه صافي كقاضي وقيل عبد الله ، وقال الواقدي : هو من بني النجار ، وقيل من اليهود وكانوا حلفاء بني النجار ، وابنه عمارة شيخ مالك من خيار المسلمين ، ولما دفعه بنو النجار عن نسبهم خلف منهم تسعة وأربعون رجلا ورجل من بني ساعدة على دفعه ، والصياد على وزن فعال بالتشديد مبالغة صائد ، قوله : ( حتى وجدوه ) ويروى ( حتى وجده ) بإفراد الفعل ففي الأول يرجع الضمير المرفوع إلى الرسول ومن معه من الرهط ، وفي الثاني إلى الرسول وحده والضمير المنصوب يرجع إلى ابن الصياد ، قوله : ( يلعب ) جملة في محل النصب على الحال ، قوله : ( عند أطم ) بضم الهمزة والطاء كالحصن ، وقيل هو بناء بالحجارة كالحصن ، وقيل هو الحصن وجمعه آطام ، قوله : ( بني مغالة ) بفتح الميم وبالغين المعجمة المخففة بطن من الأنصار ، وقوله ( أطم بني مغالة ) كذا هو الصحيح ، وفي صحيح مسلم رواية الحلواني بني معاوية ذكر الزبير بن أبي بكر أن كل ما كان عن يمينك إذا وقعت آخر البلاط مستقبل مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو لبني مغالة ، ومسجده صلى الله عليه وسلم في بني مغالة ، وما كان على يسارك فلبني جديلة ، وهي امرأة نسبوا إليها وهي امرأة عدي بن عمرو بن مالك بن النجار ، قوله : ( الحلم ) بضم اللام وسكونها وهو البلوغ ، قوله : ( الأميين ) قال الرشاطي : الأميون مشركو العرب نسبوا إلى ما عليه أمة العرب وكانوا لا يكتبون ، وقيل : الأمية هي التي على أصل ولادات أمهاتها ولم تتعلم الكتابة ، وقيل : نسبة إلى أم القرى ، قوله : ( فرفضه ) كذا هو بالضاد المعجمة أي تركه ، وزعم عياض أنه بصاد مهملة ، قال : وهي روايتنا عن الجماعة ، وقال بعضهم : الرفص بالصاد المهملة الضرب بالرجل مثل الرفس بالسين المهملة ، فإن صح هذا فهو بمعناه قال : ولكن لم أجد هذه اللفظة في أصول اللغة ، ووقع في رواية القاضي التميمي : فرضه بضاد معجمة وهو وهم ، وفي رواية المروزي فوقصه بقاف وصاد مهملة قال : ولا وجه له ، وعند الخطابي : فرصه بصاد مهملة أي ضغطه حتى ضم بعضه إلى بعض ، ومنه قوله تعالى : ( بنيان مرصوص ) ، قوله : ( آمنت بالله وبرسله ) قال الكرماني : ( فإن قلت ) : كيف طابق هذا الجواب أتشهد ؟ ( قلت ) : لما أراد أن يلزمه ويظهر للقوم كذبه في دعوى الرسالة أخرج الكلام مخرج كلام المنصف ، ومعنى آمنت برسله : فإن كنت رسولا صادقا في دعواك غير ملبس عليك الأمر أومن بك ، وإن كنت كاذبا وخلط الأمر عليك فلا ، لكنك خلط الأمر عليك فاخسأ ولا تعد طورك حتى تدعي الرسالة ، انتهى . وفيه نظر لا يخفى قوله خلط عليك الأمر : معناه خلط عليك شيطانك ما يلقى إليك من السمع مع ما يكذب ، قوله : ( خبأت لك خبيئا ) على وزن فعيل ، ويروى ( خبأت لك خبئا ) على وزن فعل ، وكلاهما صحيح بمعنى الشيء الغائب المستور أي أضمرت لك سورة الدخان ، واختلف في هذا المخبأ ما هو ؟ فقال القرطبي : الأكثر على أنه أضمر له في نفسه يوم تأتي السماء بدخان مبين قال الداودي : كان في يده سورة الدخان [ ص: 171 ] مكتوبة ، وقال الخطابي : لا معنى للدخان هنا لأنه ليس مما يخبأ في كف أو كم ، بل الدخ نبت موجود بين النخيل والبساتين ، وقالأبو موسى المديني في كتابه المغيث : وقيل : إن الدجال يقتله عيسى عليه الصلاة والسلام بجبل الدخان ، فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أراده انتهى ، وقال صاحب ( التلويح ) : وفيه نظر من حيث أنا وجدنا ما قاله تخرصا مسندا إلى سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طريق صحيحة ، قال أحمد في مسنده : حدثنا محمد بن سابق ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن أبي الزبير ، عن جابر فذكره مرفوعا مطولا ، قوله : ( هو الدخ ) قال أبو موسى : بضم الدال وفتحها لغتان ، وقال الكرماني : بضم الدال وتشديد الخاء الدخان وهو لغة فيه ، وقال النووي : المشهور في كتب اللغة والحديث ضمها فقط ، واعترض عليه بأن ابن سيده وأبا التياني وأبا المعالي وصاحب مجمع الغرائب حكوا الفتح حاشا الجوهري فإنه نص على الضم ولم يذكر غيره ، ورد عليه بأن حكاية هؤلاء الفتح لا يستلزم نفي الضم ، كما أن ذكر الجوهري الضم لا يستلزم نفي الفتح ، وقال القرطبي : وجدته في كتاب الشيخ الدخ ساكن الخاء مصححا عليه وكأنه على الوقف قال : وأما الذي في الشعر فمشدد الخاء ، وكذلك قراءته في الحديث ، وقال ابن قرقول : الدخ لغة في الدخان لم يستطع ابن صياد أن يتم الكلمة ولم يهتد من الآية الكريمة إلا لهذين الحرفين على عادة الكهان من اختطاف بعض الكلمات من أوليائهم من الجن أو من هواجس النفس ، ولهذا قال له : " اخسأ فلن تعدو قدرك " أي لست بنبي ولن تجاوز قدرك ، وإنما أنت كاهن فلن تجاوز يعني قدر الكهان ، قوله : ( اخسأ ) في الأصل لفظ يزجر به الكلب ويطرد من خسأت الكلب خسأ طردته وخسأ الكلب نفسه يتعدى ولا يتعدى ، واخسأ أيضا ، وهو خطاب زجر واستهانة أي اسكت صاغرا مطرودا ، قوله : ( فلن تعدو ) بالنصب بكلمة لن ، وقال السفاقسي : وقع هنا فلن تعدو بغير واو ، وقال القزاز : هي لغة لبعض العرب يجزمون بلن مثل لم ، وقال ابن مالك : الجزم بلن لغة حكاها الكسائي ، وقيل : حذفت الواو تخفيفا ، وقيل : لن بمعنى لا أو لم بالتأويل ، وقال ابن الجوزي : يعني لا يبلغ قدرك أن تطالع بالغيب من قبل الوحي المخصوص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولا من قبيل الإلهام الذي يدركه الصالحون ، وإنما كان الذي قاله من شيء ألقاه الشيطان إليه إما لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بذلك بينه وبين نفسه فسمعه الشيطان ، وإما أن يكون الشيطان سمع ما يجري بينهما من السماء ; لأنه إذا قضي القضاء في السماء تكلمت به الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، فاسترق الشيطان السمع ، وإما أن يكون رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - حدث بعض أصحابه بما أضمر ، ويدل على ذلك قول عمر رضي الله تعالى عنه : وخبأ له رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - يوم تأتي السماء بدخان مبين فالظاهر أنه أعلم الصحابة بما يخبأ له ، وإنما فعل ذلك به صلى الله عليه وسلم ليختبره عن طريقة الكهان ، وليتعين للصحابة حاله وكذبه ، قوله : ( أن يكنه ) هذا الضمير المتصل في يكنه هو خبرها وقد وضع موضع المنفصل ، واسم يكن مستتر فيه ، ويروى إن يكن هو هو الصحيح لأن المختار في خبر كان هو الانفصال ، وعلى تقدير هذه الرواية لفظ هو تأكيد للضمير المستتر ، وكان تامة أو وضع هو موضع إياه أي إن يكن إياه أي الدجال ، قوله : ( وإن لم يكنه ) أي وإن لم يكن هو دجالا فلا خير في قتله .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) وهو على وجوه : الأول : اختلفوا في أن الدجال هو ابن صياد أو غيره ، فذهب قوم إلى أن الدجال هو ابن صياد قال مسلم في ( صحيحه ) : باب في قصة ابن صياد وأنه الدجال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، وإسحاق بن إبراهيم ، واللفظ لعثمان ، قال عثمان : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، " عن عبد الله قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمررنا بصبيان فيهم ابن صياد ، ففر الصبيان وجلس ابن صياد ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره ذلك فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : تربت يداك تشهد أني رسول الله ؟ فقال : لا ، بل تشهد أني رسول الله ؟ فقال عمر بن الخطاب : ذرني يا رسول الله حتى أقتله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن يكن الذي ترى فلن تستطيع قتله " ، وروى مسلم أيضا من حديث أبي سعيد قال " لقيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في بعض طرق المدينة فقال له صلى الله عليه وسلم : أتشهد أني رسول الله ؟ فقال هو : أتشهد أني رسول الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : آمنت بالله وملائكته وكتبه ما ترى ؟ قال : أرى عرشا على الماء ، فقال رسول الله : ترى عرش إبليس على البحر وما ترى ؟ قال : أرى صادقين وكاذبا أو كاذبين وصادقا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لبس عليه دعوه " ، ثم روى مسلم من حديث محمد بن المنكدر قال : رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صائد الدجال فقلت له : تحلف [ ص: 172 ] على ذلك قال : إني سمعت عمر رضي الله تعالى عنه يحلف على ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم -

                                                                                                                                                                                  وروى أبو داود قال : حدثنا أبو معاذ قال : أخبرنا أبي قال : حدثنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن محمد بن المنكدر إلى آخره نحو رواية مسلم .

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : قال العلماء : قصة ابن الصياد مشكلة وأمره مشتبه في أنه هل هو المسيح الدجال المشهور أم غيره ؟ ولا شك أنه دجال من الدجاجلة ، قال العلماء : ظاهر الأحاديث في هذا الباب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوح إليه بأنه المسيح الدجال ولا غيره ، وإنما أوحي إليه بصفات الدجال ، وكان في ابن صياد قرائن محتملة ; فلذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقطع بأنه الدجال ولا غيره ; ولهذا قال لعمر رضي الله تعالى عنه : إن يكن هو فلن تستطيع قتله .

                                                                                                                                                                                  وفي سنن أبي داود في خبر الجساسة من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن وقال : شهد جابر أنه هو ابن صياد ، قلت : فإنه قد مات ، قال : وإن مات ، قلت : فإنه قد أسلم ، فقال : وإن أسلم ، قلت : فإنه قد دخل المدينة قال : وإن دخل المدينة ، وأخرج أبو داود من حديث نافع قال : كان ابن عمر يقول : والله ما أشك أن المسيح الدجال ابن صياد وإسناده صحيح .

                                                                                                                                                                                  وقال الخطابي : اختلف السلف في أمره بعد كبره فروي عنه أنه تاب من ذلك القول ومات بالمدينة ، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس وقيل لهم اشهدوا ، واعترض عليه بما رواه أبو داود بسند صحيح عن جابر قال : فقدنا ابن صياد يوم الحرة ، ويرد بهذا قول من قال إنه مات بالمدينة وصلوا عليه ، وفيه كتاب الفتوح لسيف : لما نزل النعمان على السوس أعياهم حصارها ، فقال لهم القسيسون : يا معشر العرب إن مما عهد علماؤنا وأوائلنا أن لا يفتح السوس إلا الدجال ، فإن كان فيكم تستفتحونها ، فإن لم يكن فيكم فلا ، قال : وصاف ابن صياد في جند النعمان وأتى باب السوس غضبانا فدقه برجله وقال : انفتح فتقطعت السلاسل وتكسرت الأغلاق وانفتح الباب فدخل المسلمون .

                                                                                                                                                                                  وقال ابن التين : والأصح أنه ليس هو لأن عينه لم تكن ممسوحة ولا عينه طافية ولا وجدت فيه علامة .

                                                                                                                                                                                  وروى ابن أبي شيبة ، عن الغلتان بن عاصم ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أما مسيح الضلالة فرجل أجلى الجبهة ، ممسوح العين اليسرى ، عريض النحر فيه دفاء أي انحناء .

                                                                                                                                                                                  وروى مسلم عن حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " الدجال أعور عين اليسرى ، جفال الشعر ، معه جنة ونار ، فناره جنة وجنته نار " .

                                                                                                                                                                                  وفي حديث عبد الله بن عمر قال : ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال : " إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأنه عينه عنبة طافية " رواه مسلم .

                                                                                                                                                                                  وقال مسلم : باب في أمر ابن صياد وتبريه من أن يكون الدجال : حدثني عبيد الله بن عمر القواريري ، ومحمد بن المثنى قال : حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : صحبت ابن صائد إلى مكة فقال لي : ما لقيت من الناس يزعمون أني الدجال ، ألست سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنه لا يولد له ؟ قال : فقلت بلى ، قال : فقد ولد لي ، أوليس سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا يدخل المدينة ولا مكة ؟ قلت : بلى ، قال : فلقد ولدت بالمدينة ، وها أنا أريد مكة ، قال : ثم قال في آخر قوله : أما والله إني لأعلم مولده ومكانه وأين هو فليسني ، وفي لفظة له قال : فما زال حتى كاد أن يأخذ في قوله قال : فقال : أما والله إني لأعلم الآن حيث هو وأعرف أباه وأمه ، قال : وقيل له : أيسرك أنك ذاك الرجل ؟ لو عرض علي ما كرهت ، وفي لفظ له : ثم قال : أنا والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن ، قال : قلت : تبا لك سائر اليوم .

                                                                                                                                                                                  وقال القرطبي : وأما احتجاجه بأنه مسلم والدجال كافر ، وبأنه لا يولد للدجال وقد ولد له ، وأن الدجال لا يدخل الحرمين وقد دخلهما هو فغير واضح ، وإن كان محمد بن جرير وغيره ذكروه في جملة الصحابة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أخبر عن صفات الدجال وقت فتنته وخروجه .

                                                                                                                                                                                  الثاني : مما يستنبط منه ومن غيره من الأحاديث الواردة في هذا الباب هو أن ابن صياد إذا كان هو الدجال كيف كان حاله حتى بقي إلى وقت خروجه في آخر الزمان ، قال صاحب زهرة الرياض : رأيت في أمالي القاضي الإمام أبي بكر محمد بن علي بن الفضل الورنجري بإسناده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : " بينا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يصلي صلاة الغداة ، فلما سلم استقبل أصحابه بوجهه يحدثهم إذ أقبلت صيحة شديدة بناحية اليهود ما سمعنا صيحة أشد منها فأرسل رجلا ليأتينا بالخبر ، قال : فما مكث حتى رجع وقد تغير لونه ، فقال : يا رسول الله أما علمت أن البارحة ولد ولد في اليهود ، وأنه غضب وتزبد حتى امتلأ البيت منه ، وقد ضم أمه مع سريرها إلى زاوية [ ص: 173 ] البيت ، ورفع السقف عن حيطانها وهم يخافونه ، فاسترجع النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ثم قال : أخاف أنه دجال ، فلما مضت سبعة أيام قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : ألا تمضون بنا إلى هذا المولود ، فإذا الدجال على رأس نخلة يلتقط رطبا ويأكله وله همهمة شديدة ، وأمه جالسة في آصال النخلة ، فلما رأت النبي - صلى الله عليه وسلم - نادته يا ابن الصائد هذا محمد قد أقبل ، قال : فسكت وترك الهمهمة قال : فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل الدجال من النخلة واتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : اسمعوا إلى مقالته وأنا أسأله ، ثم قال : أتشهد أني نبي ؟ وقال له الدجال : أتشهد أني نبي ؟ ثم رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه قال : فقام عمر رضي الله تعالى عنه فضرب بالسيف على هامته ، فنبأ السيف كأنه قد ضرب على حجر ، ثم رجع السيف فشج رأس عمر قال : فوقع عمر صريعا جريحا يسيل الدم من رأسه قال : وقام الدجال على رأسه يسخر به ويستهزئ به حتى ورد الخبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - مسرعا حزينا حتى أتى إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال : ما الذي دعاك إلى هذا ؟ فأخبره بما جرى ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا عمر إنك لن تستطيع أن ترد قضاء الله تعالى ، قال : فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده المباركة على رأس عمر فدعا الله تعالى فالتحم الجرح بإذن الله تعالى ، وقال عمر : يا رسول الله وددت أن يرفعه الله تعالى ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتحب ذلك يا عمر ؟ قال : نعم ، قال : اللهم افعل ، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام في قطعة من الغمام كشبه الترس ، فنزل على رأس الدجال وهو جالس في وسط اليهود ، فأخذ بناصيته وجذبه عن ظهر الأرض وأمه وأبوه وقومه ينظرون إليه ويبكون عليه ، فرفعه جبرائيل عليه الصلاة والسلام فألقاه إلى جزيرة في البحر إلى أن قدم تميم الداري إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بخبره " .

                                                                                                                                                                                  وأخرج مسلم حديثا طويلا عن فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت من المهاجرات الأول ، وفيه : " أن تميما الداري كان رجلا نصرانيا فبايع وأسلم ، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال ، حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام فلعب بهم الموج شهرا في البحر ثم أرموا إلى جزيرة في البحر " الحديث ، وفيه خبر الدجال ودابة الجساسة ، وقال البيهقي رحمه الله تعالى : من ذهب إلى أن ابن صياد غير الدجال احتج بحديث تميم الداري رضي الله تعالى عنه في قصة الجساسة .

                                                                                                                                                                                  الثالث في الأسئلة والأجوبة : السؤال الأول : كيف سكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمن يدعي النبوة كاذبا ؟ وكيف تركه بالمدينة يساكنه في داره ويجاوره فيها ؟ وأجيب بأن هذا فتنة امتحن الله بها عباده المؤمنين ، وقد امتحن قوم موسى في زمانه بالعجل فافتتن به قوم وهلكوا ونجا من هداه الله تعالى وعصمه منهم . وقال الخطابي : والذي عندي أن هذه القصة إنما جرت معه أيام مهادنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهود وحلفاءهم ، وذلك أنه بعد مقدمه المدينة ، كتب بينه وبينهم كتابا صالحهم فيه على أن لا يهاجروا وأن يتركوا على أمرهم ، وكان ابن صياد منهم أو دخيلا في جملتهم ، وقيل : لأنه كان من أهل الذمة ، وقيل : لأنه كان دون البلوغ ، وهو ما اختاره عياض فلم تجر عليه الحدود .

                                                                                                                                                                                  السؤال الثاني : لم اشتغل به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم حاور معه المحاورات المذكورة ؟ وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم كان يبلغه ما يدعيه من الكهانة ويتعاطاه من الكلام في الغيب ، فامتحنه ليعلم حقيقة حاله ويظهر أمره الباطل للصحابة ، وأنه كاهن ساحر يأتيه الشيطان فيلقي على لسانه ما تلقيه الشياطين للكهنة .

                                                                                                                                                                                  السؤال الثالث : روى الترمذي وغيره من حديث أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور ، مكتوب بين عينيه ك ف ر " وقال : هذا حديث صحيح ، وفي رواية مسلم : " الدجال مكتوب بين عينيه ك ف ر " أي كافر ، وفي لفظ له : " يقرؤه كل مسلم " وفي حديث عبد الله بن عمر : " ما من نبي إلا قد أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه " الحديث ، رواه مسلم ، وقد ثبت في أحاديث الدجال أنه يخرج بعد خروج المهدي ، وأن عيسى - صلى الله عليه وسلم - يقتله إلى غير ذلك ، فما وجه إنذار الأنبياء أمتهم عنه ، وأجيب بأن المراد به تحقيق خروجه يعني لا يشكون في خروجه ، فإنه يخرج لا محالة ، ونبهوا على فتنته فإن فتنته عظيمة جدا تدهش العقول وتحير الألباب مع سرعة مروره في الأرض وقلة مكثه .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : لم خص نوحا بالذكر ؟ ( قلت ) : لأنه صلى الله عليه وسلم مقدم المشاهير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما قدمه في قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا

                                                                                                                                                                                  [ ص: 174 ] الرابع : من الأحكام فيه وفي غيره من أحاديث هذا الباب حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده ، وأنه شخص بعينه ابتلى الله تعالى عباده به ، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى من إحياء الميت الذي يقتله ، وظهور زهرة الدنيا والخصب معه ، واتباع كنوز الأرض له ، وأمر السماء أن تمطر فتمطر ، والأرض أن تنبت فتنبت ، فيقع كل ذلك بقدرة الله تعالى ومشيئته ثم يعجزه الله تعالى بعد ذلك فلا يقدر على شيء من ذلك ، ثم يقتله عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام ، وأبطل أمره الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة ، وزعم الجبائي ومن وافقه أنه صحح الوجود لكن ما معه مخارق وخيالات لا حقيقة لها ليفرق بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجيب عنه بأنه لا يدعي النبوة فيحتاج إلى فارق ، وإنما يدعي الألوهية وهو مكذب في ذلك لسمات الحدوث فيه ونقص صورته وعوره وتكفيره المكتوب بين عينيه ، ولهذه الدلائل وغيرها لا يغتر به إلا رعاع الناس لشدة الحاجة والفاقة وسد الرمق أو خوفا من أذاه وتقية .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه دليل على صحة إسلام الصبي ، وقد ذكرناه ، وهو مقصود البخاري من التبويب .

                                                                                                                                                                                  السادس : فيه دليل على صلابة عمر وقوة دينه .

                                                                                                                                                                                  السابع : فيه دلالة على التثبت في أمر النهي وأن لا تستباح الدماء إلا بيقين .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية