الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله ولم يعد بعودها إلى القلة ) أي لم يعد وجوب الترتيب بعود الفوائت إلى القلة بسبب القضاء بعد سقوطه بكثرتها كما إذا ترك رجل صلاة شهر مثلا ثم قضاها إلا صلاة ثم صلى الوقتية ذاكرا لها فإنها صحيحة لأن الساقط قد تلاشى فلا يحتمل العود كالماء القليل إذا تنجس فدخل عليه الماء الجاري حتى كثر وسال ثم عاد إلى القلة لا يعود نجسا واختاره الإمام السرخسي والإمام البزدوي حيث قالا ومتى سقط الترتيب لم يعد في أصح الروايتين وصححه أيضا في الكافي والمحيط وفي معراج الدراية وغيره وعليه الفتوى وقيل يعود الترتيب وليس هو من قبيل عود الساقط بل من قبيل زوال المانع كحق الحضانة إذا ثبت للأم ثم تزوجت ثم ارتفعت الزوجية فإنه يعود لها واختاره في الهداية وقال إنه الأظهر مستدلا بما روي عن محمد فيمن ترك صلاة يوم وليلة وجعل يقضي من الغد مع كل وقتية فائتة فالفوائت جائزة على كل حال والوقتيات فاسدة إن قدمها لدخول الفوائت في حد القلة [ ص: 94 ] وإن أخرها فكذلك إلا العشاء الأخيرة لأنه لا فائتة عليه في ظنه حال أدائها ا هـ .

                                                                                        ورده في الكافي والتبيين بأنه لا دلالة فيه لأن الترتيب لو سقط لجازت الوقتية التي بدأ بها ولأن الترتيب إنما يسقط بخروج وقت السادسة ولم يخرج هنا ولا يمكن حمله على ما روي عن محمد أن الترتيب يسقط بدخول وقت السادسة لأن حكمه بفساد الوقتية التي بدأ بها يمنع من ذلك إذ لو كان مراده على تلك الرواية لما فسدت التي بدأ بها أول مرة لسقوط الترتيب عنده وذكره في فتح القدير وارتضاه ورده الشيخ قاسم في حاشيته على الزيلعي بأنه مبني على ما روي عن محمد فقد نص جماعة من محققي المشايخ على أن من أصل محمد أنه إذا دخل وقت السادسة سقط الترتيب إلا أن سقوطه يتقرر بخروج وقت السادسة فإذا أدى وقتية توقف جوازها على قضاء الفائتة وعدمه فإذا قضي دخلت الفوائت في حد القلة فبطلت الوقتية لأنها أديت عند ذكر الفائتة ولذا صرح في رواية سماعة عن محمد في تعليل ذلك بقوله لأنه كلما قضى فائتة عادت الفوائت أربعا وفسدت الوقتية إلا العشاء فإنه صلاها وعنده أن جميع ما عليه قد قضاه فأشبه الناسي ا هـ .

                                                                                        وما أجيب به في المعراج من أن المسألة مفروضة فيمن مد الوقتية التي شرع فيها إلى آخر الوقت ثم قضى الفائتة بعد خروج الوقت ولا بد أن يكون الشروع في سعة الوقت إذ لو كان عند الضيق لكانت الوقتية صحيحة رد بقوله في الكتاب صلى مع كل فائتة وقتية ومع للقران وذكر في فتح القدير ولا يخفى أن إبطال الدليل المعين لا يستلزم بطلان المدلول فكيف بالاستشهاد وحاصله بطلان أن يكون ذلك نصا عن محمد في المسألة فليكن كذلك فهو غير منصوص عليه من المتقدمين لكن الوجه يساعده بجعله من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته وذلك أن سقوط الترتيب كان بعلة الكثرة المفضية إلى الحرج أو أنها مظنة تفويت الوقتية فما قلت زالت العلة فعاد الحكم الذي كان قبل كحق الحضانة ا هـ .

                                                                                        وفيه نظر لأنا قد نقلنا عن الإمامين السرخسي والبزدوي كما في غاية البيان أنه متى سقط الترتيب لم يعد في أصح الروايتين وفي المحيط لم يعد في أصح الروايات فكيف يقال إنه غير منصوص عليه من المتقدمين وهو أصح الروايات عن المتقدمين إذ الروايات إنما هي منسوبة إليهم لا إلى المشايخ وليس هو من قبيل زوال المانع في التحقيق لأن المقتضي للترتيب مع كثرة الفوائت ليس بموجود أصلا ولذا اتفقت كلمتهم متونا وشروحا على أن الترتيب يسقط بثلاثة أشياء فصرح الكل بالسقوط والساقط لا يعود اتفاقا بخلاف حق الحضانة فإنه المقتضي لها موجود مع التزوج لأنه القرابة المحرمية مع صغر الولد وقد منع التزوج من عمل المقتضي فإذا زال التزوج زال المانع فعمل المقتضي عمله فالفارق بين البابين وجود المقتضي وعدمه ولذا كان الأصح في مسألة المني [ ص: 95 ] إذا فرك من الثوب ثم أصابه ماء وأخواتها عدم عود النجاسة كما ذكرنا

                                                                                        ولو قال المصنف ولم يعد بزوالها ليكون الضمير راجعا إلى الثلاثة أعني ضيق الوقت والنسيان وصيرورتها ستا لكان أولى لأن الحكم كذلك فيها قال في المجتبى ولو سقط الترتيب لضيق الوقت ثم خرج الوقت لا يعود على الأصح حتى لو خرج في خلال الوقتية لا تفسد على الأصح وهو مؤد على الأصح لا قاض واقتداء المسافر بعد غروب الشمس في العصر بمقيم شرع فيه في الوقت لا يصح وكذا لو سقط مع النسيان ثم تذكر لا يعود ولو نسي الظهر وافتتح العصر ثم ذكره عند احمرار الشمس يمضي لضيق الوقت وكذا لو غربت وكذا لو افتتحها عند الاصفرار ذاكرا ثم غربت ا هـ .

                                                                                        وقوله واقتداء المسافر ينتجه كونه مؤديا كما لا يخفى والذي ظهر للعبد الضعيف أن ما ذكره في المجتبى من عدم عوده بالتذكر خطا لأن كلمتهم اتفقت عند ذكر المسائل الاثنى عشرية السابقة أنه لو تذكر فائتة وهو يصلي فإن كان قبل القعود قدر التشهد بطلت صلاته اتفاقا وإن كان بعد القعود بطلت عنده وعندهما لا تبطل فقد حكموا بعوده بالتذكر ولهذا قال في معراج الدراية والنهاية أنه لو سقط بالنسيان وضيق الوقت فإنه يعود بالتذكر وسعة الوقت بالاتفاق ا هـ .

                                                                                        ولذا والله أعلم اقتصر في المختصر على عدم العود بقلة الفوائت وإن حمل ما في المجتبى على تذكره بعد الفراغ من الصلاة فيكون محل الخلاف الترتيب بين الفائتة والوقتية في المستقبل لا فيما صلاه حالة النسيان وتذكر قبل الفراغ فبعيد مخالف لسياق كلامه في ضيق الوقت لتصريحه فيه بعدم العود ولو خرج في خلاله بقي هاهنا كلام وهو أنه بعد أن حكم باستحقاق الترتيب بين الفائتة والوقتية وبين الفوائت حكم بسقوطه بثلاثة أشياء فشمل النوعين وقد قدمنا أن سقوطه بكثرة الفوائت يشمل النوعين

                                                                                        وأما بالنسيان فالظاهر شموله لهما وأما بضيق الوقت فهو خاص بالترتيب بين الفائتة والوقتية وأما الترتيب فيما بين الفوائت فلا يسقط به حتى لو قدم المتأخرة من الفوائت عند ضيق الوقت لا يجوز لأنه ليس بمسقط حقيقة وإنما قدمت الوقتية عند العجز عن الجمع بينهما لقوتها مع بقاء الترتيب كما ذكره الشارح .

                                                                                        [ ص: 94 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 94 ] ( قوله مستدلا بما روي عن محمد إلخ ) وجه الاستدلال أنه إذا قدم الوقتية صارت هي سادسة المتروكات فسقط الترتيب فعلى تقدير أن لا يعود كان ينبغي أنه إذا قضى بعدها فائتة حتى عادت المتروكات الوقتية الثانية قدمها أو أخرها وإن وقعت بعد عدة لا توجب سقوط الترتيب أعني خمسا أو أربعا لسقوط الترتيب قبل أن تصير إلى الخمس كذا في الفتح ( قوله لأنه لا فائتة عليه في ظنه حال أدائها ) محمول على ما إذا كان جاهلا أما لو اعتقد وجوب الترتيب كانت أيضا فاسدة وعليه أن يقال إذا كان الفرض جهل وجوب الترتيب وإنه معتبر في صحة العشاء إذا أخرها لمصادفته محل اجتهاد فلا وجه للفصل بين تقديمها وتأخيرها بل يجب أن يصح وإن قدمها لأن الفرض أنه جاهل وجوب الترتيب بينها وبين الفائتة التي عليه والجواب يعلم من جوابهم لطلب الفرق بين ما لو صلى الظهر بغير طهارة ثم صلى العصر ذاكرا لها إلى آخر ما مر من المسألة وجوابها وكذا ما نحن فيه فإنه إذا أخر العشاء ففسادها بسبب فساد الوقتيات وفساد الوقتيات هو الفساد المجتهد فيه فهو نظير العصر في المسألة المذكورة وإذا قدمها ففسادها حينئذ لوجود الفائتة بيقين وهي آخر المتروكات كذا حققه في فتح القدير ( قوله ولم يخرج هنا ) أي وحينئذ فإن قضى فائتة قبل خروج الوقت بقيت الفوائت أربعا وصارت خمسا بخروج الوقت فكان العود من الخمس إلى الأربع ومن الأربع إلى الخمس فلم تتحقق الكثرة ( قوله وما أجيب به في المعراج ) أي عن الرد على صاحب الهداية المذكورة في الكافي والتبيين ( قوله المسألة ) أي التي استدل بها في الهداية ( قوله رد بقوله في الكتاب إلخ ) أقول : قد ذكر في المعراج هذا الرد بصورة سؤال ثم أجاب عنه وعبارته فإن قيل قال في الكتاب صلى مع كل وقتية فائتة ومع للقران فلنا أن القران غير مراد إجماعا فإن الصلاتين لا تؤديان معا فيكون المراد أن كل فائتة تقضى مع ما يجانسها من الوقتية من غير اشتراط البيان في وقت واحد ا هـ .

                                                                                        قال في النهر فذكره السؤال بدون الجواب مما لا ينبغي وقال إن هذا الجواب أي المذكور في المعراج أحسن الأجوبة ا هـ .

                                                                                        لكن استشكله شيخنا بما مر عن الشيخ قاسم من أصل محمد فإن مقتضاه أنه إذا لم يؤد الفائتة في وقت السادسة يتقرر سقوط الترتيب فيلزم صحة الوقتية تأمل ( قوله وذكر في فتح القدير ) أي جوابا عما ذكره سابقا من الرد على الهداية تبعا للكافي والتبيين ( قوله فكيف بالاستشهاد ) أي أن ما ذكره صاحب الهداية عن محمد استشهاد على مدعاه لا استدلال فإبطاله لا يستلزم بطلان المستشهد عليه بالأولى ( قوله وليس هو من قبيل زوال المانع إلخ ) سبقه إلى هذه العلامة قاسم في فتاويه [ ص: 95 ] ( قوله ولو قال المصنف ولم يعد إلخ ) لا يخفى أنه لا أولوية في ذلك بل لو قال ذلك موافقا للمجتبى لم يصح لما ستعلمه من جعله ما في المجتبى خطأ ( قوله يمضي لضيق الوقت ) في هذا التعليل نظر بل الظاهر أن يقال لأنه لا يصح قضاء الظهر في وقت الاحمرار فإن ذلك الوقت لا يصح فيه إلا عصر يومه كما قدمناه عن شرح قاضي خان ( قوله وقوله واقتداء المسافر نتيجة كونه مؤديا ) أقول : وهو نتيجة كونه قاضيا أيضا لأن اقتداء المسافر بعد الوقت بالمقيم غير صحيح سواء كان المقيم مؤديا أم قاضيا على أنه لا مدخل للنتيجة ولا للمنتج في هذا المحل ولا مساس له بالمقام أصلا فتأمل ( قوله فيكون محل الخلاف إلخ ) قال بعض الفضلاء فيه إن بعد الحمل انتفى الخلاف ا هـ .

                                                                                        وفيه نظر لأنه على هذا الحمل يكون معنى ما في المجتبى أنه لو تذكر بعد الفراغ لا يعود الترتيب في المستقبل فيخالف حكاية الاتفاق على عوده ( قوله وتذكر قبل الفراغ فبعيد ) قال الرملي نقلا عن خط شيخ شيخه العلامة المقدسي قوله بعيد هو البعيد لأن صاحب المجتبى أعلى مقاما من أن تخفى عليه مسألة مشهورة في المتون حتى يجيء مثلك يخطئه فيها فيحمل كلامه في كل مقام على ما يليق به فأما ضيق الوقت فإذا خرج الوقت وهو في أثناء الصلاة زال ضيق الوقت بخروجه ولا يعود الترتيب وأما التذكر في أثناء الصلاة فلا يمكن القول به لما اشتهر بين الصغار في الاثنى عشرية فيحمل على ما يمكن وهو لو كان عليه ظهر وعصر مثلا فصلى المغرب ناسيا لهما ثم تذكرهما بعد المغرب فلا يعيدهما وإن كان مقتضى الشرطية ذلك فبعد دخول وقت العشاء ليس له أن يقدم العشاء فحملك كلام المجتبى على ما يوجب الخطأ هو الخطأ . ا هـ .

                                                                                        قلت ولا يخفى عليك أن هذا الجواب وإن كان صحيحا في نفسه لكنه بعيد من الإفهام وكثرة التعنيف لا تروجه عند من له أدنى إلمام وقد سلم في النهر ما فهمه المحقق لكنه قال الأولى أن يحكم بضعفه وإن من حكى الاتفاق لم يلتفت إليه لشذوذه ( قوله فشمل النوعين ) أي نوعي الترتيب وهما بين الفائتة والوقتية وبين الفوائت نفسها .




                                                                                        الخدمات العلمية