الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2336 [ ص: 16 ] 41 - حدثنا يحيى بن بكير ، قال : حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : لم أزل حريصا على أن أسأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله لهما : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ،فحججت معه فعدل وعدلت معه بالإداوة ، فتبرز حتى جاء فسكبت على يديه من الإداوة فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال لهما : إن تتوبا إلى الله فقال : واعجبا لك يا ابن عباس ; عائشة وحفصة ، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه ، فقال : إني كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، وكنا نتناوب النزول على النبي صلى الله عليه وسلم ، فينزل هو يوما ، وأنزل يوما ، فإذا نزلت جئته من خبر ذلك اليوم من الأمر وغيره ، وإذا نزل فعل مثله ، وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار ، فصحت على امرأتي فراجعتني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ولم تنكر أن أراجعك ؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل ، فأفزعني فقلت : خابت من فعل منهن بعظيم ، ثم جمعت علي ثيابي فدخلت على حفصة فقلت : أي حفصة ، أتغاضب إحداكن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم حتى الليل ؟ فقالت : نعم ، فقلت : خابت وخسرت ، أفتأمن أن يغضب الله لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم فتهلكين ، لا تستكثري على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تراجعيه في شيء ، ولا تهجريه ، واسأليني ما بدا لك ، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك ، وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريد عائشة ، وكنا تحدثنا أن غسان تنعل النعال لغزونا ، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضربا شديدا ، وقال : أنائم هو ؟ ففزعت فخرجت إليه ، وقال : حدث أمر عظيم . قلت : ما هو ؟ أجاءت غسان ؟ قال : لا ، بل أعظم منه وأطول ; طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه . قال : قد خابت حفصة وخسرت ، كنت أظن أن هذا يوشك أن يكون ، فجمعت علي ثيابي فصليت صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل مشربة له فاعتزل فيها ، فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي . قلت : ما يبكيك ؟ أولم أكن حذرتك ؟ أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : لا أدري هو ذا في المشربة ، فخرجت فجئت المنبر فإذا حوله رهط يبكي بعضهم ، فجلست معهم قليلا ثم غلبني ما أجد ، فجئت المشربة التي هو فيها ، فقلت لغلام له أسود : استأذن لعمر ، فدخل فكلم النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرج ، فقال : ذكرتك له فصمت فانصرفت حتى جلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد ، فجئت فذكر مثله فجلست مع الرهط الذين عند المنبر ، ثم غلبني ما أجد فجئت الغلام فقلت : استأذن لعمر فذكر مثله ، فلما [ ص: 17 ] وليت منصرفا ، فإذا الغلام يدعوني ، قال : أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخلت عليه فإذا هو مضطجع على رمال حصير ليس بينه وبينه فراش ، قد أثر الرمال بجنبه متكئ على وسادة من أدم حشوها ليف ، فسلمت عليه ثم قلت وأنا قائم : طلقت نساءك ؟ فرفع بصره إلي ، فقال : لا ، ثم قلت وأنا قائم : أستأنس يا رسول الله ، لو رأيتني وكنا معشر قريش نغلب النساء ، فلما قدمنا على قوم تغلبهم نساؤهم فذكره ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قلت : لو رأيتني ، ودخلت على حفصة فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوضأ منك ، وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يريد عائشة - فتبسم أخرى ، فجلست حين رأيته تبسم ، ثم رفعت بصري في بيته ، فوالله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر غير أهبة ثلاثة ، فقلت : ادع الله فليوسع على أمتك ; فإن فارس والروم وسع عليهم ، وأعطوا الدنيا ، وهم لا يعبدون الله ، وكان متكئا ، فقال : أوفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ، فقلت : يا رسول الله ، استغفر لي ، فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك الحديث حين أفشته حفصة إلى عائشة ، وكان قد قال : ما أنا بداخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حين عاتبه الله ، فلما مضت تسع وعشرون دخل على عائشة ، فبدأ بها ، فقالت له عائشة : إنك أقسمت أن لا تدخل علينا شهرا ، وإنا أصبحنا لتسع وعشرين ليلة أعدها عدا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الشهر تسع وعشرون ، وكان ذلك الشهر تسع وعشرون ، قالت عائشة : فأنزلت آية التخيير ، فبدأ بي أول امرأة ، فقال : إني ذاكر لك أمرا ، ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ، قالت : قد أعلم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقك ، ثم قال : إن الله قال : يا أيها النبي قل لأزواجك إلى قوله : عظيما قلت : أفي هذا أستأمر أبوي ; فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم خير نساءه فقلن مثل ما قالت عائشة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة في قوله : " فدخل مشربة له " ; لأن المشربة هي الغرفة ، قاله ابن الأثير وغيره ، وقد ذكرها في الترجمة باسمها الآخر ، وهي الغرفة ، وهي بفتح الميم ، وضم الراء ، وفتحها ، والمشربة بفتح الميم ، وفتح الراء ، الموضع الذي يشرب منه كالمشرعة ، والمشربة ، بكسر الميم آلة الشرب .

                                                                                                                                                                                  وعقيل ، بضم العين ، وعبيد الله بن عبد الله بتصغير الابن وتكبير الأب ، وأبو ثور بالثاء المثلثة المفتوحة . وقال الحافظ الدمياطي : قال الخطيب في ( تكملته ) : لا أعلم روى عن عبيد الله هذا إلا الزهري ، ولا أعلمه حدث عن غير ابن عباس . ( قلت ) : خرج أبو داود وابن ماجه حديث محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن ابن عباس في طواف النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عام الفتح على البعير ، وقد مضى بعض هذا الحديث في كتاب العلم في باب التناوب في العلم ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، وذكرنا هناك تعدد موضعه ومن أخرجه غيره .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) . قوله : " فعدل " ، أي : عن الطريق . قوله : " بالإداوة " ، بكسر الهمزة ، وهي إناء صغير من جلد يتخذ للماء كالسطيحة ونحوها ، ويجمع على أداوى . قوله : " فتبرز " أصله خرج إلى الفضاء لقضاء الحاجة . قوله : " واعجبا لك " ، بالألف في آخره ، ويروى : واعجبا بالتنوين ، نحو : يا رجلا ، كأنه يندب على التعجب ، وهو إما تعجب من جهله بذلك ، وهو كان مشهورا بينهم بعلم التفسير ، وإما من حرصه على سؤاله عما ما لا يتنبه له إلا الحريص على العلم من تفسير ما لا حكم فيه من القرآن .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 18 ] وقال ابن مالك : " وا " في " واعجبا " اسم فعل إذا نون عجبا بمعنى أعجب ، ومثله : وي ، وجيء بعده بقوله : " عجبا " توكيدا ، وإذا لم ينون فالأصل فيه : واعجبي فأبدلت الياء ألفا ، وفيه شاهد على استعمال " وا " في غير الندبة ، كما هو رأي المبرد ، وقال في ( الكشاف ) قاله تعجبا ، كأنه كره ما سأله عنه . قوله : " عائشة وحفصة " ، أي : المرأتان اللتان قال الله تعالى : إن تتوبا إلى الله الآية ، هما عائشة وحفصة . قوله : " يسوقه " ، جملة حالية . قوله : " وجار لي من الأنصار " ، جار مرفوع ; لأنه عطف على الضمير الذي في كنت على مذهب الكوفيين ، وفي روايته في باب التناوب في كتاب العلم : كنت أنا وجار لي ، هذا على مذهب البصريين ; لأن عندهم لا يصح العطف بدون إظهار أنا حتى لا يلزم عطف الاسم على الفعل ، والكوفيون لا يشترطون ذلك ، وكلمة من في من الأنصار بيانية ، والمراد من هذا الجار هو عتبان بن مالك بن عمرو العجلاني الأنصاري الخزرجي . قوله : " في بني أمية بن زيد " ، في محل الجر على الوصفية ، أي : الكائنين في بني أمية بن زيد ، أو المستقرين . قوله : " وهي راجعة " إلى أمكنة بني أمية . قوله : " من عوالي المدينة " ، وهي القرى بقرب المدينة . وقال ابن الأثير : العوالي أماكن بأعلى أراضي المدينة ، والنسبة إليها علوي على غير قياس ، وأدناها من المدينة على أربعة أميال ، وأبعدها من جهة نجد ثمانية . قوله : " فينزل يوما " ، الفاء فيه تفسيرية ، تفسر التناوب المذكور . قوله : " من الأمر " ، أي : الوحي إذ اللام للمعهود عندهم ، أو الأوامر الشرعية . قوله : " وغيره " ، أي : وغير الأمر من أخبار الدنيا . قوله : " معشر قريش " ، أي : جمع قريش . قوله : " إذا هم " كلمة إذا للمفاجأة ، والمعنى : فلما قدمنا على الأنصار فاجأناهم تغلبهم نساؤهم ، وليست لهم شدة وطأة عليهن . قوله : " فطفق نساؤنا " ، بكسر الفاء ، وفتحها ، ومعنى طفق في الفعل أخذ فيه ، وهو من أفعال المقاربة ، قال الله تعالى : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة أي : أخذا في ذلك . قوله : " فراجعتني " ، أي : ردت علي الجواب . قوله : " حتى الليل " ، أي : إلى الليل . قوله : " بعظيم " ، أي : بأمر عظيم . قوله : " ثم جمعت علي ثيابي " ، أي : لبستها . قوله : " أي حفصة " ، أي : يا حفصة . قوله : " ما بدا لك " ، أي : ما كان لك من الضرورات . قوله : " أن كانت جارتك " ، أي : بأن كانت ، فأن مصدرية ، أي : ولا يغرنك كون جارتك أضوأ منك ، أي : أزهر وأحسن ، ويروى : أوضأ من الوضاءة ، أي : من أجمل وأنظف . والمراد من الجارة الضرة ، والمراد بها عائشة رضي الله تعالى عنها ، وفسر ذلك بقوله : يريد عائشة . قوله : " غسان " ، على وزن فعال ، بالتشديد اسم ماء من جهة الشام نزل عليه قوم من الأزد ، فنسبوا إليه منهم بنو جفنة رهط الملوك ، ويقال هو اسم قبيلة . قوله : " تنعل " ، بضم التاء المثناة من فوق ، وسكون النون من إنعال الدواب ، وأصله تنعل الدواب النعال ; لأنه يتعدى إلى المفعولين ، فحذف أحدهما ، وإنما قلنا ذلك ; لأن النعال لا تنعل ، ويروى تنعل البغال جمع بغل بالباء الموحدة ، والغين المعجمة . قوله : " عشاء " نصب على الظرفية ، أي : في عشاء . قوله : " فضرب بابي " فيه حذف ، وهو عطف عليه ، أي : فسمع اعتزال الرسول صلى الله عليه وسلم عن زوجاته فرجع إلى العوالي ، فجاء إلى بابي فضرب ، والفاء فيه تسمى بالفاء الفصيحة ; لأنها تفصح عن المقدر . قوله : " أنائم هو ؟ " الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار . قوله : " ففزعت " ، أي : فخفت ، القائل هو عمر ، الفاء فيه للتعليل ، أي : لأجل الضرب الشديد فزعت . قوله : " يوشك أن يكون " ، أي : يقرب كونه ، وهو من أفعال المقاربة ، يقال : أوشك يوشك إيشاكا فهو موشك ، وقد وشك وشكا ووشاكة . قوله : " مشربة له " ، قد ذكرنا أن المشربة هي الغرفة الصغيرة ، وكذا قال ابن فارس ، وقال ابن قتيبة : هي كالصفة بين يدي الغرفة . وقال الداودي : هي الغرفة الصغيرة ، وقال ابن بطال : المشربة الخزانة التي يكون فيها طعامه وشرابه ، وقيل لها : مشربة فيما أرى ; لأنهم كانوا يخزنون فيها شرابهم ، كما قيل للمكان الذي تطلع عليه الشمس ويشرق فيه صاحبه : مشرقة . قوله : " لغلام له أسود " ، قيل اسمه رباح ، بفتح الراء ، وتخفيف الباء الموحدة ، وبالحاء المهملة . قوله : " منصرفا " ، نصب على الحال . قوله : " فإذا الغلام " ، كلمة إذا للمفاجأة . قوله : " على رمال حصير " بالإضافة . وقال الكرماني : الرمال ، بضم الراء ، وخفة الميم ، المرمول ، أي : المنسوج . قال أبو عبيد : رملت ، وأرملت ، أي : نسجت ، وقال الخطابي : رمال الحصير ضلوعه المتداخلة بمنزلة الخيوط في الثوب المنسوج ، وقال ابن الأثير : الرمال ما رمل ، أي : نسج ، يقال : رمل الحصير وأرمله فهو مرمول ومرمل ، ورملته شدد للتكثير ، ويقال : الرمال جمع رمل بمعنى مرمول كخلق الله بمعنى مخلوق ، والمراد أنه كأن السرير قد نسج وجهه بالسعف ، ولم يكن على السرير وطاء سوى الحصير . قوله : " متكئ " خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو [ ص: 19 ] متكئ . قوله : " على وسادة " ، بكسر الواو ، وهي المخدة . قوله : " من أدم " بفتحتين ، وهو اسم لجمع أديم ، وهو الجلد المدبوغ المصلح بالدباغ . قوله : " طلقت نساءك " ، همزة الاستفهام فيه مقدرة ، أي : أطلقت . قوله : " أستأنس " ، أي : أتبصر هل يعود رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الرضا ، أو هل أقول قولا أطيب به وقته ، وأزيل منه غضبه . قوله : " غير أهبة " بالفتحات جمع إهاب على غير القياس ، والإهاب الجلد الذي لم يدبغ ، والقياس أن يجمع الإهاب على أهب بضمتين . قوله : " فليوسع " ، هذه الفاء عطف على محذوف ; لأنه لا يصلح أن يكون جوابا للأمر ; لأن مقتضى الظاهر أن يقال : ادع الله أن يوسع ، وتقدير الكلام هكذا ، وقوله : " فليوسع " عطف عليه للتأكيد . قوله : " أفي شك " يعني هل أنت في شك ، والمشكوك هو المذكور بعده ، وهو تعجيل الطيبات . قوله : " استغفر لي " ، طلب الاستغفار إنما كان عن جراءته على مثل هذا الكلام في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن استعظامه التجملات الدنياوية . قوله : " فاعتزل النبي صلى الله عليه وسلم " ، ابتداء كلام من عمر رضي الله تعالى عنه بعد فراغه من كلامه الأول فلذلك عطفه بالفاء . قوله : " من أجل ذلك الحديث " ، أي : اعتزاله إنما كان من أجل إفشاء ذلك الحديث ، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة ، وعلمت بذلك حفصة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اكتمي علي ، وقد حرمت مارية على نفسي ، ففشت حفصة إلى عائشة ، فغضبت عائشة حتى حلف النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقربهن شهرا ، وهو معنى قوله : " ما أنا بداخل عليهن شهرا " . قوله : " من شدة موجدته " ، أي : من شدة غضبه ، والموجدة مصدر ميمي من وجد يجد وجدا وموجدة . قوله : " حين عاتبه الله تعالى " ، ويروى : " حتى عاتبه الله " ، وهذه هي الأظهر ، وعاتبه الله تعالى بقوله : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك قوله : " لتسع وعشرين ليلة " ، باللام في رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره بتسع بالباء الموحدة . قوله : " الشهر تسع وعشرون " ، أي : الشهر الذي آليت به تسع وعشرون ، وأشار به إلى أنه كان ناقصا يوما . قوله : " وكان ذلك الشهر تسع وعشرون " ، ويروى : تسعا وعشرين ، وجه الرواية الأولى أن كان فيها تامة ، فلا يحتاج إلى خبر ، وتسع بالرفع يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : وجد ذلك الشهر ، وهو تسع وعشرون ، ويجوز أن يكون بدلا من الشهر ، وفي الرواية الثانية أن كان ناقصة ، وتسعا وعشرين خبرها . قوله : " فأنزلت آية التخيير " ، وهي قوله تعالى : يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا إلى قوله : أجرا عظيما اختلف العلماء هل خيرهن في الطلاق ، أو بين الدنيا والآخرة ، وهل اختيارها صريح أو كناية ، وهل هو فرقة أم لا ، وهل هو بالمجلس أو بالعرف ، وقال القرطبي : اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه على قولين : الأول : خيرهن بإذن الله تعالى في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترن البقاء . الثاني : خيرهن بين الدنيا فيفارقهن وبين الآخرة فيمسكهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، ذكره الحسن وقتادة ، ومن الصحابة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، فيما رواه أحمد بن حنبل عنه أنه قال : لم يخير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه إلا بين الدنيا والآخرة ، وقالت عائشة : خيرهن بين الطلاق والمقام معه ، وبه قال مجاهد ، والشعبي ، ومقاتل .

                                                                                                                                                                                  واختلفوا في سببه ، فقيل : لأن الله خيره بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة ، فاختار الآخرة على الدنيا ، فلما اختار ذلك أمر الله بتخيير نسائه ليكن على مثل حاله ، وقيل : لأنهن تغايرن عليه فآلى منهن شهرا ، وقيل : لأنهن اجتمعن يوما فقلن : نريد ما يريد النساء من الحلي حتى قال بعضهن : لو كنا عند غير النبي صلى الله عليه وسلم ، إذن لكان لنا شأن ، وثياب ، وحلي ، وقيل : لأن الله تعالى صان خلوة نبيه صلى الله عليه وسلم فخيرهن على أن لا يتزوجن بعده ، فلما أجبن إلى ذلك أمسكهن ، وقيل : لأن كل واحدة طلبت منه شيئا ، وكان غير مستطيع ، فطلبت أم سلمة معلما ، وميمونة حلة يمانية ، وزينب ثوبا مخططا ، وهو البرد اليماني ، وأم حبيبة ثوبا سحوليا ، وحفصة ثوبا من ثياب مصر ، وجويرية معجرا ، وسودة قطيفة خيبرية ، إلا عائشة فلم تطلب منه شيئا ، وكانت تحته صلى الله عليه وسلم تسع نسوة ، خمس من قريش : عائشة ، وحفصة بنت عمر ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأم سلمة بنت أبي الحارث الهلالية . وأربع من غير قريش : صفية بنت حيي الخيبرية ، وميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية . قوله : يا أيها النبي قل لأزواجك قال المفسرون : كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئا من عرض الدنيا ، وآذينه بزيادة النفقة ، والغيرة ، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرهن وآلى أن لا يقربهن شهرا ، ولم يخرج إلى أصحابه في الصلاة ، فقالوا : ما شأنه ؟ قال عمر رضي الله عنه : إن شئتم لأعلمن لكم ما شأنه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فجرى منه ما ذكر [ ص: 20 ] في حديث الباب ، وذكروا أيضا أن عمر رضي الله عنه تتبع نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل يكلمهن لكل واحدة بكلام ، فقالت أم سلمة : يا ابن الخطاب ، أوما بقي لك إلا أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نسائه ، من يسأل المرأة إلا زوجها ، فأنزل الله تعالى هذه الآية بالتخيير ، فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة ، وكانت أحبهن إليه فخيرها ، وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ، ورسوله ، والدار الآخرة ، فرئي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتتابعتها بقية النسوة ، واخترن اختيارها ، وقال قتادة : فلما اخترن الله ورسوله شكر لهن الله على ذلك ، وقصره عليهن ، فقال : لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج قوله : فتعالين أصل تعال أن يقول من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطئ ، ثم كثر حتى استقر استعماله في الأمكنة كلها ، ومعنى تعالين : أقبلن ، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن . قوله : وأسرحكن يعني الطلاق سراحا جميلا من غير إضرار طلاقا بالسنة ، وقرئ بالرفع على الاستئناف . قوله : والدار الآخرة يعني الجنة . قوله : منكن يعني اللاتي آثرن الآخرة أجرا عظيما وهو الجنة .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر ما يستفاد منه ) فيه أن المحدث قد يأتي بالحديث على وجهه ، ولا يختصر ; لأنه قد كان يكتفي حين سأله ابن عباس عن المرأتين بما كان يخبره منه أنهما عائشة وحفصة ، وفيه موعظة الرجل ابنته ، وإصلاح خلقها لزوجها . وفيه الحزن والبكاء لأمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يكرهه ، والاهتمام بما يهمه . وفيه الاستئذان والحجابة للناس كلهم كان مع المستأذن عيال أو لم يكن . وفيه الانصراف بغير صرف من المستأذن عليه . ومن هذا الحديث قال بعض العلماء : إن السكوت يحكم به كما حكم عمر رضي الله تعالى عنه بسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صرفه إياه . وفيه التكرير بالاستئذان . وفيه أن للسلطان أن يأذن أو يسكت أو يصرف ، وفيه تقلله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وصبره على مضض ذلك ، وكانت له عنه مندوحة ، وفيه أنه يسأل السلطان عن فعله إذا كان ذلك مما يهم أهل طاعته . وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه : لا ردا لما أخبر به الأنصاري من طلاق نسائه ، ولم يخبر عمر بما أخبره به الأنصاري رضي الله تعالى عنه ، ولا شكاه لعلمه أنه لم يقصد الإخبار بخلاف القصة ، وإنما هو وهم جرى عليه . وفيه الجلوس بين يدي السلطان ، وإن لم يأمر به إذا استؤنس منه إلى انبساط خلق . وفيه أن أحدا لا يجوز أن يسخط حاله ، ولا ما قسم الله له ، ولا سابق قضائه ; لأنه يخاف عليه ضعف يقينه . وفيه أن التقلل من الدنيا لرفع طيباته إلى دار البقاء خير حال ممن يعجلها في الدنيا الفانية ، والعجل لها أقرب إلى السفه . وفيهالاستغفار من السخط ، وقلة الرضا . وفيه سؤال من الشارع الاستغفار ، ولذلك يجب أن يسأل أهل الفضل والخير الدعاء ، والاستغفار . وفيه أن المرأة تعاقب على إفشاء سر زوجها ، وعلى التحيل عليه بالأذى بالتوبيخ لها بالقول كما وبخ الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم على تظاهرهما ، وإفشاء سره ، وعاتبهن بالإيلاء والاعتزال والهجران ، كما قال تعالى : واهجروهن في المضاجع وفيه أن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما ، وفيه أن المرأة الرشيدة لا بأس أن تشاور أبويها ، أو ذوي الرأي من أهلها في أمر نفسها التي هي أحق بها من وليها ، وهي في المال أولى بالمشاورة لا على أن المشاورة لازمة لها إذا كانت رشيدة كعائشة رضي الله تعالى عنها . وفيه دليل لجواز ذكر العمل الصالح ، وهي في قول عبد الله بن عباس ، فحججت معه ، أي : مع عمر . وفيه الاستعانة في الوضوء إذ هو الظاهر من قوله : " فتوضأ " . وقال ابن التين : ويحتمل الاستنجاء ، وذلك أن يصب الماء في يده اليمنى ثم يرسله حيث شاء ، وفيه رد الخطاب إلى الجمع بعد الإفراد ، وذلك في قوله : " أفتأمن " ، أي : إحداكن ، ثم قال : فتهلكن على رواية تهلكن ، بضم الكاف ، وبالنون المشددة ، قاله الداودي ، وفيه أن ضحكه صلى الله عليه وسلم التبسم إكراما لمن يضحك إليه . وقال جرير : ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت إلا تبسم . وفيه التخيير ، وقد استعمل السلف الاختيار بعده ، فعند الشافعي أن المرأة إذا اختارت نفسها فواحدة ، وهو قول عائشة ، وعمر بن عبد العزيز ، وذكر علي أنها إذا اختارت نفسها فثلاث ، وقال طاوس : نفس الاختيار لا يكون طلاقا حتى يوقعه . وقال الداودي : إن واحدة من نسائه صلى الله عليه وسلم اختارت نفسها فبقيت إلى زمن عمر رضي الله تعالى عنه ، وكانت تأتي بالحطب بالمدينة فتبيعه ، وأنها أرادت النكاح فمنعها عمر فقالت : إن كنت من أمهات المؤمنين اضرب علي الحجاب ، فقال لها ولا كرامة ، وقيل : إنها رعت [ ص: 21 ] غنما ، والذي في ( الصحاح ) أنهن اخترن الله ، ورسوله ، والدار الآخرة .

                                                                                                                                                                                  وقال الإمام الرازي الجصاص الحنفي : اختلف السلف فيمن خير امرأته ، فقال علي : إن اختارت زوجها فواحدة رجعية ، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة ، وعنه : إن اختارت زوجها فلا شيء ، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة ، وقال زيد بن ثابت في " أمرك بيدك " : إن اختارت نفسها فواحدة رجعية . وقال أبو حنيفة ، وصاحباه ، وزفر في الخيار بائنة ، اختارت زوجها فلا شيء ، وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة إذا أراد الزوج الطلاق ، ولا يكون ثلاثا ، وإن نوى ، وقال ابن أبي ليلى ، والثوري ، والأوزاعي : إن اختارت زوجها فلا شيء ، وإن اختارت نفسها فواحدة ، وقال مالك في الخيار : إنه ثلاث إذا اختارت نفسها ، وإن طلقت نفسها بواحدة لم يقع شيء ، وقال النووي : مذهب مالك ، والشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، وجماهير العلماء أن من خير زوجته فاختارت لم يكن ذلك طلاقا ، ولا يقع به فرقة ، وروي عن علي ، وزيد بن ثابت ، والحسن ، والليث أن نفس التخيير يقع به طلقة بائنة ، سواء اختارت زوجها أم لا ، وحكاه الخطابي وغيره عن مذهب مالك . قال القاضي : لا يصح هذا عن مالك .

                                                                                                                                                                                  وفيه جواز اليمين شهرا أن لا يدخل على امرأته ، ولا يكون بذلك موليا ; لأنه ليس من الإيلاء المعروف في اصطلاح الفقهاء ، ولا له حكمه ، وأصل الإيلاء في اللغة الحلف على الشيء ، يقال : منه آلى يؤلي إيلاء ، وتألى تأليا ، وايتلى ايتلاء ، وصار في عرف الفقهاء مختصا بالحلف عن الامتناع من وطء الزوجة ، ولا خلاف في هذا إلا ما حكي عن ابن سيرين ، أنه قال : الإيلاء الشرعي محمول على ما يتعلق بالزوجة من ترك جماع ، أو كلام ، أو إنفاق ، وسيجيء مزيد الكلام في مسائل الإيلاء المصطلح عليه في بابه إن شاء الله تعالى . وفيه جواز دق الباب وضربه ، وفيه جواز دخول الآباء على البنات بغير إذن أزواجهن ، والتفتيش عن الأحوال سيما عما يتعلق بالمزاوجة . وفيه السؤال قائما . وفيه التناوب في العلم والاشتغال به . وفيه الحرص على طلب العلم . وفيه قبول خبر الواحد ، والعمل بمراسيل الصحابة ، وفيه أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان يخبر بعضهم بعضا بما يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقولون : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويجعلون ذلك كالمسند ، إذ ليس في الصحابة من يكذب ، ولا غير ثقة . وفيه أن شدة الوطأة على النساء غير واجبة ; لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سار بسيرة الأنصار فيهن ، وفيه فضل عائشة رضي الله تعالى عنها .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية