الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 131 ] ولغا : علي المسير ، والذهاب ، والركوب لمكة ، ومطلق المشي ، ومشي لمسجد ، وإن لاعتكاف ; [ ص: 132 ] إلا القريب جدا : فقولان تحتملهما ، ومشي للمدينة ، أو إيلياء : إن لم ينو صلاة بمسجديهما ، أم يسمهما ; فيركب . وهل إن كان ببعضها ، أو إلا لكونه بأفضل ؟ خلاف ، [ ص: 133 ] والمدينة أفضل ثم مكة .

التالي السابق


( ولغا ) بفتح الغين المعجمة أي بطل قول الشخص : لله علي أو ( علي المسير ) إلى مكة إن فعلت أو إن لم أفعل كذا ( والذهاب والركوب ) والإتيان والانطلاق ( لمكة ) إلا أن ينوي إتيانها حاجا أو معتمرا فيأتيها راكبا إلا أن ينوي ماشيا قاله في المدونة ، إن قلت من نذر المشي إليها لزمه والمسير والذهاب مساويان له فما الفرق ؟ . قلت : الفرق أن العرف إنما جرى بلفظ المشي وإنه الوارد في السنة ولم يرد غيره فيها .

( و ) لغا ( مطلق المشي ) أي المشي المطلق الذي لم يقيد بمكة ، ولا الكعبة بلفظ ، ولا نية كقوله لله علي المشي ( و ) لغا قوله علي ( مشي لمسجد ) غير المساجد الثلاثة إن كان لجلوس فيه أو قراءة بل ( وإن ) كان ( لاعتكاف ) أو صلاة فيه لخبر { لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى } ، ولا يعارضه خبر { من نذر أن يطيع الله فليطعه } ; لأنه عام فيخص بهذا . قال الشارح لو قال إتيان أي لغا إتيان لكان أحسن ; لأن ظاهره جواز إتيانه راكبا وليس كذلك وأجيب بأنه ذكر عدم اللزوم فيما يتوهم فيه اللزوم وهو المشي ، فيعلم عدم لزوم غيره بالأولى . [ ص: 132 ] وبأنه عبر بالمشي لأجل قوله ( إلا ) المسجد ( القريب جدا ) من الناذر بأن كان على ثلاثة أميال وقيل ما لا يحتاج فيه لإعمال المطي وشد الرحل ( فقولان تحتملهما ) المدونة في نذر الصلاة والاعتكاف أحدهما لزوم إتيانه ماشيا كما في الشارح وتت . الثاني عدم لزوم الإتيان ويلزمه فعل ما نذر بموضعه كناذرهما بمسجد بعيد .

( و ) لغا ( مشي ) وأولى ذهاب ومسير ( للمدينة ) على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ( أو ) لمسجد ( إيلياء ) فلا يلزمه ذهابه لهما لا ماشيا ، ولا راكبا وهو ممدود بوزن كبرياء معناه بيت المقدس معرب ، وحكي قصره ( إن لم ينو صلاة ) فإن نواها لزمه إتيانهما ولو نفلا وإن اختصت المضاعفة بالفرض لنيته إقامته أياما ينتفل فيها فيتضمن الفرض أو صوما أو اعتكافا ( بمسجديهما ) أي المدينة وإيلياء ( أو يسميهما ) أي المسجدين لا البلدين ، فإن نوى صلاة فيهما أو سماهما لزمه إتيانهما ( فيركب ) إن شاء ، ولا يلزمه المشي ; لأنه لما سماهما فكأنه قال لله علي أن أصلي فيهما ، أو ظاهره ولو نفلا . إن قيل ما الفرق بين المشي لهذين والمشي لمكة ؟ . فالجواب أن المشي للمدينة مثلا لا قربة فيه والمشي لمكة فيه قربة لإحرامه من الميقات ، وأنه فيه مناسب لعبادة الحج لمشيه في المناسك والصلاة منافية للمشي .

( وهل ) لزوم إتيان أحد المساجد الثلاثة إن كان بغيرها بل ( وإن كان ) الملتزم ( ببعضها ) فاضلا أو مفضولا ( أو ) يلزمه في كل حال ( إلا لكونه بأفضل ) مما التزم المشي إليه فلا يلزمه إتيان المفضول فيه ( خلاف ) في التشهير . ابن بشير ظاهر المذهب لزوم إتيانه لأحد الثلاثة وإن كان موضعه أفضل مما التزم المشي إليه . ابن الحاجب لو كان [ ص: 133 ] في أحدها والتزم الآخر لزمه على الأصح والمشهور إلا أن يكون الثاني مفضولا . المازري لو نذر الصلاة مدني أو مكي بمسجد إيلياء صلى بموضعه والعكس لازم . وقياس قول مالك رضي الله عنه يلزم المكي ما نذره بمسجد صلى الله عليه وسلم لا العكس . وقال بعض شيوخنا : الأولى إتيانه للخروج من الخلاف . ابن عرفة ما عزاه لبعض شيوخه هو نص اللخمي وذكره ابن بشير .

( والمدينة ) المنورة بأنوار النبي صلى الله عليه وسلم ( أفضل ) من مكة المشرفة هذا هو المشهور وهو قول أهل المدينة ، ويدل له ما رواه الدارقطني والطبراني من حديث رافع بن خديج { المدينة خير من مكة } نقله في الجامع الصغير ، وقال ابن وهب وابن حبيب مكة أفضل . ابن عرفة ومسجده صلى الله عليه وسلم والمسجد الحرام أفضل من مسجد إيلياء ، وفي أفضلية مسجده صلى الله عليه وسلم على المسجد الحرام أو العكس المشهور . ونقل عياض عن ابن حبيب مع ابن وهب قال ووقف الباجي في ذلك ، ومحل الخلاف في غير الموضع الذي ضمه صلى الله عليه وسلم فإنه أفضل من الكعبة والسماء والعرش والكرسي واللوح والقلم والبيت المعمور ويليه الكعبة فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقا ، وباقي مسجد المدينة أفضل من باقي مسجد مكة ، وباقي المدينة أفضل من باقي مكة ، ولما زيد في مسجده صلى الله عليه وسلم حكم مسجده عند الجمهور وهم على تفضيل السماء على الأرض ، وقيل الأرض أفضل لخلق الأنبياء منها ودفنهم بها .

( ثم ) يلي المدينة في الفضل ( مكة ) المشرفة ثم يلي مكة في الفضل بيت المقدس فهو أفضل ولو من المساجد المنسوبة له صلى الله عليه وسلم كمسجد قباء ومسجد الفتح ومسجد العيد ومسجد ذي الحليفة .

( تتمة ) في الصحيحين مما يتعلق بالمدينة { من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة } . وفي مسلم من رواية أبي سعيد { لا يصبر أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة } ، وفيه بشرى للصابر بها بالموت على الإسلام وهي مزية عظيمة [ ص: 134 ] زائدة على شفاعته وشهادته العامتين ، فقد ثبت في حديث { من مات بالمدينة كنت له شفيعا يوم القيامة ، وخبر من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإنه من مات بها أشفع له وأشهد له } . وسئل عج هل المجاورة بمكة أو المدينة أفضل أم تركها ، وهل الأفضل دخول مكة ماشيا أو راكبا فأجاب عن الأول بأن عدم المجاورة أفضل لقول الإمام مالك رضي الله عنه لقفل أي الرجوع أفضل من الجوار ، وكان الإمام عمر رضي الله عنه يأمر الناس بالقفول بعد الحج . وعن الثاني بأن ظاهر كلام أئمتنا استواء دخول مكة ماشيا أو راكبا في الفضل والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية