الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 522 ] ويحرم سؤال العافية مدى الدهر ، أو خير الدارين ودفع شرهما ، أو المستحيلات العادية كنزول المائدة ، قيل والشرعية . والحق حرمة [ ص: 523 ] الدعاء بالمغفرة للكافر لا لكل المؤمنين كل ذنوبهم بحر ( بالأدعية المذكورة في القرآن والسنة . لا بما يشبه كلام الناس ) اضطرب فيه كلامهم ولا سيما المصنف ; والمختار كما قاله الحلبي أن ما هو في القرآن أو في الحديث لا يفسد ، [ ص: 524 ] وما ليس في أحدهما إن استحال طلبه من الخلق لا يفسد وإلا يفسد لو قبل قدر التشهد ، وإلا تتم به ما لم يتذكر سجدة فلا تفسد بسؤال المغفرة مطلقا ولو لعمي أو لعمرو ، وكذا الرزق ما لم يقيده بمال ونحوه لاستعماله في العباد مجازا .

التالي السابق


( قوله ويحرم سؤال العافية مدى الدهر إلى قوله والحق ) هو أيضا من كلام القرافي المالكي ، نقله عنه في النهر ، ونقله أيضا العلامة اللقاني في شرح جوهرة التوحيد فقال : الثاني من المحرم أن يسأل المستحيلات العادية وليس نبيا ولا وليا في الحال : كسؤال الاستغناء عن التنفس في الهواء ليأمن الاختناق ، أو العافية من المرض أبد الدهر لينتفع بقواه وحواسه أبدا . إذا دلت العادة على استحالة ذلك ، أو ولدا من غير جماع ، أو ثمارا من غير أشجار ، وكذا قوله اللهم أعطني خير الدنيا والآخرة لأنه محال ، فلا بد من أن يراد الخصوص بغير منازل الأنبياء ومراتب الملائكة ، ولا بد أن يدركه بعض الشرور ولو سكرات الموت ووحشة القبر ، فكله حرام .

الثالث أن يطلب نفي أمر دل السمع على نفيه ، كقوله { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } إلخ مع أنه عليه الصلاة والسلام قال { رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه } فهي مرفوعة ، فيكون تحصيل الحاصل وهو سوء أدب ، مثل : أوجب علينا الصلاة والزكاة إلا أن يريد بالخطإ العمد وبما لا يطاق للرزايا والمحن فيجوز . ا هـ . ملخصا . قال اللقاني : ورد هذا بعضهم بما قدمناه عن العز بن عبد السلام من أنه يجوز الدعاء بما علمت السلامة منه . ا هـ . ولذا قال الشارح : قيل والشرعية أي لأن أحسن الدعاء ما ورد في القرآن والسنة ، ومنه { ربنا لا تؤاخذنا } الآية فكيف ينهى عنه ، ولو كان الدعاء بتحصيل الحاصل منهيا لما ساغ الدعاء بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولا الدعاء له بالوسيلة ، ولا بقول المؤمن { اهدنا الصراط المستقيم } ولا بلعن الشياطين والكافرين ، ونحو ذلك مما فيه إظهار العجز والعبودية ، أو الرغبة بحب النبي صلى الله عليه وسلم أو حب الدين ، أو النفرة عن فعل الكافرين ونحوهم ; بخلاف قول الرجل : اللهم اجعلني رجلا ونحوه مما لا فائدة فيه ، أو ما فيه تحكم على الله تعالى كطلب ما ليس أهلا لنيله ، أو ما كان مستحيلا فإنه من الاعتداء في الدعاء ، وقد قال الله تعالى { ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين } .

وروي عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه أنه سمع ابنه يقول : اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها ، فقال : يا بني سل الله الجنة وتعوذ به من النار ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء } . مطلب في الدعاء المحرم ( قوله والحق إلخ ) رد على الإمام القرافي ومن تبعه حيث قال : إن الدعاء بالمغفرة للكافر كفر لطلبه تكذيب الله تعالى فيما أخبر به وإن الدعاء لجميع المؤمنين بمغفرة جميع ذنوبهم حرام لأن فيه تكذيبا للأحاديث الصحيحة المصرحة بأن لا بد من تعذيب طائفة من المؤمنين بالنار بذنوبهم وخروجهم منها بشفاعة أو بغيرها ، وليس بكفر للفرق بين تكذيب خبر الآحاد والقطعي ، ووافقه على الأول صاحب الحلية المحقق ابن أمير حاج ، وخالفه في الثاني وحقق ذلك بأنه مبني على مسألة شهيرة ، وهي أنه هل يجوز الخلف في الوعيد ؟ فظاهر ما في المواقف والمقاصد أن الأشاعرة قائلون بجوازه لأنه لا يعد نقصا بل جودا وكرما . وصرح التفتازاني وغيره بأن المحققين على عدم جوازه ، وصرح النسفي بأنه الصحيح لاستحالته عليه تعالى ، لقوله { وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي } [ ص: 523 ]

وقوله تعالى { ولن يخلف الله وعده } أي وعيده ، وإنما يمدح به العباد خاصة ، فهذا الدعاء يجوز على الأول لا الثاني مطلب في خلف الوعيد وحكم الدعاء بالمغفرة للكافر ولجميع المؤمنين

والأشبه ترجح جواز الخلف في الوعيد في حق المسلمين خاصة دون الكفار توفيقا بين أدلة المانعين المتقدمة وأدلة المثبتين التي من نصها قوله تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك } وقوله ، عن إبراهيم { رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } وأمر به نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وفعله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح ابن حبان " أنه صلى الله عليه وسلم قال { اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر ، ما أسرت وما أعلنت ، ثم قال : إنها لدعائي لأمتي في كل صلاة } . وحاصل هذا القول جواز التخصيص لما دل عليه اللفظ بوضعه ، اللغوي من العموم في نصوص الوعيد ، ولا ينافي النصوص الصحيحة المصرحة بأن من المؤمنين من يدخل النار ويعاقب فيها على ذنوبه لأن الغرض جواز مغفرة جميع الذنوب لجميع المؤمنين لا الجزم بوقوعها للجميع ، وجواز الدعاء بها مبني على جواز وقوعها لا على الجزم بوقوعها ، هذا خلاصة ما أطال به في الحلية .

وحاصله أن ما دل من النصوص على عدم جواز خلف الوعيد مخصوص بغير المؤمنين فهو جائز عقلا فيجوز الدعاء بشمول المغفرة لهم وإن كان غير واقع للنصوص الصحيحة المصرحة بأنه لا بد من تعذيب طائفة منهم ، وجواز الدعاء يبتنى على الجواز عقلا ، لكن يرد عليه أن ما ثبت بالنصوص الصريحة لا يجوز عدمه شرعا .

وقد نقل اللقاني عن الأبي والنووي انعقاد الإجماع على أنه لا بد من نفوذ الوعيد في طائفة من العصاة ، وإذا كان كذلك يكون الدعاء به مثل قولنا اللهم لا توجب علينا الصوم والصلاة ، وأيضا يلزم منه جواز الدعاء بالمغفرة لمن مات كافرا أيضا ; إلا أن يقال إنما جاز الدعاء للمؤمنين بذلك إظهارا لفرط الشفقة على إخوانه ، بخلاف الكافرين ، وبخلاف لا توجب علينا الصوم لقبح الدعاء لأعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وإظهار التضجر من الطاعة ، فيكون . عاصيا بذلك لا كافرا على ما اختاره في البحر وقال إنه الحق ، وتبعه الشارح ، لكنه مبني على جواز العفو عن الشرك عقلا ، وعليه يبتنى القول بجواز الخلف في الوعيد ، وقد علمت أن الصحيح خلافه ; فالدعاء به كفر لعدم جوازه عقلا ولا شرعا ولتكذيبه النصوص القطعية بخلاف الدعاء للمؤمنين كما علمت ، فالحق ما في الحلية على الوجه الذي نقلناه عنها لا على ما نقله ح فافهم ( قوله ودعا بالأدعية المذكورة في القرآن والسنة ) عدل عن قول الكنز بما يشبه القرآن لأن القرآن معجز لا يشبهه شيء .

وأجاب في البحر بأنه أطلق المشابهة لإرادته نفس الدعاء لا قراءة القرآن ا هـ ومفاده أنه لا ينوي القراءة وفي المعراج أول الباب : وتكره قراءة القرآن في الركوع والسجود والتشهد بإجماع الأئمة الأربعة ، لقوله عليه الصلاة والسلام { نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا } رواه مسلم . ا هـ . تأمل . هذا ، وقد ذكر في الإمداد في بحث السنن جملة من الأدعية المأثورة ، فيكفي سهولة مراجعتها عن ذكرها هنا . [ تتمة ]

ينبغي أن يدعو في صلاته بدعاء محفوظ ، وأما في غيرها فينبغي أن يدعو بما يحضره ، ولا يستظهر الدعاء لأن حفظه يذهب برقة القلب هندية عن المحيط ; واستظهاره حفظه عن ظهر قلبه ( قوله لا يفسد ) أي مطلقا ، [ ص: 524 ] سواء استحال طلبه من العباد كاغفر لي أو لا كارزقني من بقلها وقثائها وعدسها وبصلها . وفيه رد على الفضلي في اختياره الفساد بما ليس في القرآن مطلقا ، وعلى ما في الخلاصة من تقييده عدم الفساد بالمستحيل من العباد بما إذا كان مأثورا ، وهو مبني على قول الفضلي . قال في النهر : والمذهب الإطلاق ( قوله إن استحال طلبه من الخلق ) كاغفر لعمي أو لعمرو فلا يفسد وإن لم يكن في القرآن خلافا للفضلي ( قوله وإلا يفسد ) مثل اللهم ارزقني بقلا وقثاء وعدسا وبصلا ، أو ارزقني فلانة ( قوله وإلا تتم به ) أي مع كراهة التحريم ط ( قوله ما لم يتذكر سجدة ) أي صلبية ، فتفسد الصلاة لوجود القاطع المانع من إعادتها وهو الدعاء المذكور ، بخلاف التلاوية والسهوية لأنه لا تتوقف صحة الصلاة على سجودهما ، فتتم الصلاة به وإن لم يسجدهما لأنهما واجبتان والصلبية ركن ، بل لو سجدهما فهو لغو لأنه بعد قطع الصلاة ، كما لو سلم وهو ذاكر لسجدة تلاوية أو سهوية تمت صلاته لخروجه منها بعد تمام الأركان .

وأما قولهم إن التلاوية كالصلبية في أنها ترفع القعدة والتشهد ، فذاك فيما إذا فعلهما قبل خروجه من الصلاة بسلام أو كلام بخلاف ما نحن فيه ، فذكر التلاوية هنا خطأ صريح كما نبه عليه الرحمتي فافهم ( قوله فلا تفسد إلخ ) تفريع على المختار السابق ( قوله مطلقا ) أي سواء كان في القرآن كاغفر لي أو لا كاغفر لعمي أو لعمرو لأن المغفرة يستحيل طلبها من العباد { - ومن يغفر الذنوب إلا الله - } وما في الظهيرية من الفساد به اتفاقا مؤول باتفاق من اختار قول الفضلي ، أو ممنوع بدليل ما في المجتبى ، وفي أقربائي وأعمامي اختلاف المشايخ ، وتمامه في البحر والنهر ( قوله وكذا الرزق ) أي لا يفسد إذا قيده بما يستحيل من العباد كارزقني الحج أو رؤيتك بخلاف فلانة ، وجعل هذا التفصيل في الخلاصة هو الأصح . وفي النهر : وهذا التخريج ينبغي اعتماده ا هـ . قلت : وكذا لو أطلقه لأنه في القرآن { - وارزقنا وأنت خير الرازقين - } وجعل في الهداية ارزقني مفسدا لقولهم رزق الأمير الجند ، قال في الفتح : ورجح عدم الفساد لأن الرازق في الحقيقة هو الله تعالى ونسبته إلى الأمير مجاز . قال في شرح المنية : لأن الرزق عند أهل السنة ما يكون غذاء للحيوان وليس في وسع المخلوق إلا إيصال سببه كالمال ، ولذا لو قيده به فقال ارزقني مالا تفسد بلا خلاف ، وعليه فأكرمني أو أنعم علي ينبغي أن يفسد ، إذ يقال أكرم فلان فلانا وأنعم عليه ، إلا أنه في المحيط ذكر عن الأصل أنه لا يفسد لأن معناه في القرآن : { إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه - } وكذا لو قال أمددني بمال لا يفسد ، وأما قوله أصلح أمري فبالنظر إلى إطلاق الأمر يستحيل طلبه من العباد . ا هـ . ملخصا . [ تنبيه ]

في البحر عن فتاوى الحجة : لو قال اللهم العن الظالمين لا يقطع صلاته ، ولو قال اللهم العن فلانا يعني ظالمه يقطع الصلاة . ا هـ . أي لأنه دعاء بمحرم وإن استحال من العباد فصار كلاما ، أو لأنه غير مستحيل بدليل - { أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } - وأما اللعنة على الظالمين فهي في القرآن فافهم




الخدمات العلمية