الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ( الصوم )

                                                          يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير [ ص: 550 ] له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون

                                                          * * *

                                                          ذكر الله تعالى في آية البر ، أن من البر إتيان المال مع حبه ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأشار إلى الجهاد ، ولم يذكر الصوم والحج ، وقد ذكر هنا الصوم ، وسيذكر من بعد الحج في محكم آياته ، وبذلك تجتمع الأركان الخمسة التي هي عماد الإسلام ، وهي الإيمان بالله وشهادة أن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا .

                                                          وقد بين الله تعالى صوم رمضان في هذه الآيات الكريمات التي تلوناها ونتكلم في معناها الآن ، قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم كتب بمعنى فرض لأنه قرره الله تعالى ، وكتبه حتى صار مكتوبا على المؤمنين ، وقد أكد سبحانه الفرضية بقوله تعالى عليكم ، وبأنه شريعة النبيين أجمعين ; ولذا قال تعالى : كما كتب على الذين من قبلكم وأنه سبيل لتقوى النفس ، ولذا قال : ( ولعلكم ) وذكر أنه أياما معدودات معروفة القدر ، مبينة الابتداء والانتهاء ، وقد بينها سبحانه وتعالى في قوله تعالت كلماته : شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان

                                                          [ ص: 551 ] والصوم في اللغة الإمساك ، وذلك كقول مريم فيما حكى القرآن : فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا والصوم في المعنى الديني القرآني الظاهر هو الإمساك عن الطعام والشراب ، وعن النساء من طلوع الفجر إلى غروب الشمس كما قال تعالى فيما سيأتي : وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل بهذا النص الكريم يحد الصيام من طلوع الفجر ، حتى يدخل الليل وذلك بغروب الشمس .

                                                          كتب الصوم على الذين آمنوا فهو فرض مؤكد ، وقد قال : كما كتب على الذين من قبلكم من أهل الديانات السماوية كديانة موسى عليه السلام ، وديانة عيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والتشبيه كما قال معاذ بن جبل من فقهاء الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم : التشبيه واقع على أصل الصوم ، لا على صفته وعدد أيامه . وهذا يكفي في التشبيه فهو يثبت أن الصوم شريعة في الشرائع السماوية كلها ، وهذا يدل على كمال فرضيته ، وأنه لا يختص بالمسلمين وحدهم بل يعم الديانات السماوية كلها .

                                                          وقد بين الله تعالى حكمة شرعيته الأزلية الباقية بقوله تعالى : لعلكم تتقون أي رجاء منكم لأن تصلوا إلى درجة المتقين ، فتتقوا المعاصي ، وسيطرة الأهواء والشهوات على نفوسكم ; وذلك لأن الصوم يربي النفس على الضبط ، والاستيلاء على أهوائها وشهواتها وحيث قويت الإرادة قوي سلطانها على الالتواء وعلى الشهوات ، ولذلك كان من آدابه المكملة له أن يمتنع عن المحظورات كلها فلا يسب ولا يقول الزور ، ولا يعمل به ، ولا يجترح المنهيات بلسانه ، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من لم يدع قول الزور والعمل به ، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " وقال [ ص: 552 ] - صلى الله عليه وسلم - : " الصوم جنة " وإن الصوم بهذه المعاني الجليلة المهذبة للنفس الضابطة للإرادة كان من أعظم العبادات عند الله تعالى ; ولذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " ، وكان الصوم من بين العبادات مختصا بأنه لله تعالى وحده ; لأنه تجرد روحي ، وانخلاع من الأهواء والشهوات وعلو بالنفس الإنسانية عن العالم المادي وشهواته وهو سر بين العبد وربه .

                                                          وحد الله سبحانه وتعالى مقدار الصوم بأنه أيام معدودات ليست كثيرة ، ولا مرهقة ، ولكنها في مؤداها جليلة وهذه الأيام المعدودات التي لا تتجاوز الحسبة هي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ، وبينات من الهدى والفرقان .

                                                          وإن الصيام في هذه الأيام المعدودات فرض ، رخص فيه لذوي الأعذار أن يفطروا ويؤدوا بدل الأيام ولذا قال تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام

                                                          العدة العدد من الأيام ، وقال أحمد : إن هذه العدة تبتدئ من وقت قدرته على الصوم بعد رمضان ، وأوجب الشافعي أن تكون في السنة التي يكون فيها رمضان ، وقال أبو حنيفة : إن القضاء واجب على التراخي وهو يقدر ، ويحسن أن يكون عند القدرة ، والمرض الذي يبيح الإفطار قسمان : أحدهما - المرض الذي لا يسع المريض فيه أن يصوم قط ، وهذا بالاتفاق يسوغ الإفطار والقضاء ، والقسم الثاني - مرض يمكن معه الإفطار والصوم ، ولكن الصوم يكون بمشقة زائدة عن المعتاد من المشقات [ ص: 553 ] التي يجيز الشارع احتمالها ، وقالوا إنه الصوم الذي يزيد المرض شدة ، أو يطيل مدته ، أو يخبر طبيب مسلم عادل بأن الصوم يضره لوجود هذا المرض .

                                                          والسفر الذي يجيز الإفطار اختلف فيه الفقهاء باختلاف أنظارهم في السفر الذي يوجد مشقة توجد الرخصة ، فقيل سفر يوم وليلة : وقال أبو حنيفة ثلاثة أيام ، بالسير المعتاد للإبل بحيث يسير نصف النهار ، ويستريح النصف الآخر وإن السفر بدابة على هذا المعنى مشقة - ولقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : لولا الأثر لقلت العذاب قطعة من السفر ، والأثر الذي يشير إليه حبر الأمة هو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " السفر قطعة من العذاب " ولا شك أن الانتقال في الصحراء ينطبق عليه ذلك الوصف .

                                                          وهنا يثار بحث : أيكون الأفضل في المرض والسفر الفطر ، أم الصوم ؟ وقد أجاب عن ذلك بعض العلماء بأنه إذا لم يجد مشقة شديدة في المرض يكون خيرا أن يصوم ، ولا يكون معاندا لرخصة الله تعالى ، ولكن يكون محتاطا في معنى المرض الذي يسوغ الرخصة ، وإلا فالرخصة أفضل ، وكذلك في حال السفر ، إذا كان يرى أنه يستطيع الصوم من غير إجهاد ، فالأفضل الصوم ، ويكون ذلك ليس معاندة للرخصة .

                                                          والسفر المجرد في هذه الأيام لا مشقة فيه ; ولذا أرى أن الأفضل الصوم ، من غير أن نقرر وجوبه حتى لا نكون معاندين لرخص الله ; فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه .

                                                          والسفر أقسام ثلاثة : سفر للجهاد في سبيل الله ، وهذا لا يحسن فيه الصوم ، وإلا خالف السنة وعارض الرخصة ; لأن الله تعالى اختبر المؤمنين في غزوتين كانتا في رمضان وهما غزوة بدر الكبرى ، وفتح مكة ، كانت الأولى في السابع عشر من [ ص: 554 ] رمضان ، والثانية في الثالث عشر ، وقد أفطر فيهما النبي - صلى الله عليه وسلم - هو ومن معه من المجاهدين .

                                                          والقسم الثاني : السفر في مباح كالتجارة ، والانتقال من بلد إلى بلد للإقامة ويترك الأمر فيه إلى حال المسافر على النحو الذي ذكرناه ، إن وجد المشقة شديدة أفطر وإلا صام وينطبق عليه رأينا في السفر في السكة الحديدية .

                                                          القسم الثالث : السفر للمعصية ، وكثيرون من الفقهاء لا يرون أن الرخصة تشمله لأنه عاص بسفره ، والرخصة نعمة ، والمعصية لا تبرر النعمة .

                                                          وهناك عذر يبرر الإفطار من غير قضاء ولكن تكون فدية هي طعام مسكين يوما ، وقد قال الله تعالى فيه : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين والإطاقة كما قال الراغب الأصفهاني في مفرداته : الطاقة اسم لمقدار ما يمكن الإنسان أن يفعله بمشقة . . ، فقوله تعالى : ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به معناه ما يصعب علينا مزاولته ، وليس معناه لا تحملنا ما لا قدرة لنا .

                                                          والمعنى على ذلك لقوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه أي يتكلفون مشقة هي أقصى الطاقة لا يستطيعون المداومة عليها ، وهم الشيوخ الفانون الذين تقدمت سنهم ، وقد قال ابن مسعود في تفسير " يطيقونه " أي يصلون إلى أقصى المشقة ، ولا أمل لهم ، في قضاء وقال ابن عباس : إن قوله تعالى : وعلى الذين نزلت في الشيخ والشيخة إذا كانا لا يصومان إلا بمشقة . .

                                                          وقد أفطر أنس خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما طال عمره ، فأفطر سنتين في آخر حياته ، وكانت الجفان تقام لإطعام المساكين ثلاثين جفنة لثلاثين مسكينا على عدد أيام الصوم .

                                                          ولقد قال تعالى بعد ذلك : فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون

                                                          فمن تطوع الفاء هنا للإفصاح ، أي إذا كان قد كتب عليكم الصوم ويسر الله تعالى عليكم بالرخص التي رخص بها فمن تطوع خيرا ، أي فمن قصد الطاعة ، وتكلفها قاصدا الخير فهو خير يدخره له يوم القيامة ، فالتطوع هنا ليس النافلة كما [ ص: 555 ] قال الفقهاء فإن ذلك اصطلاح فقهي لا تخضع له عبارات القرآن في دلالاتها ، بل تخضع للغة ، والآثار النبوية فقط ، والتطوع هنا هو المبالغة في الطاعة قاصدا أو طالبا خيرا ، فهو خير له وقوله تعالى : وأن تصوموا خير لكم تحريض على القيام بالواجب المفروض الذي كتب عليكم وعلى الذين من قبلكم ولا شك أن أداء الواجب خير عظيم ، وقال تعالى : إن كنتم تعلمون أي إن كنتم تعلمون ما هو خير لكم ، وما الواجب عليكم ، وقد ذكر سبحانه التعليق بـ " إن " حثا على طلب علم الغاية من فرضية الصيام وهو تربية نفوسكم على الصبر ، ولقد ورد أن الصوم نصف الصبر ، والصبر صفة المؤمنين ، كما أشرنا من قبل .

                                                          ويلحق بذوي الأعذار الحامل والمرضع ، وقد اختلف في شأنهما أهما ملحقان بالمرضى مرضا قريب البرء فيكون لهما الإفطار وعليهما عدة من أيام أخر ، إذ هما كحال المريض الذي يصعب الصوم عليه ، ويضره الصوم ، أو يضر ما في أرحام الحوامل ، ومن يتغذى منهما ، ونظر آخرون إلى أن المرأة الولود ، وهي التي ينبغي التزوج منها ، إما أن تكون حاملا ، وإما أن تكون حائلا ، وفي هذه الحال تكون مرضعا فتتردد بين الإرضاع والحمل ، ولا فرصة لأن تكون لها عدة من أيام أخر ; ولذلك تدخل فيمن لا يطيقون ، ويكون عليهن فدية ، وروي عن ابن عباس : لا فدية ، وتكون كالمريض بمرض مزمن إذا كان لا يجد ما يفدي به ، يريد الله بكم اليسر ، ولا يريد بكم العسر .

                                                          وبعد أن بين سبحانه وتعالى فرضية الصوم أياما معدودات ذكر الله تعالى تلك الأيام وعينها بشهر رمضان ، فقال تعالى : شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان

                                                          أي هذه الأيام هي شهر رمضان الذي كان أول نزول القرآن فيه ، فقد أنزله تعالى في ليلة القدر وهي في العشر الأواخر منه ، كما قال تعالى : إنا أنـزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنـزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر

                                                          [ ص: 556 ] وإن اختصاص شهر رمضان بالصوم ; لأنه نزل فيه القرآن فيه تذكير بمبدأ الوحي ، واحتفال بأكبر خير نزل في الأرض وهو بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه نور الأرض وإشراقها ، والاحتفال به احتفال بنعمة الهداية ، ونعمة الخروج من الظلمات إلى النور ، ونعمة إرسال نبي الرحمة ، فقد قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين

                                                          ولقد ذكر فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير ما خلاصته : إنه في شهر رمضان نزلت هداية الله تعالى من السماء إلى الأرض فناسب ذلك أن يفرض فيه الصوم ; لأن الصوم فبما فيه من إمساك عن شهوتي البطن والفرج ، وفيه علو من الأرض إلى السماء بالتجرد الروحي الذي كان في الصوم ، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشهر الذي هو احتفال بذكرى البعث المحمدي : " إن الله تبارك وتعالى فرض عليكم صيام رمضان ، وسننت لكم قيامه ، فمن صامه وقامه احتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " .

                                                          وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه هدى للناس ، فقال : هدى للناس أي حال كونه هاديا للناس ; لأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، وهو معجزة الله تعالى الكبرى وهو بهذا هداية وتوجيه إلى مقام الرسالة المحمدية ، وهو مع ذلك فيه آياته البينات ; ولذا قال تعالى : وبينات من الهدى أي أن آياته بينات واضحة من الهدى وهو الشريعة التي جاء بها ، والفرقان أي الأمر الفارق بين الحق والباطل ، والظلم والعدل والشورى والاستبداد ، والإصلاح والإفساد ، وعمران الأرض وخرابها .

                                                          هذا شهر رمضان شهر البركات ، ولقد بينه سبحانه وتعالى ، والابتداء يرمز إلى الانتهاء فقال تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وقد تكلمنا في أعذار المرض والسفر والعجز في الآيات السابقة .

                                                          [ ص: 557 ] وقال الله تعالى في ابتدائه فمن شهد منكم الشهر ويريد سبحانه بالشهر هنا هلال رمضان ، وشهده أي حضره ورآه ، وعبر عن الهلال بالشهر ; لأن العرب كانت ترى الهلال ويراد الشهر عرفا عندهم ، وهذا في الأصل مجاز ، والمجاز إذا اشتهر صار عرفا وإطلاق الشهر وإرادة الهلال من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب ، وذلك من علاقات المجاز المرسل ; لأن الهلال أمارة ابتداء الشهر فكان جاريا مجرى السبب ، ولأن الاعتبار بالرؤية ، والرؤية لا تكون إلا لمحسوس والشهر عدد من الأيام يعد بالحساب ، وذلك معنى نعيش فيه ولا نراه ، والهلال هو الذي يرى فكان التعبير بالشهر عنه تعبيرا بالمدلول على الدال الذي يرى ويعلن الابتداء .

                                                          وإذا كان الهلال دليل الابتداء فهو الذي نيط به الوجود ، فيكون دليلا على الانتهاء ، برؤية هلال الشهر فهو دليل الابتداء والانتهاء معا ، ولقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فقال : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " وهذا النص يدل على أمرين :

                                                          أولهما : أن الصوم يجب عند رؤية الهلال ، في ابتداء الشهر ، والفطر عند رؤية هلال شوال أي الشهر الثاني ، وإنه إن غم أولا أو آخرا فتكمل العدة ثلاثين يوما ، فإن غم الهلال أولا أكمل عدة شعبان ثلاثين وذلك بعد ارتقاب الهلال في التاسع والعشرين من شعبان ، فتكمل ثلاثين إن غم ، وكذلك هلال شوال إذا غم تكمل عدة رمضان .

                                                          الأمر الثاني : الحديث يدل على أن الهلال واحد ، وذلك أنه القمر في أول منازله ، والقمر واحد ، في كل الشهور وفي كل شهر يتغير من هلال حتى يصير بدرا ، ثم يتغير من بعد ذلك حتى يكون المحاق ، ويرتقب من بعد ذلك الهلال ، فالأخير ، والأول واحد .

                                                          [ ص: 558 ] ويثار في هذا الموضوع أمران :

                                                          أولهما : إذا غم الهلال أيمكن تعرف الهلال أولد أم لم يولد بالحساب ، وقد كان معروفا بتتبع أدوار القمر في منازله من حاله هلالا ، حتى يصير بدرا ، ثم يضؤل من بعد حتى يختفي في السرار ، أم نقف عند حد الغمة فتكون ثلاثين كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلامه في المنزلة الأولى ولا معقب لقوله ؟ رأى الجمهور الأكبر من العلماء الوقوف عند النص ، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمي عليكم فأكملوا العدد " وإن الشريعة نزلت ابتداء لقوم أميين لا يعرفون حساب النجوم ، فيكون على قدر ما يحسون ويرون ، وجاء الحديث بذلك .

                                                          وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين وابن قتيبة فقالا : يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان ، حتى إنه لو كان صحوالرؤي لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فإن أغمي عليكم فاقدروا له " أي استدلوا عليه بمنازله ، وقدروا إتمام الشهر بحسابه " .

                                                          وقد قال بذلك بعض الشافعية ، وروى ابن نافع عن مالك أنه أجاز ابتداء الشهر بالحساب ، وانتهاءه بالحساب .

                                                          وإن الأخذ بالحساب الدقيق قد يكون ممكنا ، وخصوصا أن الإرصاد يكون رؤية بآلة فهل يؤخذ بها ; يقول الله تعالى : والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون

                                                          [ ص: 559 ] وإن التقدير بالمنازل كان ممكنا عند العرب والأعراب ، حتى إنهم كانوا يعرفون اليوم من الشهر بمعرفة منزلة الهلال ليعرفوا اليوم الأول من رؤيته في ليلة ، واليوم الثاني بما كان من تغيير ، وهكذا حتى يصير بدرا ، ثم اليوم السادس عشر من التغير إلى آخره . ونقول في هذه القضية : بعد أن كانت الأرصاد ، وهي تخترق الغمة فيرى الهلال من ورائها ، يجوز الاعتماد عليها عند الغمة ، وتكون هذه رؤية ، ويكون الصوم لرؤيته والإفطار لرؤيته ، ويكون العمل بالحديث قائما . ويكون الحديث بظاهره منطبقا على من ليس عندهم أرصاد ، فإنه يؤخذ بالنظر المجرد إذا لا سبيل إلى الرؤية إلا بالنظر الطبيعي وعلى ذلك قرر مجمع العلماء في القاهرة ، وأقره المؤتمر الإسلامي العام أنه يؤخذ بالحساب العلمي إذ غمت الشمس ولم تمكن الرؤية .

                                                          الأمر الثاني الذي يثار وقد أثير في القديم وهو أن مطالع القمر مختلفة في البلاد شرقا وغربا ، فقد يرى الهلال في المشرق ، قبل أن يرى في المغرب ، فهل يصوم كل على مطلعه ، أم الأساس هو أول رؤية ، فيصوم أهل الغرب مثلا على رؤية أهل الشرق الهلال على أساس أول رؤية ، ولا اعتداد باختلاف المطالع ، لأن الأمة الإسلامية أمة واحدة ، ولا يفرق بينها اختلاف الأقاليم ليكون ابتداء الصوم واحدا ، وانتهاؤه واحدا فلا يصوم إقليم ويفطر آخر في يوم واحد ؟

                                                          قال الشافعي الرأي الأول ، وقال الجمهور الرأي الثاني ، أي أن الاعتداد بأول رؤية ، وروي عن ابن عباس ، وقد كان بمكة فرأى أهل الشام الهلال ليلة الجمعة فصاموا يومها ، ورأى أهل الحجاز الهلال ليلة السبت فلم يصوموا السبت ، وقال : هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

                                                          [ ص: 560 ] ففهم الشافعي من هذا أن اختلاف المطالع يعتبر ، بحيث لا يكلف أهل مطلع ، إلا على مقتضى مطلعهم ، وإني أرى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن العبرة بمطلع مكة ; أولا : لأنه كان بمكة ولم يعتبر برؤية الشام وثانيا : لأن مكة قبلة المسلمين يتوحدون عندها ، فيكونون كالدائرة حولها ، وثالثا : أن هلال ذي الحجة لا يعد إلا بهلالها ، ويوم عرفة وأيام التشريق وغيرها لا يعتد إلا بها ، ولأنها مجتمع الوحدة في الصلاة والحج فتكون مجتمع الوحدة الإسلامية في الصوم .

                                                          هذا رأي رأيناه وعرضناه والله أعلم بالصواب .

                                                          وإن شرعية صيام رمضان مع الرخص التي تسوغ الإفطار هو من تيسير أداء الفريضة ; ذلك أن من شأن هذه الشريعة أنها إذا كلفت تكليفا فيه مشقة فتحت باب الترخيص ليسهل الأداء وليداوم عليه ويستمر من غير تململ ، ولا تحمل المكلفين على أقصى المشقات ولذا قال تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وهذا النص الكريم فيه إشارة إلى تعليل هذه الرخص ، وفيه إشارة إلى الوصف العام لشرع الله تعالى ، الذي دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يسروا ولا تعسروا وما خير النبي بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن معصية ، وقال تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، ولمقام التعليل في قوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر عطف عليه تعليل آخر ، وهو قوله : ولتكملوا العدة أي لتتموا عدة الشهر في يسر من غير إعنات ، وهنا فعل محذوف تقديره ، شرع لكم ذاك التيسير لكيلا يكون حرج وضيق في صومكم ، ولتكملوا العدة أي لتستطيعوا أداء العدد كاملا غير منقوص بالأداء لمن لا عذر له ، وبالأداء مع القضاء من أيام أخر لمن كان ذا رخصة تجيز الفطر وتوجب القضاء ، فتكون عدة الشهر قد كملت ، أداء وقضاء أو أداء فقط لمن له عذر .

                                                          ولتكبروا الله على ما هداكم ولتتجهوا إلى الله مكبرين ضارعين إليه جل جلاله على هدايته لكم بأن وفقكم للإيمان بدل الكفر ، وبأن مكنكم من أداء الواجب كاملا [ ص: 561 ] وقالوا إن ذلك إيذان بالعيد ، وهو تكبير الله إذ إن التكبير يكون للفرح بالعيد ، وللصائم فرحتان يوم فطره ويوم لقاء ربه وفرحته يوم فطره هي فرحته بأداء الواجب وسروره بالطاعة وفرحته يوم لقاء ربه هي فرحته بالنعيم المقيم ، وبالرضوان من الله تعالى وهو لدى الأبرار أكبر من النعيم كما قال تعالى : ورضوان من الله أكبر

                                                          وإن هذه النعم نعمة الإيمان ، ونعمة التيسير ، ونعمة أداء الواجب كاملا ونعمة الفرحة به يوم الفطر ، وتكبيره سبحانه وتعالى يقتضي الشكر ، ولذا قال تعالى : ولعلكم تشكرون ولعل للرجاء وهو من الناس ، ومن ترتيب الأمور ، لا من الله تعالى أي لترجوا شكرا لله تعالى على هذه النعم المتوالية ، والله غفور رحيم .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية