الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                الحديث الثالث :

                                قال :

                                533 558 - حدثنا أبو كريب : ثنا أبو أسامة ، عن بريد ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : ( مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا إلى الليل ، فعملوا إلى نصف النهار ، فقالوا : لا حاجة لنا إلى أجرك ، فاستأجر آخرين ، فقال : أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت ، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا : لك ما عملنا ، فاستأجر قوما فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين ) .

                                التالي السابق


                                ظاهر هذه الرواية : يدل على أن كلا من الفريقين اليهود والنصارى أبطلوا عملهم ولم يسقطوا أجرهم فلم يستحقوا شيئا ، وهذا بخلاف ما في حديث ابن عمر الماضي أنهم أعطوا قيراطا قيراطا .

                                وقد يحمل حديث ابن عمر على من مات قبل نسخ دينه وتبديله ، وكان عمله على دين حق ، وحديث أبي موسى هذا على من أدركه التبديل والنسخ ، [ ص: 156 ] فاستمر على عمله ، فإنه قد أحبط عمله وأبطل أجره ، فلم يستحق شيئا من الأجر .

                                فإن قيل : فمن مات قبل التبديل والنسخ مؤمن ، له أجره عند الله ، كما قال الله تعالى : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

                                قيل : هو كذلك ، وإنما لهم أجر واحد على عملهم ; لأنه شرط لهم ذلك ، كما جاء في رواية أخرى صريحة من حديث أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، وهذه الأمة شرط لها على إتمام عمل بقية اليوم أجران .

                                وقوله : ( فاستكملوا أجر الفريقين ) ; لأنه لما بطل عملهما وسقط أجرهما ، وعمل المسلمون بقية النهار على قيراطين ، فكأنهم أخذوا القيراطين منهما واستحقوا ما كان لهما على عملهما وحازوه دونهما ، ولهذا قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ولهذا اعترف أهل الكتاب أنهم لم يظلموا من أجرهم شيئا .

                                وفي حديث أيوب : ( أن اليهود استؤجرت لتعمل إلى الظهر على قيراط ، والنصارى إلى العصر على قيراط ) ، وهذا صحيح ; فإن كلا من الطائفتين أشعر بنسخ دينه وتأقيته ، وأنه يعمل عليه إلى أن يأتي نبي آخر بكتاب آخر مصدق له ، وإن لم يذكر لهم ذلك الوقت معينا .

                                وقد تنازع أهل الأصول فيمن أمر أن يعمل عملا إلى وقت غير معين ، ثم [ ص: 157 ] أمر بترك ذلك العمل ، والعمل بغيره : هل هو نسخ في حقه ، أم لا ؟ مثل قوله تعالى : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره

                                وفي الجملة ، فاستحقاق اليهود والنصارى قيراطا واحدا على عملهم وإحباط أجرهم وإبطاله هو بالنسبة إلى طائفتين منهم ، لا إلى طائفة واحدة .

                                وقد استدل أصحابنا بحديث أبي موسى هذا على أن من استؤجر لعمل في مدة معينة ، فعمل بعضه في بعض المدة ، ثم ترك العمل في باقي المدة باختياره من غير عذر ، أنه قد أسقط حقه من الأجرة ، ولا يستحق منها شيئا .

                                ومقصود البخاري بهذا الحديث - أيضا - : أن ضرب المثل لعمل المسلمين من وقت صلاة العصر إلى غروب الشمس يؤخذ منه بقاء وقت صلاة العصر وامتداده إلى غروب الشمس ، كما سبق .



                                الخدمات العلمية