الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الغلام يبلغ والكافر يسلم ببعض رمضان قال الله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه وقد بينا أن المراد شهود بعضه . واختلف الفقهاء في الصبي يبلغ في بعض رمضان أو الكافر يسلم ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك بن أنس في الموطأ وعبيد الله بن الحسن والليث والشافعي : " يصومان ما بقي ، وليس عليهما قضاء ما مضى ولا قضاء اليوم الذي كان فيه البلوغ أو الإسلام " .

وقال ابن وهب عن مالك : " أحب إلي أن يقضيه " . وقال الأوزاعي في الغلام إذا احتلم في النصف من رمضان : " إنه يقضي ما مضى منه ، فإنه كان يطيق الصوم " وقال في الكافر إذا أسلم : " لا قضاء عليه فيما مضى " . وقال أصحابنا : " يستحب لهما الإمساك عما يمسك عنه الصائم في اليوم الذي كان فيه الاحتلام أو الإسلام " .

قال أبو بكر رحمه الله : قال الله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه وقد بينا معناه ، وأن كونه من أهل التكليف شرط في لزومه ، والصبي لم يكن من أهل التكليف قبل البلوغ ، فغير جائز إلزامه حكمه . وأيضا الصغر ينافي صحة الصوم ؛ لأن الصغير لا يصح صومه وإنما يؤمر به على وجه التعلم ، وليعتاده ويمرن عليه ، ألا ترى أنه متى بلغ لم يلزمه قضاء الصلاة المتروكة ولا قضاء الصيام المتروك في حال الصغر ؟

فدل ذلك على أنه غير جائز إلزامه القضاء فيما تركه في حال الصغر ، ولو جاز إلزامه قضاء ما مضى من الشهر لجاز إلزامه قضاء الصوم للعام الماضي إذا كان يطيقه ، فلما اتفق المسلمون على سقوط القضاء للسنة الماضية مع إطاقته للصوم ، وجب أن يكون ذلك حكمه في الشهر الذي أدرك في بعضه .

وأما الكافر فهو في حكم الصبي من هذا الوجه لاستحالة تكليفه للصوم إلا على شرط تقديم الإيمان ومنافاة الكفر لصحة الصوم ، فأشبه الصبي ؛ وليسا كالمجنون الذي يفيق في بعض الشهر في إلزامه القضاء لما مضى من الشهر ؛ لأن الجنون لا ينافي صحة الصوم ، بدلالة أن من جن في صيامه لم يبطل صومه ؛ وفي هذا دليل على أن الجنون لا ينافي صحة صومه ، وأن الكفر ينافيها فأشبه الصغير من هذا الوجه ، وإن اختلفا في باب استحقاق الكافر العقاب على تركه ، والصغير لا يستحقه .

ويدل على سقوط القضاء لما مضى عمن أسلم في بعض رمضان قوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقوله صلى الله عليه وسلم : الإسلام يجب ما قبله والإسلام يهدم ما قبله .

وإنما قال أصحابنا : يمسك المسلم في بعض رمضان والصبي بقية يومهما عن الأكل والشرب ، من قبل أنه قد طرأ عليهما ، وهما مفطران [ ص: 232 ] حال لو كانت موجودة في أول النهار كانا مأمورين بالصيام ، فواجب أن يكونا مأمورين بالإمساك في مثله إذا كانا مفطرين ؛ والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء فقال : من أكل فليمسك بقية يومه ، ومن لم يأكل فليصم وروي أنه أمر الآكلين بالقضاء وأمرهم بالإمساك مع كونهم مفطرين ؛ لأنهم لو لم يكونوا قد أكلوا لأمروا بالصيام ، فاعتبرنا بذلك كل حال تطرأ عليه في بعض النهار ، وهو مفطر بما لو كانت موجودة في أوله كيف يكون حكمه ؛ فإن كان مما يلزمه بها الصوم أمر بالإمساك ، وإن كان مما لا يلزمه لم يؤمر به ؛ ومن أجل ذلك قالوا في الحائض إذا طهرت في بعض النهار ، والمسافر إذا قدم ، وقد أفطر في سفره ، إنهما مأموران بالإمساك ؛ إذ لو كانت حال الطهر والإقامة موجودة في أول النهار كانا مأمورين بالصيام ، وقالوا : لو حاضت في بعض النهار لم تؤمر بالإمساك إذ الحيض لو كان موجودا في أول النهار لم تؤمر بالصيام .

فإن قيل : فهلا أبحت لمن كان مقيما في أول النهار ثم سافر أن يفطر ؛ لأن حال السفر لو كانت موجودة في أول النهار ثم سافر كان مبيحا للإفطار ، قيل له : لم نجعل ما قدمنا علة للإفطار ولا للصوم ، وإنما جعلناه علة لإمساك المفطر ، فأما إباحة الإفطار وحظره فله شرط آخر غير ما ذكرنا .

وقد حوى قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه أحكاما أخر غير ما ذكرنا ؛ منها : دلالته على أن من استبان له بعدما أصبح أنه من رمضان فعليه أن يبتدئ صومه ؛ لأن الآية لم تفرق بين من علمه من الليل أو في بعض النهار ، وهي عامة في الحالين جميعا ، فاقتضى ذلك جواز ترك نية صوم رمضان من الليل ؛ وكذلك المغمى عليه والمجنون إذا أفاقا في بعض النهار ولم يتقدم لهما نية الصوم من الليل فواجب عليهما أن يبتدئا الصيام في ذلك الوقت ؛ لأنهما قد شهدا الشهر ، وقد جعل الله شهود الشهر شرطا للزوم الصوم .

وفي الآية حكم آخر : تدل أيضا على أن من نوى بصيامه في شهر رمضان تطوعا أو عن فرض آخر أنه مجزئ عن رمضان لأن الأمر بفعل الصوم فيه ورد مطلقا غير مقيد بوصف ولا مخصوص بشرط نية الفرض ، فعلى أي وجه صام فقد قضى عهدة الآية وليس عليه غيره . وفيها حكم آخر : تدل أيضا على لزوم صوم أول يوم من رمضان لمن رأى الهلال وحده دون غيره ، وأنه غير جائز له الإفطار مع كون اليوم محكوما عند سائر الناس أنه من شعبان .

وقد روى روح بن عبادة عن هشام ، وأشعث عن الحسن فيمن رأى الهلال [ ص: 233 ] وحده : أنه لا يصوم إلا مع الإمام وروى ابن المبارك عن ابن جريج ، عن عطاء بن أبي رباح في رجل رأى هلال شهر رمضان قبل الناس بليلة : لا يصوم قبل الناس ولا يفطر قبلهم ، أخشى أن يكون شبه له . فأما الحسن فإنه أطلق الجواب في أنه لا يصوم ، وهذا يدل على أنه ، وإن تيقن الرؤية من غير شك ولا شبهة أنه لا يصوم ، وأما عطاء ، فإنه يشبه أن يكون أباح له الإفطار إذا جوز على نفسه الشبهة في الرؤية ، وأنه لم يكن رأى حقيقة ، وإنما تخيل له ما ظنه هلالا .

وظاهر الآية يوجب الصوم على من رآه ؛ إذ لم يفرق بين من رآه وحده ومن رآه مع الناس .

وفيها حكم آخر : ومن الناس من يقول إنه إذا لم يكن عالما بدخول الشهر لم يجزه صومه ، ويحتج بقوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه قال : فإنما ألزم الفرض على من علم به ؛ لأن قوله فمن شهد بمعنى شاهد وعلم ، فمن لم يعلم فهو غير مؤد لفرضه ، وذلك كنحو من يصوم رمضان على شك ثم يصير إلى اليقين ولا اشتباه ، كالأسير في دار الحرب إذا صام شهرا فإذا هو شهر رمضان ، فقالوا : لا يجزئ من كان هذا وصفه ؛ ويحكى هذا القول عن جماعة من السلف . وعن مالك والشافعي فيه قولان :

أحدهما : أنه يجزئ ، والآخر : أنه لا يجزئ .

وقال الأوزاعي في الأسير إذا أصاب عين رمضان : " أجزأه " وكذلك إذا أصاب شهرا بعده . وأصحابنا يجيزون صومه بعد أن يصادف عين الشهر أو بعده ، ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أنه إذا تحرى شهرا وغلب على ظنه أنه رمضان ثم صار إلى اليقين ولا اشتباه أنه رمضان أنه يجزيه ، وكذلك إذا تحرى وقت صلاة في يوم غيم وصلى على غالب الظن ثم تيقن أنه الوقت يجزيه .

وقوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه وإن احتمل العلم به فغير مانع من جوازه ، وإن لم يعلم به ، من قبل أن ذلك إنما هو شرط في لزومه ومنع تأخيره ، وأما نفي الجواز فلا دلالة فيه عليه ، ولو كان الأمر على ما قال من منع جوازه لوجب أن لا يجب على من اشتبهت عليه الشهور ، وهو في دار الحرب ولم يعلم برمضان القضاء ؛ لأنه لم يشاهد الشهر ، ولم يعلم به ، فلما اتفق المسلمون على لزوم القضاء على من لم يعلم بشهر رمضان دل ذلك على أنه ليس شرط جواز صومه العلم به كما لم يكن شرط وجوب قضائه العلم به ، ولما كان من وصفنا من فقد علمه بالشهر شاهدا له في باب لزومه قضاءه إذا لم يصم ، وجب أن يكون شاهدا له في باب جواز صومه متى صادف عينه وأيضا إذا احتمل قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر أن يعني به كونه من أهل التكليف في الشهر على ما تقدم [ ص: 234 ] بيانه ، فواجب أن يجزيه على أي حال شهد الشهر ، وهذا شاهد للشهر من حيث كان من أهل التكليف ، فاقتضى ظاهر الآية جوازه وإن لم يكن عالما بدخوله .

واحتج أيضا من أبى جوازه عند فقد العلم بقوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين قالوا : فإذا كان مأمورا بفعل الصوم لرؤية متقدمة ، فإنه متى لم يره أن يحكم به أنه من شعبان فغير جائز له صومه مع الحكم به من شعبان ؛ إذ كان صوم شعبان غير مجزئ عن رمضان .

وهذا أيضا غير مانع جوازه كما لا يمنع وجوب القضاء إذا علم بعد ذلك أنه من رمضان ؛ وإنما كان محكوما بأنه من شعبان على شرط فقد العلم ، فإذا علم بعد ذلك أنه من رمضان فمتى علم أنه من رمضان فهو محكوم له به من الشهر وينتقض ما كنا حكمنا به بديا من أنه من شعبان فكان حكمنا بذلك منتظرا مراعى ، وكذلك يكون صوم يومه ذلك مراعى ؛ فإن استبان أنه من رمضان أجزأه وإن لم يستبن له فهو تطوع .

فإن قيل : وجوب قضائه إذا أفطر فيه غير دال على جوازه إذا صامه ؛ لأن الحائض يلزمها القضاء ولم يدل وجوب القضاء على الجواز قيل له : إذا كان المانع من جواز صومه فقد العلم به ، فواجب أن يكون هذا المعنى بعينه مانعا من لزوم قضائه إذا أفطر فيه كالمجنون والصبي ؛ لأنك زعمت أن المانع من جوازه كونه غير شاهد للشهر وغير عالم به ، ومن لم يشهد الشهر فلا قضاء عليه إن كان حكم الوجوب مقصورا على من شهده دون من لم يشهده ، ولا يختلف على هذا الحد حكم الجواز إذا صام وحكم القضاء إذا أفطر .

وأما الحائض فلا يتعلق عليها حكم تكليف الصوم من جهة شهودها للشهر وعلمها به ؛ لأنها مع علمها به لا يجزيها صومه ، ولم يتعلق مع ذلك وجوب القضاء بإفطارها ؛ إذ ليس لها فعل في الإفطار ؛ فلذلك لم يجب سقوط القضاء عنها من حيث لم يجزها صومها .

وفيها وجه آخر من الحكم : وهو أن من الناس من يقول : إذا طرأ عليه شهر رمضان ، وهو مقيم ثم سافر فغير جائز له الإفطار ؛ ويروى ذلك عن علي كرم الله وجهه وعن عبيدة وأبي مجلز . وقال ابن عباس والحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي : " إن شاء أفطر إذا سافر " وهو قول فقهاء الأمصار .

واحتج الفريق الأول بقوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه وهذا قد شهد الشهر فعليه إكمال صومه بمقتضى ظاهر اللفظ ، وهذا معناه عند الآخرين إلزام فرض الصوم في حال كونه مقيما ؛ لأنه قد بين حكم المسافر عقيب ذلك بقوله : [ ص: 235 ] ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ولم يفرق بين من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر وبين من كان مسافرا في ابتدائه ، فدل ذلك على أن قوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه مقصور الحكم على حال الإقامة دون حال السفر بعدها . وأيضا لو كان المعنى فيه ما ذكروا لوجب أن يجوز لمن كان مسافرا في أول الشهر ثم أقام أن يفطر ، لقوله تعالى : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وقد كان هذا مسافرا .

وكذلك من كان مريضا في أوله ثم برئ وجب أن يجوز له الإفطار بقضية ظاهرة ؛ إذ قد حصل له اسم المسافر والمريض ؛ فلما لم يكن قوله : ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر مانعا من لزوم صومه إذا أقام أو برئ في بعض الشهر ، وكان هذا الحكم مقصورا على حال بقاء السفر والمرض ، كذلك قوله : فمن شهد منكم الشهر مقصور على حال بقاء الإقامة ، وقد نقل أهل السير وغيرهم إنشاء النبي صلى الله عليه وسلم السفر في رمضان في عام الفتح ، وصومه في ذلك السفر ، وإفطاره بعد صومه ، وأمره الناس بالإفطار ، مع آثار مستفيضة وهي مشهورة غير محتاجة إلى ذكر الأسانيد ؛ وهذا يدل على أن مراد الله في قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه مقصور على حال بقاء الإقامة في إلزام الصوم وترك الإفطار .

التالي السابق


الخدمات العلمية