الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب فضل تجديد الوضوء

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار في فضيلة تجديد الوضوء ، منها ما حدثنا من لا أتهم قال : حدثنا محمد بن زيد قال : حدثنا سعيد قال : حدثنا سلام الطويل عن زيد العمي [ ص: 332 ] عن معاوية بن قرة عن ابن عمر قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ مرة مرة وقال : هذا وظيفة الوضوء وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ثم تحدث ساعة ، ثم دعا بماء فتوضأ مرتين مرتين فقال : هذا وضوء من توضأ به ضاعف الله له الأجر مرتين ، ثم تحدث ساعة ، ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال : هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : الوضوء على الوضوء نور على نور . وقال صلى الله عليه وسلم : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة . فهذا كله يدل على استحباب الوضوء عند كل صلاة وإن لم يكن محدثا ؛ وعلى هذا يحمل ما روي عن السلف من تجديد الوضوء عند كل صلاة ؛ وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه توضأ ومسح على نعليه وقال : ( هذا وضوء من لم يحدث ) ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فثبت بما قدمنا أن قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة غير موجب للوضوء لكل صلاة ، وثبت أنه غير مستعمل على حقيقته وأن فيه ضميرا به تعلق إيجاب الطهارة وأنه بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان لا يصح الاحتجاج بعمومه إلا فيما قام دليل مراده . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار متواترة في إيجاب الوضوء من النوم ، وهذا يدل على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للوضوء لأنه إذا وجب من النوم لم يكن القيام إلى الصلاة بعد ذلك موجبا ، ألا ترى أنه إذا وجب من النوم لم يجب عليه بعد ذلك من حدث آخر وضوء آخر إذا لم يكن توضأ من النوم ؟ فلو كان القيام إلى الصلاة موجبا للوضوء لما وجب من النوم عند إرادة القيام إليها ، كالسببين إذا كان كل واحد منهما موجبا للوضوء ثم وجب من الأول لم يجب من الثاني ؛ وهذا يدل على أن ( من النوم ) هو الضمير الذي في الآية ، فكان تقديره : ( إذا قمتم من النوم ) على ما روي عن زيد بن أسلم . ويدل على أن النوم الموجب للوضوء هو النوم المعتاد الذي يجوز أن يقال فيه إنه قام من النوم ، ومن نام قاعدا أو ساجدا أو راكعا لا يقال : إنه قام من النوم وإنما يطلق ذلك في نوم المضطجع ، ومن قال : إن النوم ليس بحدث وإنما وجب به الطهارة لغلبة الحال في وجود الحدث فيه فإن الآية دالة على وجوب الطهارة من الريح ، وإذا كان المعنى على ما وصفنا فيكون حينئذ في مضمون الآية إيجاب الوضوء من النوم ومن الريح ، وقد أريد به أيضا إيجاب الوضوء من الغائط والبول وذلك من ضمير الآية ؛ لأنه مذكور في قوله : أو جاء أحد منكم من الغائط والغائط هو المطمئن من الأرض ، وكانوا يأتونه [ ص: 333 ] لقضاء حوائجهم فيه ، وذلك يشتمل على وجوب الوضوء من الغائط والبول وسلس البول والمذي ودم الاستحاضة وسائر ما يستتر الإنسان عند وجوده عن الناس ؛ لأنهم كانوا يأتون الغائط للاستتار عن الناس وإخفاء ما يكون منهم ، وذلك لا يختلف باختلاف الأشياء الخارجة من البدن التي في العادة يسترها عن الناس من سلس البول والمذي ودم الاستحاضة ؛ فدل ذلك على أن هذه الأشياء كلها أحداث يشتمل عليها ضمير الآية . وقد اتفق السلف وسائر فقهاء الأمصار على نفي إيجاب الوضوء على من نام قاعدا غير مستند إلى شيء ؛ روى عطاء عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء ذات ليلة حتى نام الناس ثم استيقظوا ، فجاءه عمر فقال : الصلاة يا رسول الله فخرج وصلى ؛ ولم يذكر أنهم توضئوا . وروي عن أنس قال : كنا نجيء إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ننتظر الصلاة فمنا من نعس ومنا من نام ولا نعيد وضوءا .

وروى نافع عن ابن عمر قال : ( لا يجب عليه الوضوء حتى يضع جنبه وينام ) . وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء في غير هذا الموضع . وروى أبو يوسف عن محمد بن عبد الله عن عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي ولا يتوضأ ، فسئل عن ذلك فقال : إني لست كأحدكم إنه تنام عيناي ولا ينام قلبي لو أحدثت لعلمته وهذا الحديث يدل على أن النوم في نفسه ليس بحدث ، وأن إيجاب الوضوء فيه إنما هو لما عسى أن يكون فيه من الحدث الذي لا يشعر به وهو الغالب من حال النائم . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : العين وكاء السه فإذا نامت العين استطلق الوكاء ؛ فلما كان الأغلب في النوم الذي يستثقل فيه النائم وجود الحدث فيه ، حكم له بحكم الحدث ، وهذا إنما هو في النوم المعتاد الذي يضع النائم جنبه على الأرض ويكون في المضطجع من غير علم منه بما يكون منه ، فإذا كان جالسا أو على حال من أحوال الصلاة لغير ضرورة مثل القيام والركوع والسجود لم تنتقض طهارته ؛ لأن هذه أحوال يكون الإنسان فيها متحفظا ، وإن كان منه حدث علم به . وقد روى يزيد بن عبد الرحمن عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع استرخت مفاصله .

فصل قال أبو بكر : قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة لما كان ضميره ما وصفنا من القيام من النوم أو إرادة القيام إليها في حال الحدث ، فأوجب ذلك تقديم الطهارة من [ ص: 334 ] الإحداث للصلاة ، وكانت الصلاة اسما للجنس يتناول سائرها من المفروضات والنوافل ، اقتضى ذلك أن تكون من شرائط صحة الصلاة الطهارة أي صلاة كانت ؛ إذ لم تفرق الآية بين شيء منها ، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : لا يقبل الله صلاة بغير طهور .

التالي السابق


الخدمات العلمية