الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  4278 74 - حدثني إبراهيم بن موسى، عن هشام، عن معمر ح وحدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: حدثني ابن عباس قال: حدثني أبو سفيان من فيه إلى في قال: انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: فبينا أنا بالشأم إذ جيء بكتاب من النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل قال: وكان دحية الكلبي جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل. قال: فقال هرقل هل هاهنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقالوا [ ص: 143 ] نعم قال فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، فقال: أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال: أبو سفيان فقلت: أنا. فأجلسوني بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، ثم دعا بترجمانه فقال: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه قال أبو سفيان وايم الله لولا أن يؤثروا علي الكذب لكذبت ثم قال لترجمانه سله كيف حسبه فيكم. قال قلت هو فينا ذو حسب قال: فهل كان من آبائه ملك قال: قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال قلت بل ضعفاؤهم. قال: يزيدون أو ينقصون؟ قال قلت: لا بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قال قلت نعم قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه. قال: فهل يغدر؟ قال قلت: لا، ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه. قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا. ثم قال لترجمانه: قل له إني سألتك عن حسبه فيكم فزعمت أنه فيكم ذو حسب وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها وسألتك هل كان في آبائه ملك فزعمت أن لا فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك آبائه وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم فقلت بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب وسألتك هل يزيدون أم ينقصون فزعمت أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم وسألتك هل قاتلتموه فزعمت أنكم قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة وسألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر وسألتك هل قال أحد هذا القول قبله فزعمت أن لا. فقلت: لو كان قال هذا القول أحد قبله قلت رجل ائتم بقول قيل قبله، قال: ثم قال: بم يأمركم؟ قال قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف قال: إن يك ما تقول فيه حقا فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أك أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي قال: ثم دعا بكتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك [ ص: 144 ] بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله إلى قوله اشهدوا بأنا مسلمون فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط وأمر بنا فأخرجنا قال فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه ليخافه ملك بني الأصفر فما زلت موقنا بأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام قال الزهري فدعا هرقل عظماء الروم فجمعهم في دار له فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد، وأن يثبت لكم ملككم قال: فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت فقال علي بهم، فدعا بهم، فقال إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم، فقد رأيت منكم الذي أحببت فسجدوا له ورضوا عنه

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة، وأخرجه من طريقين:

                                                                                                                                                                                  الأول: عن إبراهيم بن موسى أبو إسحاق الفراء، عن هشام بن يوسف، عن معمر بن راشد، عن الزهري... إلخ.

                                                                                                                                                                                  والآخر: عن عبد الله بن محمد المعروف بالمسندي، عن عبد الرزاق، عن معمر عن الزهري إلى آخره، وقد مر الحديث في أول الكتاب، فإنه أخرجه هناك بأتم منه عن أبي اليمان الحكم بن نافع، عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري إلى آخره، ومضى الكلام فيه مطولا، ولنذكر بعض شيء لطول المسافة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "من فيه إلى في" أي حدثني حال كونه من فمه إلى فمي، وأراد به شدة تمكنه من الإصغاء إليه وغاية قربه من تحديثه، وإلا فهو في الحقيقة أن يقال إلى أذني.

                                                                                                                                                                                  قوله: "في المدة" أي في مدة المصالحة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فدعيت" على صيغة المجهول.

                                                                                                                                                                                  قوله: "في نفر" كلمة في بمعنى مع، نحو "ادخلوا في أمم" أي معهم، ويجوز أن يكون التقدير: فدعيت في جملة نفر، والنفر اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فدخلنا" الفاء فيه تسمى فاء الفصيحة; لأنها تفصح عن محذوف قبلها; لأن التقدير: فجاءنا رسول هرقل، فطلبنا فتوجهنا معه حتى وصلنا إليه، فاستأذن لنا، فأذن، فدخلنا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فأجلسنا " بفتح اللام جملة من الفعل والفاعل والمفعول.

                                                                                                                                                                                  قوله: "إني سائل هذا" أي أبا سفيان.

                                                                                                                                                                                  قوله: "بترجمانه" هو الذي يترجم لغة بلغة ويفسرها، قيل إنه عربي، وقيل معرب، وهو الأشهر، فعلى الأول النون زائدة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فإن كذبني" بتخفيف الذال فكذبوه بالتشديد، ويقال: كذب بالتخفيف يتعدى إلى مفعولين، مثل صدق، تقول: كذبني الحديث، وصدقني الحديث، قال الله لقد صدق الله رسوله الرؤيا وكذب بالتشديد يتعدى إلى مفعول واحد، وهذا من الغرائب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لولا أن يؤثروا علي" بصيغة الجمع وصيغة المعلوم، ويروى "ويؤثر" بفتح الثاء المثلثة بصيغة الإفراد على بناء المجهول، وقال ابن الأثير: لولا أن يؤثروا عني أي: لولا أن يرووا عني ويحكوا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "كيف حسبه" والحسب ما يعده المرء من مفاخر آبائه.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت: ذكر في كتاب الوحي "كيف نسبه"؟

                                                                                                                                                                                  قلت: الحسب مستلزم للنسب الذي يحصل به الإدلاء إلى جهة الآباء.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فهل كان من آبائه ملك" وفي رواية غير الكشميهني "في آبائه ملك".

                                                                                                                                                                                  قوله: "يزيدون أو ينقصون" كذا فيه بإسقاط همزة الاستفهام، وأصله: أيزيدون أو ينقصون، ويروى "أم ينقصون" وقال ابن مالك: يجوز حذف همزة الاستفهام مطلقا، وقال بعضهم: لا يجوز إلا في الشعر.

                                                                                                                                                                                  قوله: "هل يرتد" إلى آخره، فإن قلت: "لم لم يستغن هرقل عن هذا السؤال بقول أبي سفيان: "بل يزيدون"؟

                                                                                                                                                                                  قلت: لا ملازمة بين الارتداد والنقص، فقد يرتد بعضهم ولا يظهر فيهم النقص باعتبار كثرة من يدخل وقلة من يرتد، مثلا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "سخطة له" يريد أن من دخل في الشيء على بصيرة يبعد رجوعه عنه بخلاف من لم يكن ذلك من صميم قلبه، فإنه يتزلزل سرعة، وعلى هذا يحمل حال من ارتد من قريش، ولهذا لم يعرج أبو سفيان على ذكرهم، وفيهم صهره زوج ابنته أم حبيبة، وهو عبد الله بن جحش، فإنه كان أسلم وهاجر إلى الحبشة ومات على [ ص: 145 ] نصرانيته، وتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم حبيبة بعده، وكأنه لم يكن دخل في الإسلام على بصيرة، وكان أبو سفيان وغيره من قريش يعرفون ذلك منه، فلذلك لم يعرج عليه؛ خشية أن يكذبوه.

                                                                                                                                                                                  قوله: "قال فهل قاتلتموه" إنما نسب ابتداء القتال إليهم، ولم يقل: "هل قاتلكم" لاطلاعه على أن النبي لا يبدأ بقتال قومه حتى يبدءوا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "يصيب منا ونصيب منه" الأول بالياء بالإفراد، والثاني بالنون علامة الجمع.

                                                                                                                                                                                  قوله: "إني سألتك عن حسبه فيكم" ذكر الأسئلة والأجوبة المذكورتين على ترتيب ما وقعت، وحاصل الجميع ثبوت علامات النبوة في الكل، فالبعض ما تلقفه من الكتب، والبعض مما استقرأه بالعادة.

                                                                                                                                                                                  ولم تقع في كتاب بدء الوحي الأجوبة بترتيب، والظاهر أنه من الراوي بدليل أنه حذف منها واحدة وهي قوله: "هل قاتلتموه" ووقع في رواية الجهاد مخالفة في الموضعين، فإنه أضاف قوله: "بم يأمركم" إلى بقية الأسئلة، فكملت بها عشرة، وأما هنا فإنه أخر قوله: "بم يأمركم" إلى ما بعد إعادة الأسئلة والأجوبة وما رتب عليها.

                                                                                                                                                                                  قوله: "وقال لترجمانه قل له" أي قال هرقل لترجمانه: قل لأبي سفيان.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فإنه نبي" ووقع في رواية الجهاد "وهذه صفة نبي" وفي مرسل سعيد بن المسيب عند ابن أبي شيبة فقال "هو نبي".

                                                                                                                                                                                  قوله: "لأحببت لقاءه" وفي كتاب الوحي "لتجشمت" أي لتكلفت، ورجح عياض هذه، لكن نسبها إلى مسلم خاصة، وهي عند البخاري أيضا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأه" قيل: ظاهره أن هرقل هو الذي قرأ الكتاب، ويحتمل أن يكون الترجمان قرأه، فنسبت إلى هرقل مجازا؛ لكونه آمرا بها.

                                                                                                                                                                                  قلت: ظاهر العبارة يقتضي أن يكون فاعل دعا هو هرقل، ويحتمل أن يكون الفاعل الترجمان؛ لكون هرقل آمرا بطلبه وقراءته، فلا يرتكب فيه المجاز، وعند ابن أبي شيبة في مرسل سعيد بن المسيب أن هرقل لما قرأ الكتاب قال: هذا لم أسمعه بعد سليمان عليه السلام، فكأنه يريد الابتداء ببسم الله الرحمن الرحيم، وهذا يدل على أن هرقل كان عالما بأخبار أهل الكتاب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" ذكر المدايني أن القارئ لما قرأ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله غضب أخو هرقل، واجتذب الكتاب، فقال هرقل: ما لك؟ فقال: بدأ بنفسه وسماك صاحب الروم. قال: إنك لضعيف الرأي، أتريد أن أرمي بكتاب قبل أن أعلم ما فيه، لئن كان رسول الله فهو حق أن يبدأ بنفسه، ولقد صدق أنا صاحب الروم، والله مالكي ومالكهم.

                                                                                                                                                                                  قوله: "عظيم الروم" بالجر على أنه بدل من هرقل، ويجوز بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويجوز بالنصب أيضا على الاختصاص، ومعناه من تعظمه الروم وتقدمه للرياسة.

                                                                                                                                                                                  قوله: "إثم الأريسيين" قد مضى ضبطه مشروحا، وجزم ابن التين أن المراد هنا بالأريسيين أتباع عبد الله بن أريس، كان في الزمن الأول، بعث إليهم نبي فاتفقوا كلهم على مخالفة نبيهم، فكأنه قال عليك إن خالفت إثم الذين خالفوا نبيهم، وقيل: الأريسيون الملوك، وقيل العلماء، وقال ابن فارس: الزراعون، وهي شامية، الواحد أريس، وقد مر الكلام فيه مستقصى في أول الكتاب.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فلما فرغ" أي قارئ الكتاب، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون هرقل، ونسب إليه ذلك مجازا؛ لكونه الآمر به.

                                                                                                                                                                                  قلت: الذي يظهر أن الضمير في فرغ يرجع إلى هرقل، ويؤيده قوله: "عنده" بعد قوله: "فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده" أي عند هرقل، فحينئذ يكون حقيقة لا مجازا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "لقد أمر أمر ابن أبي كبشة" بفتح الهمزة وكسر الميم وفتح الراء على وزن علم، ومعناه عظم وقوي أمر ابن أبي كبشة، وهذا بسكون الميم وضم الراء لأنه فاعل أمر الأول، وقال الكرماني: ابن أبي كبشة كناية عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، شبهوه به في مخالفته دين آبائه.

                                                                                                                                                                                  قلت: هذا توجيه بعيد، وقد مر في بدء الوحي بيان ذلك مبسوطا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "قال الزهري" أي أحد الرواة المذكورين في الحديث، هذه قطعة من الرواية التي وقعت في بدء الوحي عقيب القصة التي حكاها ابن الناطور، وقد بين هناك أن هرقل دعاهم في دسكرة له بحمص، وذلك بعد أن رجع من بيت المقدس، فعاد جوابه يوافقه على خروج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى هذا فالفاء في قوله "فدعا" فاء فصيحة، والتقدير: قال الزهري: فسار هرقل إلى حمص فكتب إلى صاحبه ضغاطر الأسقف برومية، فجاءه جوابه، فدعا الروم.

                                                                                                                                                                                  قوله: "آخر الأبد" أي إلى آخر الزمان.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فحاصوا" بالمهملتين أي نفروا.

                                                                                                                                                                                  قوله: "فقال علي بهم" أي هاتوهم لي، يقال: علي بزيد أي أحضروه لي.

                                                                                                                                                                                  قوله: "اختبرت" أي جربت.

                                                                                                                                                                                  قوله: "الذي أحببت" أي الشيء الذي أحببته.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية