الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  3858 123 - حدثني إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عمرو بن أبي سفيان الثقفي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية عينا [ ص: 167 ] وأمر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب ، فانطلقوا ، حتى إذا كان بين عسفان ومكة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان ، فتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منزلا نزلوه ، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة ، فقالوا : هذا تمر يثرب ! فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم ، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد ، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا : لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلا ! فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ، اللهم أخبر عنا نبيك ! فقاتلوهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل ، وبقي خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق ، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم ، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها ، فقال الرجل الثالث الذي معهما : هذا أول الغدر ! فأبى أن يصحبهم ، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل ، فقتلوه وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة ، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل - وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر - فمكث عندهم أسيرا ، حتى إذا أجمعوا قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحد بها فأعارته ، قالت : فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه ، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذاك مني ، وفي يده الموسى ! فقال : أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله ! وكانت تقول : ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب ! لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة ، وإنه لموثق في الحديد ، وما كان إلا رزق رزقه الله ! فخرجوا به من الحرم ليقتلوه ، فقال : دعوني أصلي ركعتين ! ثم انصرف إليهم فقال : لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت ! فكان أول من سن الركعتين عند القتل هو ، ثم قال : اللهم أحصهم عددا ! ثم قال :


                                                                                                                                                                                  ما أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان لله مصرعي     وذلك في ذات الإله وإن يشأ
                                                                                                                                                                                  يبارك على أوصال شلو ممزع

                                                                                                                                                                                  ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله ، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه ، وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر ، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء .


                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة ظاهرة ، وهذا الحديث قد مر في كتاب الجهاد في باب هل يستأسر الرجل ; فإنه أخرجه هناك عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري ... إلخ ، ثم أخرجه أيضا في أثناء أبواب غزوة بدر عن موسى بن إسماعيل عن إبراهيم عن ابن شهاب ... إلخ ، وقد مر الكلام فيه هناك ، ولنتكلم على بعض شيء أيضا .

                                                                                                                                                                                  قوله " عن عمرو بن سفيان " ، عمرو بفتح العين ، هكذا تقدم في الجهاد عمرو بن أبي سفيان بن أسيد بن جارية الثقفي ، وهو حليف لبني زهرة ، وكان من أصحاب أبي هريرة ، وإبراهيم بن سعد يقول عن الزهري عن عمر بضم العين ، واختلفوا فيه ; فقال البخاري في تاريخه عمرو أصح .

                                                                                                                                                                                  قوله " سرية " ، وفي رواية الكشميهني " بسرية " بزيادة باء موحدة في أوله ، وقد مضى فيما تقدم في غزوة بدر " بعث عشرة عينا " أي يتجسسون له ، وفي رواية [ ص: 168 ] أبي الأسود عن عروة " بعثهم عيونا إلى مكة ليأتوه بخبر قريش " .

                                                                                                                                                                                  قوله " وأمر " بتشديد الميم .

                                                                                                                                                                                  قوله " عاصم بن ثابت " ، وفي السير " أمر عليهم مرثد بن أبي مرثد " .

                                                                                                                                                                                  قوله " وهو جد عاصم بن عمر " ، وقد ذكرنا فيما تقدم أنه خال عاصم لا جده ، وقال الكرماني : جد عاصم عند بعضهم ، وأما الأكثرون فيقولون هو خاله لا جده .

                                                                                                                                                                                  قوله " عسفان " بضم العين وسكون السين المهملتين ، وهي قرية على مرحلتين من مكة ، وقد مر غير مرة .

                                                                                                                                                                                  قوله " ذكروا على صيغة المجهول .

                                                                                                                                                                                  قوله " بنو لحيان " بكسر اللام ، وقيل بفتحها ، ولحيان هو ابن هذيل نفسه ، وهذيل هو ابن مدركة بن إلياس بن مضر ، وزعم الهمداني النسابة أن أصل بني لحيان من بقايا جرهم دخلوا في هذيل فنسبوا إليهم ، وقال الواقدي : إن سبب خروج بني لحيان عليهم قتل سفيان بن نتيج الهذلي ، وكان قتل سفيان هذا على يد عبد الله بن أنيس ، وذكر أبو داود قصته بإسناد حسن .

                                                                                                                                                                                  قوله " فاقتصوا آثارهم " ; أي اتبعوها شيئا فشيئا ، ومنه قوله تعالى : وقالت لأخته قصيه ; أي اتبعي أثره ، ويجوز بالسين .

                                                                                                                                                                                  قوله " إلى فدفد " بفتح الفاءين وسكون المهملة الأولى ، وهو الرابية المشرفة ، ووقع في رواية أبي داود " إلى قردد " بقاف وراء ودالين ، وقال ابن الأثير : هو الموضع المرتفع ، وقيل الأرض المستوية ، والأول أصح .

                                                                                                                                                                                  قوله " اللهم أخبر نبيك " ، ويروى " اللهم أخبر عنا رسولك " ، وفي رواية الطيالسي عن إبراهيم بن سعد " فاستجاب الله لعاصم فأخبر رسوله خبره ، فأخبر أصحابه بذلك يوم أصيبوا " .

                                                                                                                                                                                  قوله " في سبعة " ; أي في جملة سبعة .

                                                                                                                                                                                  قوله " وبقي خبيب " ، هو ابن عدي .

                                                                                                                                                                                  قوله " وزيد " ، هو ابن الدثنة - بفتح الدال المهملة وكسر الثاء المثلثة وفتح النون .

                                                                                                                                                                                  قوله " ورجل آخر " ، هو عبد الله بن طارق الظفري ، بين ذلك ابن إسحاق في روايته حيث قال : فأما خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق فاستأسروا .

                                                                                                                                                                                  قوله " فقال الرجل الثالث " ، هو عبد الله بن طارق .

                                                                                                                                                                                  قوله " حتى باعوهما " ; أي خبيبا وزيدا ، وفي رواية ابن إسحاق " فأما زيد فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه " ، وقال ابن سعد : الذي تولى قتله نسطاس مولى صفوان .

                                                                                                                                                                                  قوله " فاشترى خبيبا بنو الحارث " ، بين ابن إسحاق أن الذي اشتراه جحير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل ، وكان أخا الحارث بن عامر لأمه ، وفي رواية بريدة بن سفيان أنهم اشتروا خبيبا بأمة سوداء ، وقال ابن هشام : باعوهما بأسيرين من هذيل كانا بمكة - ولا منافاة بينهما لإمكان الجمع .

                                                                                                                                                                                  قوله " وكان خبيب " هو الذي قتل الحارث يوم بدر ، هكذا وقع في رواية البخاري في حديث أبي هريرة ، فذكر خبيب بن عدي فيمن شهد بدرا ، وقال الحافظ الدمياطي : لم يذكر أحد من أهل المغازي أن خبيب بن عدي شهد بدرا ولا قتل الحارث بن عامر ، وإنما ذكروا أن الذي قتل الحارث بن عامر ببدر خبيب بن إساف وهو غير خبيب بن عدي ، وهو خزرجي وخبيب بن عدي أوسي .

                                                                                                                                                                                  قوله " من بعض بنات الحارث " ، ذكر في الأطراف لخلف أن اسمها زينب بنت الحارث ، وهي أخت عقبة بن الحارث الذي قتل خبيبا ، وقيل امرأته .

                                                                                                                                                                                  قوله " وكانت تقول " ، الضمير فيه يرجع إلى بعض بنات الحارث وهو زينب كما ذكرنا ، وقال ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح قال : حدثت عن ماوية مولاة جحير - بالراء في آخره - ابن أبي إهاب وكانت قد أسلمت ، قالت : حبس خبيب في بيتي ، ولقد اطلعت عليه يوما وإن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الحبل يأكل منه ! قيل : إن كان هذا محفوظا احتمل أن يكون كل من ماوية وزينب رأت القطف في يده يأكله ، وإن التي حبس في بيتها ماوية ، والتي كانت تحرسه زينب - جمعا بين الروايتين ، وذكر ابن بطال أن اسم المرأة جويرية ، قال بعضهم : فيحتمل أن يكون لما رأى قول ابن إسحاق أنها مولاة جحير بن أبي إهاب أطلق عليها جويرية لكونها أمته ، أو يكون وقعت له رواية فيها أن اسمها جويرية . قلت : الاحتمال الثاني له وجه ، والأول بعيد .

                                                                                                                                                                                  قوله " عن صبي لي " ، ذكر الزبير بن بكار أن هذا الصبي هو أبو حسين بن الحارث بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، وهو جد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي المحدث وهو من أقران الزهري .

                                                                                                                                                                                  قوله " من قطف عنب " بكسر القاف ، وهو العنقود .

                                                                                                                                                                                  قوله " لموثق " بفتح الثاء المثلثة ; أي مقيد بالحديد .

                                                                                                                                                                                  قوله " فخرجوا به من الحرم " ، قال ابن إسحاق : أخرجوه إلى التنعيم .

                                                                                                                                                                                  قوله " دعوني أصلي " بالياء في رواية الأكثرين ، وفي رواية الكشميهني " أصل " بغير ياء ، وقال موسى بن عقبة : إنه صلى ركعتين في موضع مسجد التنعيم .

                                                                                                                                                                                  قوله " اللهم أحصهم عددا " دعاء عليهم بالاستئصال والهلاك بحيث لا يبقى منهم أحد ، وزاد في رواية إبراهيم بن سعد " واقتلهم بددا " أي متفرقين " ولا تبق منهم أحدا " ، ويروى أنه لما رفع على الخشبة استقبل الدعاء ، فلبد رجل بالأرض خوفا من [ ص: 169 ] دعائه ، وأنه لم يحل الحول ومنهم أحد غير ذلك الرجل الذي لبد بالأرض .

                                                                                                                                                                                  قوله " قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر " ، قيل لعل العظيم المذكور عقبة بن أبي معيط ، فإن عاصما قتله صبرا بأمر النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بعد أن انصرفوا من بدر .

                                                                                                                                                                                  قوله " مثل الظلة " بضم الظاء المعجمة ، وهي السحابة .

                                                                                                                                                                                  قوله " من الدبر " بفتح الدال المهملة وسكون الباء الموحدة ، وهي الزنابير ، وقيل ذكور النحل ، ولا واحد له من لفظه .

                                                                                                                                                                                  قوله " فحمته " بفتح الحاء المهملة والميم ; أي منعته منهم فلم يقدروا منه على شيء ، وفي رواية شعيب " فلم يقدروا أن يقطعوا من لحمه شيئا " ، وفي رواية أبي الأسود عن عروة " فبعث الله عليهم الدبر يطير في وجوههم ويلدغهم ، فحالت بينهم وبين أن يقطعوا " .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية