الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  365 38 - حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني عروة أن عائشة قالت : لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات في مروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  وجه مطابقة هذا الحديث للترجمة في قوله "متلفعات في مروطهن" لأن المستفاد منه صلاتهن في مروط ، والمرط ثوب واحد كما سنفسره عن قريب .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجاله ) : وهم خمسة : أبو اليمان الحكم بن نافع ، وشعيب بن أبي حمزة ، والزهري بن محمد بن مسلم ، وعروة بن الزبير ، والكل تقدموا .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر لطائف إسناده ) : فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين ، وفيه العنعنة في موضع واحد ، والإخبار بصيغة الإفراد في موضع واحد ، وفيه القول ، وفيه أن رواته ما بين حمصي ومدني ، وفيه رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) : أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن عبد الله بن يوسف ، والقعنبي ، وأخرجه مسلم فيه عن نصر بن علي ، وإسحاق بن موسى كلاهما عن معن بن عيسى ، ثلاثتهم عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة به ، وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي به ، وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة عن مالك به ، وعن إسحاق بن موسى به ، وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به ، وأخرجه ابن ماجه من حديث عروة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) : قوله "لقد كان" اللام فيه جواب قسم محذوف . قوله : "تشهد" أي : تحضر ، والنساء من الجمع الذي لا واحد له من لفظه ، وهو جمع امرأة . قوله : "متلفعات" نصب على الحال من النساء من التلفع بالفاء ، والعين المهملة أي : ملتحفات ، وروي بالفاء المكررة بدل العين ، والأكثر على خلافه ، قال الأصمعي : التلفع بالثوب أن يشتمل به حتى يجلل به جسده ، وهو اشتمال الصماء عند العرب لأنه لم يرفع جانبا منه فيكون فيه فرجة ، وهو عند الفقهاء مثل الاضطباع إلا أنه في ثوب واحد ، وعن يعقوب : اللفاع الثوب تلتفع به المرأة أي : تلتحف به فيغيبها ، وعن كراع ، وهو الملفع أيضا ، وعن ابن دريد : اللفاع الملحفة أو الكساء ، وقال أبو عمر : وهو الكساء ، وعن صاحب العين : تلفع بثوبه إذا اضطبع به ، وتلفع الرجل بالشيب كأنه غطى سواد رأسه ولحيته ، وفي شرح الموطأ : التلفع أن يلقي الثوب على رأسه ثم يلتف به ، لا يكون الالتفاع إلا بتغطية الرأس .

                                                                                                                                                                                  وقد أخطأ من قال : الالتفاع مثل الاشتمال ، وأما التلفف فيكون مع تغطية الرأس وكشفه ، وفي المحكم : الملفعة ما يلفع به من رداء أو لحاف أو قناع ، وفي المغيث ، وقيل : اللفاع النطع ، وقيل : الكساء الغليظ ، وفي الصحاح لفع رأسه تلفيعا : أي : غطاه . قوله : "في مروطهن" ، المروط جمع مرط بكسر الميم ، قال القزاز : المرط ملحفة يتزر بها ، والجمع أمراط ، ومروط ، وقيل : يكون المرط كساء من خز أو صوف أو كتان ، وفي الصحاح : المرط بالكسر ، وفي المحكم ، وقيل : هو الثوب الأخضر ، وفي مجمع الغرائب أكسية من شعر أسود ، وعن الخليل : هي أكسية معلمة ، وقال ابن الأعرابي : هو الإزار ، وقال النضر بن شميل : لا يكون المرط إلا درعا ، وهو من خز أخضر ، ولا يسمى المرط إلا أخضر ، ولا يلبسه النساء ، وقال عبد الملك في شرح الموطأ هو [ ص: 90 ] كساء صوف رقيق خفيف مربع كن النساء في ذلك الزمان يتزرن به ، ويلتفعن .

                                                                                                                                                                                  قوله : "ما يعرفهن أحد" ، وفي سنن ابن ماجه يعني من الغلس ، وعند مسلم : "ما يعرفن من الغلس" ، ثم عدم معرفتهن يحتمل أن يكون لبقاء ظلمة من الليل أو لتغطيهن بالمروط غاية التغطي ، وقيل : معنى ما يعرفهن أحد : يعني ما يعرف أعيانهن ، وهذا بعيد ، والأوجه فيه أن يقال : ما يعرفهن أحد أي : أنساء هن أم رجال ، وإنما يظهر للرائي الأشباح خاصة .

                                                                                                                                                                                  ذكر ما يستنبط منه من الأحكام منها هو الذي ترجم له ، وهو أن المرأة إذا صلت في ثوب واحد بالالتفاع جازت صلاتها لأنه استدل به على ذلك ، ( فإن قلت ) : لم لا يجوز أن يكون التفاعهن في مروطهن فوق ثياب أخرى فلا يتم له الاستدلال به ، ( قلت ) الحديث ساكت عن هذا بحسب الظاهر ، ولكن الأصل عدم الزيادة ، واختياره يؤخذ في عادته من الآثار التي يترجم بها ، وهذا الباب مختلف فيه .

                                                                                                                                                                                  قال ابن بطال : اختلفوا في عدد ما تصلي فيه المرأة من الثياب ؛ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي : تصلي في درع وخمار ، وقال عطاء : في ثلاثة ؛ درع وإزار وخمار ، وقال ابن سيرين : في أربعة ؛ الثلاثة المذكورة وملحفة ، وقال ابن المنذر : عليها أن تستر جميع بدنها إلا وجهها وكفيها سواء سترته بثوب واحد أو أكثر ، ولا أحسب ما روي من المتقدمين من الأمر بثلاثة أو أربعة إلا من طريق الاستحباب ، وزعم أبو بكر بن عبد الرحمن أن كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها ، وهي رواية عن أحمد ، وقال مالك والشافعي : قدم المرأة عورة ، فإن صلت وقدمها مكشوفة أعادت في الوقت عند مالك ، وكذلك إذا صلت وشعرها مكشوف ، وعند الشافعي : تعيد أبدا ، وقال أبو حنيفة والثوري : قدم المرأة ليست بعورة ، فإن صلت وقدمها مكشوفة صحت صلاتها ، ولكن فيه روايتان عن أبي حنيفة ، ومنها أنه احتج به مالك والشافعي وأحمد وإسحاق أن الأفضل في صلاة الصبح التغليس ، ولنا أحاديث كثيرة في هذا الباب رويت عن جماعة من الصحابة منهم رافع بن خديج .

                                                                                                                                                                                  روى أبو داود من حديث محمود بن لبيد عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أصبحوا بالصبح فإنه أعظم لأجركم أو أعظم للأجر " ، ورواه الترمذي أيضا ، وقال : حديث حسن صحيح ، ورواه النسائي وابن ماجه أيضا .

                                                                                                                                                                                  قوله : "أصبحوا بالصبح" أي : نوروا به ، ويروى "أصبحوا بالفجر" ، ورواه ابن حبان في صحيحه ، ولفظه : "أسفروا بصلاة الصبح فإنه أعظم للأجر" ، وفي لفظ له : "فكلما أصبحتم بالصبح فإنه أعظم لأجركم" ، وفي لفظ للطبراني : "فكلما أسفرتم بالفجر فإنه أعظم للأجر" .

                                                                                                                                                                                  ومنهم محمود بن لبيد روى حديثه أحمد في مسنده نحو رواية أبي داود ، ولم يذكر فيه رافع بن خديج ، ومحمود بن لبيد صحابي مشهور كذا قيل ، ( قلت ) قال المزي : محمود بن لبيد بن عصمة بن رافع بن امرئ القيس الأوسي ، ثم الأشهلي ، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي صحبته خلاف . انتهى .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) ذكره مسلم في التابعين في الطبقة الثانية ، وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال : له صحبة ، قال : وقال أبي : لا يعرف له صحبة ، وقال أبو عمر : قول البخاري أولى ، فعلى هذا يحتمل أنه سمع هذا الحديث من رافع أولا فرواه عنه ، ثم سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فرواه عنه ، إلا أن في طريق أحمد عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وفيه ضعف .

                                                                                                                                                                                  ومنهم بلال روى حديثه البزار في مسنده نحو حديث رافع ، وفيه أيوب بن يسار ، وقال البزار : فيه ضعف .

                                                                                                                                                                                  ومنهم أنس روى حديثه البزار أيضا عنه مرفوعا ، ولفظه : "أسفروا بصلاة الصبح فإنه أعظم للأجر" .

                                                                                                                                                                                  ومنهم قتادة بن النعمان ، روى حديثه الطبراني في معجمه من حديث عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان عن أبيه عن جده مرفوعا نحوه ، ورواه البزار أيضا ، ومنهم ابن مسعود روى حديثه الطبراني أيضا عنه مرفوعا نحوه ، ومنهم أبو هريرة روى حديثه ابن حبان عنه مرفوعا ، ومنهم رجال من الأنصار أخرج حديثهم النسائي من حديث محمود بن لبيد عن رجال من قومه من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أسفروا بالصبح فإنه أعظم للأجر" ، ومنهم أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما أخرج حديثهما الطبراني من حديث حفص بن سليمان عن ابن عباس وأبي هريرة : "لا تزال أمتي على الفطرة ما أسفروا بالفجر" ، ومنهم أبو الدرداء أخرجه أبو إسحاق ، وإبراهيم بن محمد بن عبيد من حديث أبي الزاهرية عن أبي الدرداء عن النبي عليه السلام قال : "أسفروا بالفجر تفقهوا" ، ومنهم حواء الأنصارية أخرج حديثها الطبراني من حديث ابن بجيد الحارثي عن جدته الأنصارية ، وكانت من المبايعات قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" ، وابن بجيد بضم الباء الموحدة وفتح الجيم بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ، ذكره ابن حبان في الثقات ، وجدته [ ص: 91 ] حواء بنت زيد بن السكن أخت أسماء بنت زيد بن السكن ، ( فإن قلت ) : كان ينبغي أن يكون الإسفار واجبا لمقتضى الأوامر فيه ، ( قلت ) الأمر إنما يدل على الوجوب إذا كان مطلقا مجردا عن القرائن الصارفة إلى غيره ، وهذه الأوامر ليست كذلك ، فلا تدل إلا على الاستحباب ، ( فإن قلت ) : قد يؤول الاستحباب في هذه الأحاديث بظهور الفجر ، وقد قال الترمذي ، وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : معنى الإسفار أن يصبح الفجر ، ولا يشك فيه ، ولم يروا أن الإسفار تأخير الصلاة .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) هذا التأويل غير صحيح ، فإن الغلس الذي يقولون به هو اختلاط ظلام الليل بنور النهار كما ذكره أهل اللغة ، وقبل ظهور الفجر لا تصح صلاة الصبح ، فثبت أن المراد بالإسفار إنما هو التنوير ، وهو التأخير عن الغلس ، وزوال الظلمة ، وأيضا فقوله : أعظم للأجر يقتضي حصول الأجر في الصلاة بالغلس ، فلو كان الإسفار هو وضوح الفجر وظهوره لم يكن في وقت الغلس أجر لخروجه عن الوقت ، وأيضا يبطل تأويلهم ذلك ما رواه ابن أبي شيبة ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو داود الطيالسي في مسانيدهم ، والطبراني في معجمه من حديث رافع بن خديج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال : "يا بلال ، نور صلاة الصبح حتى يبصر القوم مواقع نبلهم من الإسفار" .

                                                                                                                                                                                  وحديث آخر يبطل تأويلهم رواه الإمام أبو محمد القاسم بن ثابت السرقسطي في كتابه : غريب الحديث : حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر سمعت بيانا أخبرنا سعيد قال : سمعت أنسا يقول ، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصبح حين يفسح البصر" . انتهى ، يقال فسح البصر وانفسح إذا رأى الشيء عن بعد يعني به إسفار الصبح ، ( فإن قلت ) : قد قيل : إن الأمر بالإسفار إنما جاء في الليالي المقمرة ؛ لأن الصبح لا يستبين فيها جدا فأمرهم بزيادة التبين استظهارا باليقين في الصلاة ، ( قلت ) هذا تخصيص بلا مخصص ، وهو باطل ، ويرده أيضا ما أخرجه ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي : ما اجتمع أصحاب محمد على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه الطحاوي في شرح الآثار بسند صحيح ، ثم قال : ولا يصح أن يجتمعوا على خلاف ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( فإن قلت ) : قد قال ابن حزم خبر الأمر بالإسفار صحيح إلا أنه لا حجة لكم فيه إذا أضيف إلى الثابت من فعله في التغليس حتى إنه لينصرف والنساء لا يعرفن ، ( قلت ) الثابت من فعله صلى الله عليه وسلم في التغليس لا يدل على الأفضلية ؛ لأنه يجوز أن يكون غيره أفضل منه ، وإنما فعل ذلك للتوسعة على أمته ، بخلاف الخبر الذي فيه الأمر ؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم : "أعظم للأجر" أفعل التفضيل فيقتضي أجرين أحدهما أكمل من الآخر ؛ لأن صيغة أفعل تقتضي المشاركة في الأصل مع رجحان أحد الطرفين فحينئذ يقتضي هذا الكلام حصول الأجر في الصلاة بالغلس ، ولكن حصوله في الإسفار أعظم ، وأكمل منه ، فلو كان الإسفار لأجل تقصي طلوع الفجر لم يكن في وقت الغلس أجر لخروجه عن الوقت .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) : روى أبو داود من حديث ابن مسعود "أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بغلس ، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ، ثم كانت صلاته بعد ذلك بالغلس حتى مات صلى الله عليه وسلم لم يعد إلى أن يسفر" ، ورواه ابن حبان أيضا في صحيحه كلاهما من حديث أسامة بن زيد الليثي .

                                                                                                                                                                                  ( قلت ) يرد هذا ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن زيد عن ابن مسعود قال : ما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم صلى صلاة لغير وقتها إلا بجمع ، فإنه يجمع بين المغرب والعشاء بجمع ، وصلى صلاة الصبح من الغد قبل وقتها . انتهى . قالت العلماء : يعني وقتها المعتاد في كل يوم لا أنه صلاها قبل الفجر ، وإنما غلس بها جدا ، ويوضحه رواية البخاري : "والفجر حين بزغ" ، وهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يسفر بالفجر دائما ، وقل ما صلاها بغلس ، وبه استدل الشيخ في الإمام لأصحابنا على أن أسامة بن زيد قد تكلم فيه فقال أحمد : ليس بشيء ، وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ، ولا يحتج به ، وقال النسائي والدارقطني : ليس بالقوي ، ( فإن قلت ) : قد قال البيهقي : رجح الشافعي حديث عائشة بأنه أشبه بكتاب الله تعالى ؛ لأن الله تعالى يقول : حافظوا على الصلوات فإذا دخل الوقت فأولى المصلين بالمحافظة المقدم للصلاة ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر بأن يصلي صلاة في وقت يصليها هو في غيره ، وهذا أشبه بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( قلت ) المراد من المحافظة هو المداومة على إقامة الصلوات في أوقاتها ، وليس فيها دليل على أن أول الوقت أفضل ؛ بل الآية دليل لنا ؛ لأن الذي يسفر بالفجر يترقب الإسفار في أول الوقت فيكون هو المحافظ المداوم على الصلاة ، ولأنه ربما تقع صلاته في التغليس قبل الفجر فلا يكون محافظا للصلاة في وقتها ، ( فإن قلت ) : جاء في الحديث : "أول [ ص: 92 ] الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله" ، وهو لا يؤثر على رضوان الله شيئا ، والعفو لا يكون عن تقصير . ( قلت ) المراد من العفو الفضل كما في قوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو أي الفضل ، فكان معنى الحديث والله أعلم أن من أدى الصلاة في أول الوقت فقد نال رضوان الله ، وأمن من سخطه وعذابه لامتثال أمره ، وأدائه ما وجب عليه ، ومن أدى في آخر الوقت فقد نال فضل الله ، ونيل فضل الله لا يكون بدون الرضوان ، فكانت هذه الدرجة أفضل من تلك ، ( فإن قلت ) : جاء في الحديث : "وسئل : أي الأعمال أفضل ؟ فقال : الصلاة في أول وقتها" ، وهو لا يدع موضع الفضل ، ولا يأمر الناس إلا به . ( قلت ) ذكر الأول للحث والتحضيض والتأكيد على إقامة الصلوات في أوقاتها ، وإلا فالذي يؤدي في ثاني الوقت أو في ثالثه أو رابعه كالذي يؤديها في أوله لا أن الجزء الأول له مزية على الجزء الثاني أو الثالث أو الرابع ، فحاصل المعنى : الصلاة في وقتها أفضل الأعمال ، ثم يتميز الجزء الثاني في صلاة الصبح عن الجزء الأول بالأمر الذي فيه الإسفار الذي يقتضي التأخير عن الجزء الأول ، فإن ( قلت ) قال البيهقي : قال الشافعي في حديث رافع له وجه لا يوافق حديث عائشة ، ولا يخالفه ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حض الناس على تقديم الصلاة ، وأخبر بالفضل فيه احتمل أن يكون من الراغبين من يقدمها قبل الفجر الآخر ، فقال : أسفروا بالفجر حتى يتبين الفجر الآخر معترضا ، فأراد عليه الصلاة والسلام فيما يرى الخروج من الشك حتى يصلي المصلي بعد تبين الفجر ، فأمرهم بالإسفار أي : بالتبيين ، ( قلت ) يرد هذا التأويل ويبطله ما رواه أبو داود الطيالسي عن رافع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال : "يا بلال ، نور صلاة الصبح حتى تبصر القوم مواضع نبلهم من الإسفار" ، وقد مر هذا عن قريب ، ( فإن قلت ) : قال ابن حازم في كتاب الناسخ والمنسوخ : قد اختلف أهل العلم في الإسفار بصلاة الصبح ، والتغليس بها فرأى بعضهم الإسفار هو الأفضل ، وذهب إلى قوله : "أصبحوا بالصبح" ، ورواه محكما ، وزعم الطحاوي أن حديث الإسفار ناسخ لحديث التغليس ، وأنهم كانوا يدخلون مغلسين ، ويخرجون مسفرين ، وليس الأمر كما ذهب إليه ؛ لأن حديث التغليس ثابت ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليه حتى فارق الدنيا ( قلت ) يرد هذا ما رويناه من حديث ابن مسعود الذي أخرجه البخاري ، ومسلم ، وقد ذكرناه عن قريب ، وذكرنا أن فيه دليلا على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يسفر بالفجر دائما ، والأمر مثل ما ذكره الطحاوي ، وليس مثل ما ذكره ابن حازم ، بيان ذلك أن اتفاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على الإسفار بالصبح على ما ذكره الطحاوي بإسناد صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال : ما اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على شيء ما اجتمعوا على التنوير دليل واضح على نسخ حديث التغليس ؛ لأن إبراهيم أخبر أنهم كانوا اجتمعوا على ذلك فلا يجوز عندنا ، والله أعلم اجتماعهم على خلاف ما قد فعله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلا بعد نسخ ذلك ، وثبوت خلافه ، والعجب من بعض شراح البخاري أنه يقول : ووهم الطحاوي حيث ادعى أن حديث "أسفروا" ناسخ لحديث التغليس ، وليس الواهم إلا هو ، ولو كان عنده إدراك مدارك المعاني لما اجترأ على مثل هذا الكلام . ومنها أن فيه دلالة على خروج النساء ، وهو جائز بشرط أمن الفتنة عليهن أو بهن ، وكرهه بعضهم للشواب ، وعند أبي حنيفة : تخرج العجائز لغير الظهر ، والعصر ، وعندهما يخرجن للجميع ، واليوم يكره للجميع للعجائز والشواب لظهور الفساد ، وعموم الفتنة ، والله أعلم .



                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية