الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب

                                                                                                                                                                                                فإن قلت : كيف تطابق قوله : اصبر على ما يقولون وقوله : واذكر عبدنا داود حتى عطف أحدهما على صاحبه ؟ قلت : كأنه قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : اصبر على ما يقولون ، وعظم أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود ، وهو أنه نبي من أنبياء الله تعالى قد أولاه ما أولاه من النبوة والملك ، ولكرامته عليه وزلفته لديه ، ثم زل زلة فبعث إليه الملائكة ووبخه عليها . على طريق التمثيل والتعريض ، حتى فطن لما وقع فيه فاستغفر وأناب ، ووجد منه ما يحكى من بكائه الدائم وغمه الواصب ، ونقش جنايته في بطن كفه حتى لا يزال يجدد النظر إليها والندم عليها ، فما الظن بكم مع كفركم ومعاصيكم ؟ أو قال له صلى الله عليه وسلم : اصبر على ما يقولون ، وصن نفسك وحافظ عليها أن تزل فيما كلفت من مصابرتهم وتحمل أذاهم ، واذكر أخاك داود وكرامته على الله كيف زل تلك الزلة اليسيرة فلقي من توبيخ الله وتظليمه ونسبته إلى البغي ما لقي . ذا الأيد ذا القوة في الدين [ ص: 249 ] المضطلع بمشاقه وتكاليفه ، كان على نهوضه بأعباء النبوة والملك يصوم يوما ويفطر يوما ، وهو أشد الصوم ، ويقوم نصف الليل . يقال : فلان أيد ، وذو أيد ، وذو آد . وأياد كل شيء : ما يتقوى به "أواب " تواب رجاع إلى مرضاة الله . فإن قلت : ما دلك على أن الأيد القوة في الدين ؟ قلت : قوله تعالى : إنه أواب ; لأنه تعليل لذي الأيد . "والإشراق " وقت الإشراق ، وهو حين تشرق الشمس ، أي : تضيء ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى ، وأما شروقها فطلوعها ، يقال : شرقت الشمس ، ولما تشرق . وعن أم هانئ : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال : "يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق " . وعن طاوس ، عن ابن عباس قال : هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن ؟ قالوا : لا ، فقرأ : إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق وقال : كانت صلاة يصليها داود عليه السلام ، وعنه : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية ، وعنه : لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى طلبتها فوجدتها بهذه الآية يسبحن بالعشي والإشراق وكان لا يصلي صلاة الضحى ، ثم صلاها بعد . وعن كعب أنه قال لابن عباس : إني لا أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس ، فقال : أنا أوجدك ذلك في كتاب الله تعالى ، يعني هذه الآية . ويحتمل أن يكون من أشرق القوم إذا [ ص: 250 ] دخلوا في الشروق ، ومنه قوله تعالى : فأخذتهم الصيحة مشرقين [الحجر : 73 ] وقول أهل الجاهلية : أشرق ثبير ، ويراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق . ويسبحن : في معنى ومسبحات على الحال . فإن قلت : هل من فرق بين يسبحن ومسبحات ؟ قلت : نعم ، وما اختير يسبحن على مسبحات إلا لذلك ، وهو الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال ، كأن السامع محاضر تلك الحال يسمعها تسبح . ومثله قول الأعشى [من الطويل ] :


                                                                                                                                                                                                إلى ضوء نار في يفاع تحرق



                                                                                                                                                                                                ولو قال : محرقة ، لم يكن شيئا . وقوله : "محشورة " في مقابلة : "يسبحن " إلا أنه لما لم يكن في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء ، جيء به اسما لا فعلا . وذلك أنه لو قيل : وسخرنا الطير يحشرن -على أن الحشر يوجد من حاشرها شيئا شيء ، والحاشر هو الله عز وجل - لكان خلفا ; لأن حشرها جملة واحدة أدل على القدرة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح ، واجتمعا إليه الطير فسبحت ، فذلك حشرها . وقرئ : (والطير محشورة ) بالرفع . كل له أواب كل واحد من الجبال والطير لأجل داود ، أي : لأجل تسبيحه مسبح ; لأنها كانت تسبح بتسبيحه ، ووضع الأواب موضع المسبح : إما لأنها كانت ترجع التسبيح ، والمرجع [ ص: 251 ] رجاع ; لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع ، وإما لأن الأواب -وهو التواب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته - من عادته أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه . وقيل : الضمير لله ، أي : كل من داود والجبال والطير لله أواب ، أي مسبح مرجع للتسبيح . وشددنا ملكه قويناه ، قال تعالى : سنشد عضدك [القصص : 35 ] وقرئ : و (شددنا ) على المبالغة . قيل : كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه وقيل : الذي شد الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة ، أن رجلا ادعى عنده على آخر بقرة ، وعجز عن إقامة البينة ، فأوحى الله تعالى إليه في المنام : أن اقتل المدعى عليه ، فقال : هذا منام ، فأعيد الوحي في اليقظة ، فأعلم الرجل ، فقال : إن الله عز وجل لم يأخذني بهذا الذنب ، ولكن بأني قتلت أبا هذا غيلة ، فقتله ، فقال الناس : إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه ، فقتله ، فهابوه . "الحكمة " الزبور وعلم الشرائع . وقيل : كل كلام وافق الحق فهو حكمة . الفصل : التميز بين الشيئين . وقيل للكلام البين : فصل ، بمعنى المفصول كضرب الأمير ; لأنهم قالوا : كلام ملتبس ، وفى كلامه لبس . والملتبس : المختلط ، فقيل في نقيضه : فصل ، أي : مفصول بعضه من بعض ، فمعنى فصل الخطاب البين من الكلام الملخص الذي يتبينه من يخاطب به لا يلتبسن عليه ، ومن فصل الخطاب وملخصه : أن لا يخطئ صاحبه مظان الفصل والوصل ، فلا يقف في كلمة الشهادة على المستثنى منه ، ولا يتلو قوله : فويل للمصلين [الماعون : 4 ] إلا موصولا بما بعده ، ولا والله يعلم وأنتم حتى يصله بقوله : "لا تعلمون " [البقرة : 232 ] ونحو ذلك ، وكذلك مظان العطف وتركه ، والإضمار والإظهار والحذف والتكرار ، وإن شئت كان الفصل بمعنى الفاصل ، كالصوم والزور ، وأردت بفصل الخطاب : الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والصواب والخطأ ، وهو كلامه في القضايا والحكومات ، وتدابير الملك والمشورات . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهو قوله : البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه . وهو من الفصل بين الحق والباطل ، ويدخل فيه قول بعضهم ، هو قوله : "أما بعد " ; لأنه يفتتح إذا تكلم في الأمر الذي له شأن بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه : فصل بينه وبين ذكر الله بقوله : أما بعد . ويجوز أن يراد الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع [ ص: 252 ] ممل . ومنه ما جاء في صفة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم : فصل لا نذر ولا هذر .

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية