الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                الحديث الثالث :

                                553 578 - حدثنا يحيى بن بكير : حدثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن عائشة أخبرته ، قالت : كن نساء المؤمنات [ ص: 224 ] يشهدن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة ، لا يعرفهن أحد من الغلس .

                                التالي السابق


                                ( المروط ) : الأكسية ، وقد سبق تفسيرها .

                                و ( التلفع ) : تغطية الرأس .

                                وروي عن مالك : ( متلففات ) - بفائين - ، والمشهور عنه : ( متلفعات ) أيضا - بالعين ، كرواية الأكثرين .

                                والحديث عند مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة .

                                وقد خرجه من طريقه البخاري في موضع آخر من ( كتابه ) ومسلم - أيضا .

                                وخرجه البخاري - أيضا - من رواية فليح ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة - بنحوه .

                                والحديث : يدل على تغليس النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفجر ، فإنه كان يطيل فيها القراءة ، ومع هذا فكان ينصرف منها بغلس .

                                فإن قيل : ففي حديث أبي برزة ، أنه كان ينصرف من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ، وهذا يخالف حديث عائشة .

                                قيل : لا اختلاف بينهما ، فإن معرفة الرجل رجلا يجالسه في ظلمة الغلس ، لا يلزم منه معرفته في ذلك الوقت امرأة منصرفة متلفعة بمرطها ، متباعدة عنه .

                                وروى الشافعي حديث أبي برزة في كتاب ( اختلاف علي وعبد الله ) ، عن ابن علية ، عن عوف ، عن أبي المنهال ، عن أبي برزة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان [ ص: 225 ] يصلي الصبح ، ثم ننصرف وما يعرف الرجل منا جليسه .

                                قال البيهقي : هذا الكتاب لم يقرأ على الشافعي ، فيحتمل أن يكون قوله : ( وما يعرف الرجل منا جليسه ) وهما من الكاتب ; ففي سائر الروايات : ( حتى يعرف الرجل منا جليسه ) . انتهى .

                                والظاهر : أن أبا برزة أراد أن الرجل إنما كان يعرف جليسه إذا تأمل وردد فيه نظره .

                                ويدل عليه : أحاديث أخر ، منها : حديث قيلة بنت مخرمة ، أنها قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي بالناس صلاة الغداة ، وقد أقيمت حين انشق الفجر ، والنجوم شابكة في السماء ، والرجال لا تكاد تتعارف مع ظلمة الليل .

                                خرجه الإمام أحمد .

                                وهو إخبار عن حال الصلاة دون الانصراف منها .

                                وروى أبو داود الطيالسي وغيره من رواية حرملة العنبري ، قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فصليت معه الغداة ، فلما قضى الصلاة نظرت في وجوه القوم ، ما أكاد أعرفهم .

                                وخرج البزار والإسماعيلي من رواية حرب بن سريج ، عن محمد بن علي بن حسين ، عن محمد ابن الحنفية ، عن علي بن أبي طالب ، قال : كنا نصلي [ ص: 226 ] مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح ، وما يعرف بعضنا وجه بعض .

                                حرب بن سريج ، قال أحمد : ليس به بأس ، ووثقه ابن معين . قال أبو حاتم : ليس بقوي ; منكر عن الثقات . وفي الباب أحاديث أخر .

                                والكلام هاهنا في مسألتين :

                                المسألة الأولى :

                                في وقت الفجر :

                                أما أول وقتها : فطلوع الفجر الثاني ، هذا مما لا اختلاف فيه .

                                وقد أعاد أبو موسى وابن عمر صلاة الفجر لما تبين لهما أنهما صليا قبل طلوع الفجر .

                                وروى ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : الفجر فجران : فجر يطلع بليل ، يحل فيه الطعام والشراب ولا يحل فيه الصلاة . وفجر تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام والشراب ، وهو الذي ينتشر على رءوس الجبال .

                                ورواه أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، فرفعه .

                                خرجه من طريقه ابن خزيمة وغيره .

                                والموقوف أصح ، قاله البيهقي وغيره .

                                وروى ابن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( الفجر فجران ، فإن الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة فيه [ ص: 227 ] ولا يحرم الطعام ) .

                                وروي عن ابن أبي ذئب - بهذا الإسناد - مرسلا من غير ذكر : جابر .

                                قال البيهقي : هو أصح .

                                وأما آخر وقت الفجر : فطلوع الشمس ، هذا قول جمهور العلماء من السلف والخلف ، ولا يعرف فيه خلاف ، إلا عن الإصطخري من الشافعية ، فإنه قال : إذا أسفر الوقت جدا خرج وقتها وصارت قضاء .

                                ويرد قوله : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدركها ) .

                                وفي ( صحيح مسلم ) عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس ) .

                                وفي رواية له - أيضا - : ( وقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول ) .

                                المسألة الثانية :

                                في أن الأفضل : هل هو التغليس بها في أول وقتها ، أم الإسفار بها ؟ وفيه قولان :

                                أحدهما : أن التغليس بها أفضل ، وروي التغليس بها عن أبي بكر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي موسى ، وابن عمر ، وابن الزبير ، وأنس بن مالك ، وأبي هريرة ، ومعاوية ، وعمر بن عبد العزيز ، وهو قول الليث ، والأوزاعي ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وداود .

                                [ ص: 228 ] وقد ذكرنا في هذا الباب عامة أحاديث التغليس بالفجر .

                                وذهب آخرون إلى أن الإسفار بها أفضل ، وروي الإسفار بها عن عثمان ، وعلي وابن مسعود .

                                روى الأوزاعي : حدثني نهيك بن يريم الأوزاعي : حدثني مغيث بن سمي ، قال : صليت مع عبد الله بن الزبير الصبح بغلس ، فلما سلم أقبلت على ابن عمر ، فقلت : ما هذه الصلاة ؟ قال : هذه صلاتنا ، كانت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر ، فلما طعن عمر أسفر بها عثمان .

                                خرجه ابن ماجه .

                                وذكر الترمذي في ( علله ) عن البخاري ، أنه قال : هو حديث حسن .

                                وقال يزيد الأودي : كنت أصلي مع علي صلاة الغداة ، فتخيل إلي أنه يستطلع الشمس .

                                وقال علي بن ربيعة : سمعت عليا يقول : يا ابن التياح ، أسفر أسفر بالفجر .

                                وقال أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه كان يسفر بصلاة الغداة .

                                وقال نافع بن جبير : كتب عمر إلى أبي موسى أن صل الفجر إذا نور النور .

                                وممن كان يرى التنوير بها : الربيع بن خثيم وسعيد بن جبير ، وكان النخعي [ ص: 229 ] يسفر بها .

                                ذكر ذلك كله أبو نعيم في ( كتاب الصلاة ) بأسانيده .

                                وقال : رأينا سفيان يسفر بها .

                                وممن رأى الإسفار بها : طاوس وفقهاء الكوفيين ، مثل : سفيان والحسن بن حي وأبي حنيفة وأصحابه .

                                وروى وكيع ، عن سفيان ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : ما اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على شيء ما اجتمعوا على التنوير بالفجر .

                                وروى ابن أبي شيبة بإسناده ، عن أبي الدرداء ، قال : أسفروا بهذه الصلاة ، فإنه أفقه لكم .

                                واستدل من رأى الإسفار : بما روى عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع بن خديج ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( أسفروا بالفجر ; فإنه أعظم للأجر ) .

                                خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي .

                                وقال : حديث حسن صحيح .

                                وخرجه ابن حبان في ( صحيحه ) .

                                وقال العقيلي : إسناده جيد .

                                قال الأثرم : ليس في أحاديث هذا الباب أثبت منه .

                                يشير إلى أن في الباب أحاديث وهذا أثبتها ، وهو كما قال .

                                وأجاب من يرى التغليس أفضل عن هذا بأجوبة : [ ص: 230 ] منها : تضعيفه ، وسلك ذلك بعض أصحابنا الفقهاء ، وسلكه ابن عبد البر ، وقال : مدار الحديث على عاصم بن عمر بن قتادة ، وليس بالقوي .

                                كذا قال ; وعاصم هذا مخرج حديثه في ( الصحيحين ) ، وقال ابن معين وأبو زرعة : ثقة .

                                وقد يعلل هذا بالاختلاف في إسناده على عاصم بن عمر بن قتادة :

                                فرواه ابن إسحاق وابن عجلان ، عن عاصم ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع كما تقدم .

                                ورواه زيد بن أسلم ، عن عاصم بن عمر ، واختلف عنه :

                                فرواه أبو غسان ، عن زيد بن أسلم ، عن عاصم ، عن محمود بن لبيد ، عن رجال من قوم من الأنصار ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما أسفرتم بالصبح ، فإنه أعظم للأجر ) .

                                وخرجه من طريقه النسائي كذلك .

                                ورواه يعقوب بن عبد الرحمن القاري ، عن زيد بن أسلم ، عن عاصم ، عن رجال من قومه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر : محمود بن لبيد .

                                ورواه هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن محمود بن لبيد ، عن رجال من الصحابة - ولم يذكر : عاصما .

                                ورواه وكيع ، عن هشام ، عن زيد - مرسلا .

                                ورواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن محمود بن لبيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                [ ص: 231 ] وخرجه من طريقه الإمام أحمد .

                                وروي عن شعبة ، عن أبي داود ، عن زيد بن أسلم ، عن محمود بن لبيد ، عن رافع .

                                قال البزار : أبو داود هذا هو الجزري ، لم يسند عنه شعبة إلا هذا .

                                وقال أبو حاتم الرازي : شيخ واسطي مجهول .

                                ورواه بقية ، عن شعبة ، عن داود البصري ، عن زيد .

                                وزعم بعضهم : أنه داود بن أبي هند ، وهو بعيد .

                                وزيد بن أسلم لم يسمع من محمود بن لبيد .

                                ورواه يزيد بن عبد الملك ، عن زيد بن أسلم ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                وهو وهم . قاله الدارقطني وغيره .

                                ورواه إسحاق الحنيني ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن بجيد الحارثي ، عن جدته حواء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                ولم يتابع عليه الحنيني ، وهو وهم منه ، قاله الدارقطني ، وأشار إليه الأثرم وغيره .

                                ورواه فليح بن سليمان ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أبيه ، عن [ ص: 232 ] جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                قال البزار : لا نعلم أحدا تابع فليحا على هذا الإسناد .

                                والصواب من الخلاف على زيد بن أسلم ، عن عاصم ، عن محمود ، عن رافع - : قاله الدارقطني .

                                قلت : أما ابن إسحاق وابن عجلان فروياه عن عاصم بهذا الإسناد ، وأما زيد فاختلف عنه كما ترى ، ولا نعلم أحدا قال عنه مثل قول ابن إسحاق وابن عجلان ، فكيف يكون هو الصواب عن زيد ؟ فرجع الأمر إلى ما رواه ابن إسحاق وابن عجلان ، عن عاصم وليسا بالمبرزين في الحفظ .

                                ومنها : تأويله ، واختلف المتأولون له :

                                فقال الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم : المراد بالإسفار : أن يتبين الفجر ويتضح ، فيكون نهيا عن الصلاة قبل الوقت ، وقبل تيقن دخول الوقت .

                                وذكر الشافعي : أنه يحتمل أن بعض الصحابة كان يصلي قبل الفجر الثاني ، فأمر بالتأخير إلى تبين الفجر وتيقنه .

                                ورد ذلك بعضهم بأن قوله : ( هو أعظم للأجر ) يدل على أن في ترك هذا الإسفار أجرا ، ولا أجر في الصلاة قبل وقتها إلا بمعنى أنها تصير نافلة .

                                ومنهم من قال : أمروا أن لا يدخلوا في صلاة الفجر حتى يتيقنوا طلوع الفجر ، وقيل لهم : هو أفضل من الصلاة بغلبة الظن بدخوله .

                                وهذا جواب من يقول بجواز الدخول في الصلاة إذا غلب على الظن دخول وقتها من أصحابنا كالقاضي أبي يعلى وغيره ، وأكثر أصحاب الشافعي ، وحملوا حديث ابن مسعود في تقديم النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم النحر بالمزدلفة على أنه صلاها يومئذ بغلبة ظن دخول الوقت .

                                [ ص: 233 ] وكلام أحمد يدل على أنه لا يدخل في الصلاة حتى يتيقن دخول وقتها كما سبق .

                                ومن أصحابنا من حمل حديث ابن مسعود في الصلاة بالمزدلفة على أن عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بعد تيقن طلوع الفجر تأخير الصلاة بقدر الطهارة والسعي إلى المسجد ، ولم يؤخر هذا القدر بالمزدلفة . وهذا أشبه .

                                واستدل بعض من فسر الإسفار المأمور به بتبين الفجر : بأن العرب تقول : أسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته وأبانت عنه فدل على أن الإسفار هو التبيين والظهور .

                                وفي هذا نظر ; فإنه لا يعرف في اللغة أسفرت المرأة عن وجهها ، إنما يقال : سفرت ، وأما الإسفار فإنما يقال في الفجر والصبح ، يقال : سفر ، وأسفر ; قال تعالى : والصبح إذا أسفر ومعناه أضاء وأنار ، ويقال : أسفر وجهه من السرور ، إذا أنار ، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سر استنار وجهه كأنه فلقة قمر . ومنه قوله تعالى : وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة فليس معنى قوله : ( أسفروا بالفجر ) إلا أنيروا به .

                                لكن : هل المراد إنارة الأفق بطلوع الفجر فيه ابتداء ، أم إنارة الأرض بظهور النور على وجهها ؟ هذا محل نظر .

                                وحمله على الأول أقرب ; لأنه موافق فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين .

                                وعلى هذا المعنى يحمل كلام أحمد ، بل هو ظاهره أو صريحه ، وهو حسن .

                                ويدل عليه : ما روى مسلم الملائي ، عن مجاهد ، عن قيس بن السائب ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الصبح إذا يغشى النور السماء . وذكر الحديث .

                                خرجه الطبراني .

                                [ ص: 234 ] وقال آخرون : بل الإسفار يكون باستدامته الصلاة ، لا بالدخول فيها ، فيدخل فيها بغلس ، ويطيلها حتى يخرج منها وقد أسفر الوقت .

                                وقد روي هذا المعنى عن عطاء ، وقاله - أيضا - من أصحابنا : أبو حفص البرمكي والقاضي أبو يعلى في ( خلافه الكبير ) ، ورجحه الطحاوي .

                                ويعضد هذا : حديث أبي برزة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينصرف من صلاة الفجر حتى يعرف الرجل جليسه ، ويقرأ فيها بالستين إلى المائة .

                                وقد رد هذا القول على من قاله كثير من العلماء ، منهم : الشافعي وابن عبد البر والبيهقي ، وقال : أكثر الأحاديث تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل فيها بغلس ، ويخرج منها بغلس ; لحديث عائشة وغيره ، وكذلك أكثر أصحابنا ، وإن كان منهم من كان يخرج منها بإسفار ويطيل القراءة ، كما روي عن الصديق لما قرأ بالبقرة ، وعن عمر - أيضا .

                                وقد روي أن عمر هو الذي مد القراءة في الفجر ، وروي عن عثمان أنه تبعه على ذلك .

                                وروي عن علي ، أنه كان يقصر فيها القراءة ، ولعله لما كان يسفر بها .

                                ومن الناس من ادعى أن في هذه الأحاديث ناسخا ومنسوخا ، وهم فرقتان .

                                فرقة منهم ادعت أن الأحاديث في الإسفار منسوخة .

                                واستدلوا بما في حديث أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن بشير بن أبي مسعود ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديث المواقيت بطوله ، وقال [ ص: 235 ] في آخره : وصلى الصبح مرة بغلس ، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها ، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات ، لم يعد إلى أن يسفر .

                                خرجه أبو داود .

                                وقد تقدم أن أسامة تفرد به بهذا الإسناد ، وإنما أصله : عن الزهري - مرسلا .

                                وفرقة ادعت أن أحاديث التغليس منسوخة بالإسفار ، منهم : الطحاوي .

                                وزعم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغلس بالفجر قبل أن تتم الصلوات لما قدم المدينة ، ثم لما أتمت الصلوات أربعا أربعا أطال في قراءة الفجر ، وغلس بها حينئذ .

                                وأخذه من حديث عائشة الذي ذكرناه في أول ( الصلاة ) : أن الصلوات أتمت بالمدينة أربعا ، وأقرت الفجر لطول القراءة .

                                وهذا في غاية البعد ، ولم ترد عائشة أنه حينئذ شرعت طول القراءة فيها عوضا عن الإتمام ، وإنما أخبرت أنها تركت على حالها لما فيها من طول القراءة ، ولم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخفف القراءة في الفجر ثم أطالها ، ولا أنه لما كان يخففها كان يسفر بها ، وكل هذه ظنون لا يصح منها شيء .

                                واختلف القائلون باستحباب التغليس بها إذا كان جيران المسجد يشق عليهم التغليس ، ولا يجتمعون في المسجد إلا عند الإسفار : هل الأفضل حينئذ التغليس ، أم الإسفار ؟

                                فقالت طائفة : التغليس أفضل بكل حال وهو قول مالك والشافعي وحكي رواية عن أحمد . وقالت طائفة : الإسفار حينئذ أفضل ، وهو منصوص أحمد في رواية غير واحد من أصحابه .

                                [ ص: 236 ] وجعله القاضي أبو يعلى في ( خلافه الكبير ) [و] في ( جامعه الكبير ) مذهب أحمد رواية واحدة ، ولم يحك عنه في ذلك خلافا في هذين الكتابين ، وهما من آخر كتبه .

                                واستدلوا بحديث جابر في مراعاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حال المأمومين في العشاء الآخرة ، وقد سبق .

                                وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بذلك معاذ بن جبل لما أرسله إلى اليمن ، فأمره أن يغلس بالفجر في الشتاء ; لطول الليل واستيقاظ الناس في أول الوقت ، وأن يؤخر في الصيف ، لأن الناس ينامون لقصر الليل فيه .

                                وحمل بعض أصحابنا أحاديث الأمر بالإسفار على حالة تأخير المأمومين .

                                وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعجل الصبح تارة ، ويؤخرها تارة ، وعن جماعة من السلف .

                                فروى الإمام أحمد : حدثنا أبو أحمد الزبيري : ثنا أبو شعبة الطحان جار الأعمش ، عن أبي الربيع ، قال : قلت لابن عمر : إني أصلي معك الصبح ، ثم ألتفت فلا أرى وجه جليسي ، ثم أحيانا تسفر ؟ قال : كذلك رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي ، وأحببت أن أصليها كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليها .

                                وهذا إسناد ضعيف .

                                نقل البرقاني ، عن الدارقطني ، قال : أبو شعبة متروك ، وأبو الربيع : مجهول .

                                وروينا من طريق أبي خالد الواسطي ، عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الفجر فيغلس ويسفر ، ويقول : ( ما بين هذين وقت ، لئلا يختلف المؤمنون ) .

                                [ ص: 237 ] قال ابن أبي حاتم : سألت أبي عن هذا الحديث ، فقال : أبو خالد الواسطي هو عمرو بن خالد ، ضعيف الحديث جدا .

                                وروى بيان الرقاشي ، قال : قلت لأنس : حدثني عن وقت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة - فذكر حديث المواقيت ، وقال : كان يصلي الغداة عند الفجر إلى أن ينفسح البصر ، كل ذلك وقت .

                                بيان هذا هو ابن جندب ، يكنى أبا سعيد . وقال أبو داود : لا أعلم له إلا حديث المواقيت . وقال ابن معين : هو مجهول . وله شاهد من وجه آخر أقوى منه .

                                خرجه الإمام أحمد والنسائي من طريق شعبة ، عن أبي صدقة ، عن أنس ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الفجر إلى أن ينفسح البصر .

                                وأبو صدقة مولى أنس ، أثنى عليه شعبة خيرا ، ووثقه النسائي .

                                وممن روي عنه التغليس والإسفار : عمر وعثمان وعلي وابن مسعود - رضي الله عنهم .

                                قال أبو نعيم : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن خرشة بن الحر ، قال : كان عمر يغلس بالفجر وينور .

                                وحدثنا سيف بن هارون ، عن عبد الملك بن سلع ، عن عبد خير ، قال : كان علي ينور بها أحيانا ، ويغلس بها أحيانا .

                                [ ص: 238 ] وفعل هؤلاء يحتمل أمرين :

                                أحدهما : أن يكون ذلك على حسب مراعاة حال المأمومين في تقديمهم وتأخيرهم ، وقد روي هذا صريحا عن عمر .

                                والثاني : أن يكون التقديم والتأخير عندهم سواء في الفضل .

                                قال ابن عبد البر : ذهب طائفة إلى أن أول الوقت وآخره سواء في الفضل ; لقوله : ( ما بين هذين وقت ) .

                                قال : ومال إلى ذلك بعض أصحاب مالك ، وذهب إليه أهل الظاهر ، وخالفهم جمهور العلماء .

                                هذا ; مع أنه حكى عن داود أن التغليس بالفجر أفضل ، وحكى الاتفاق من المسلمين على أن التعجيل بالمغرب أفضل ، من يقول : لها وقت ، ومن يقول : إن وقتها متسع إلى العشاء .

                                واختلف - أيضا - من يقول بأن التغليس أفضل من الإسفار : هل حكمه كله واحد ، أو مختلف ؟

                                فقال أصحاب الشافعي : آخر وقت الاختيار إذا أسفر - أي أضاء - ، ثم يبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس .

                                وقال الإصطخري منهم : يخرج الوقت بالإسفار جدا ، فتكون الصلاة معه قضاء ، وقد سبق حكاية قوله والرد عليه .

                                وقال بعض الشافعية : يكره تأخير الصبح بغير عذر إلى طلوع الحمرة - يعني : الحمرة التي قبيل طلوع الشمس .

                                واختلف أصحابنا في ذلك :

                                فمنهم من قال : وقتها كله مختار إلى طلوع الشمس ; لأن أبا موسى روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه سأله سائل عن وقت الصلاة ، فصلى بهم في يومين ، فقدم [ ص: 239 ] في الأول ، [وأخر في الثاني] ، وأخر في اليوم الثاني الصبح حتى انصرف منها ، والقائل يقول : طلعت الشمس أو كادت .

                                خرجه مسلم .

                                وقد سبق عن علي بن أبي طالب نحو ذلك .

                                ومنهم من قال : يذهب وقت الاختيار بالإسفار ، ويبقى وقت الإدراك إلى طلوع الشمس ، وهو قول القاضي أبي يعلى في ( كتابه المجرد ) .

                                وقد روي عن أحمد ما يدل على كراهة التأخير إلى الإسفار الفاحش .

                                قال إسحاق بن هانئ في ( مسائله ) : خرجت مع أبي عبد الله من المسجد في صلاة الفجر ، وكان محمد بن محرز يقيم الصلاة ، فقلت لأبي عبد الله : هذه الصلاة على مثل حديث رافع بن خديج في الإسفار ؟ فقال : لا ، هذه صلاة مفرط ; إنما حديث رافع في الإسفار أن يرى ضوء الفجر على الحيطان . قال :

                                وسمعت أبا عبد الله يقول : الحديث في التغليس أقوى .

                                يشير أحمد إلى أنه مع تعارض الأحاديث يعمل بالأقوى منها ، وأحاديث التغليس أقوى إسنادا وأكثر .

                                وكذلك الشافعي أشار إلى ترجيح أحاديث التغليس بهذا ، وعضده موافقة ظاهر القرآن من الأمر بالمحافظة على الصلوات .

                                وقد حمل أحمد حديث رافع في الإسفار في هذه الرواية على ظاهره ، لكنه فسر الإسفار برؤية الضوء على الحيطان ، وجعل التأخير بعده تفريطا ، وهذا [ ص: 240 ] خلاف ما يقول أصحابنا .

                                وروى ابن القاسم ، عن مالك ، أن آخر وقتها الإسفار . وكذلك روى ابن عبد الحكم عنه ، أن آخر وقتها الإسفار الأعلى .

                                وهذا يشبه قول الإصطخري ، إلا أن يكون مراده آخر وقت الاختيار .

                                وأما من يرى أن الإسفار أفضل فلا كراهة عندهم في التأخير إلى قريب طلوع الشمس ، وهو أفضل عندهم ، وهو قول الثوري والحسن بن حي وأبي حنيفة وأصحابه .

                                واستدل من كره التأخير إلى شدة الإسفار بما روى الحارث بن وهب ، عن أبي عبد الرحمن الصنابحي ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تزال أمتي في مسكة ما لم يعملوا بثلاث : ما لم يؤخروا المغرب انتظار الظلام مضاهاة اليهود ، وما لم يؤخروا الفجر إمحاق النجوم مضاهاة النصارى ، وما لم يكلوا الجنائز إلى أهلها ) .

                                خرجه الإمام أحمد ، وهو مرسل .

                                وإن ثبت حمل على اجتماع الأمة على ذلك ; فإنه يخشى أن يظن أن ما قبل ذلك ليس بوقت .

                                والحارث بن وهب ، قال البخاري : روايته عن الصنابحي مرسلة . يعني : لم يسمع منه .




                                الخدمات العلمية