الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 64 ) مسألة قال : ( وإذا كان معه في السفر إناءان ; نجس وطاهر ، واشتبها عليه ، أراقهما ، ويتيمم ) . إنما خص حالة السفر بهذه المسألة ; لأنها الحالة التي يجوز التيمم فيها ، ويعدم فيها الماء غالبا ، وأراد : إذا لم يجد ماء غير الإناءين المشتبهين ، فإنه متى وجد ماء طهورا غيرهما توضأ به ، ولم يجز التحري ولا التيمم ، بغير خلاف . ولا تخلو الآنية المشتبهة من حالين : أحدهما أن لا يزيد عدد الطاهر على النجس ، فلا خلاف في المذهب أنه لا يجوز التحري فيهما .

                                                                                                                                            والثاني أن يكثر عدد الطاهرات ; فذهب أبو علي النجاد ، من أصحابنا ، إلى جواز التحري فيها . وهو [ ص: 50 ] مذهب أبي حنيفة ; لأن الظاهر إصابة الطاهر ; ولأن جهة الإباحة قد ترجحت ، فجاز التحري ، كما لو اشتبهت عليه أخته في نساء مصر . ، وظاهر كلام أحمد : أنه لا يجوز التحري فيها بحال .

                                                                                                                                            وهو قول أكثر أصحابه . وهو قول المزني ، وأبي ثور . وقال الشافعي : يتحرى ويتوضأ بالأغلب عنده في الحالين ; لأنه شرط للصلاة ، فجاز التحري من أجله ، كما لو اشتبهت القبلة ; ولأن الطهارة تؤدى باليقين تارة ، وبالظن أخرى ، ولهذا جاز التوضؤ بالماء القليل المتغير ، الذي لا يعلم سبب تغيره . وقال ابن الماجشون : يتوضأ من كل واحد منهما وضوءا ، ويصلي به .

                                                                                                                                            وبه قال محمد بن مسلمة ، إلا أنه قال : يغسل ما أصابه من الأول ; لأنه أمكنه أداء فرضه بيقين ، فلزمه ، كما لو اشتبه طاهر بطهور ، وكما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها ، أو اشتبهت عليه الثياب . ولنا أنه اشتبه المباح بالمحظور ، فيما لا تبيحه الضرورة ، فلم يجز التحري ، كما لو استوى العدد عند أبي حنيفة ، وكما لو كان أحدهما بولا عند الشافعي ، فإنه قد سلمه ، واعتذر أصحابه بأنه لا أصل له في الطهارة . قلنا : وهذا الماء قد زال عنه أصل الطهارة ، وصار نجسا ، فلم يبق للأصل الزائل أثر ، على أن البول قد كان ماء ، فله أصل في الطهارة ، كهذا الماء النجس .

                                                                                                                                            وقولهم : إذا كثر الطاهر ترجحت الإباحة . يبطل بما إذا اشتبهت أخته في مائة أو ميتة بمذكيات ، فإنه لا يجوز التحري ، وإن كثر المباح ، وأما إذا اشتبهت في نساء مصر ، فإنه يشق اجتنابهن جميعا ، ولذلك يجوز له النكاح من غير تحر . وأما القبلة فيباح تركها للضرورة ، كحالة الخوف ، ويجوز أيضا في السفر في صلاة النافلة ; ولأن قبلته ما يتوجه إليه بظنه ، ولو بان له يقين الخطأ لم يلزمه الإعادة ، بخلاف مسألتنا .

                                                                                                                                            وأما المتغير من غير سبب يعلمه ، فيجوز الوضوء به استنادا إلى أصل الطهارة ، وإن غلب على ظنه نجاسته ، ولا يحتاج إلى تحر . وفي مسألتنا عارض يقين الطهارة يقين النجاسة ، فلم يبق له حكم ، ولهذا لا يجوز استعماله من غير تحر . ثم يبطل قياسهم بما إذا كان أحدهما بولا والآخر ماء . ويدل على صحة ما قلنا : أنه لو توضأ من أحد الإناءين وصلى ، ثم غلب على ظنه في الصلاة الثانية أن الآخر هو الطاهر ، فتوضأ به وصلى من غير غسل أثر الأول ، فقد علمنا أنه صلى بالنجاسة يقينا ، وإن غسل أثر الأول ففيه حرج ونقض لاجتهاده باجتهاده ، ونعلم أن إحدى الصلاتين باطلة ، لا بعينها فيلزمه إعادتهما ، فإن توضأ من الأول فقد توضأ بما يعتقده نجسا .

                                                                                                                                            وما قاله ابن الماجشون فباطل ; فإنه يفضي إلى تنجيس نفسه يقينا ، وبطلان صلاته إجماعا . وما قاله ابن مسلمة ففيه حرج ، ويبطل بالقبلة ; فإنه لا يلزمه أن يصلي إلى أربع جهات . ( 65 ) فصل : وهل يجوز له التيمم قبل إراقتهما ؟ على روايتين : إحداهما ، لا يجوز ; لأن معه ماء طاهرا بيقين ، فلم يجز له التيمم مع وجوده . فإن خلطهما ، أو أراقهما ، جاز له التيمم ; لأنه لم يبق معه ماء طاهر .

                                                                                                                                            والثانية يجوز التيمم قبل ذلك . اختاره أبو بكر . وهو الصحيح ; لأنه غير قادر على استعمال الطاهر ، أشبه ما لو كان في بئر لا يمكنه استقاؤه ، وإن احتاج إليهما للشرب لم تجب إراقتهما ، بغير خلاف ; فإنه يجوز له التيمم لو كانا طاهرين ، فمع الاشتباه أولى . وإذا أراد الشرب تحرى وشرب من الطاهر عنده ; لأنها ضرورة تبيح الشرب من النجس إذا لم يجد غيره ، فمن الذي يظن طهارته أولى .

                                                                                                                                            وإن لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما شرب من أحدهما ، وصار هذا كما [ ص: 51 ] لو اشتبهت ميتة بمذكاة في حال الاضطرار ، ولم يجد غيرها ، فإنه إذا جاز استعمال النجس فاستعمال ما يظن طهارته أولى . وإذا شرب من أحدهما ، أو أكل من المشتبهات ، ثم وجد ماء طهورا ، فهل يلزمه غسل فيه ؟ يحتمل وجهين : أحدهما لا يلزمه ; لأن الأصل طهارة فيه ، فلا تزول عن ذلك بالشك .

                                                                                                                                            والثاني يلزمه ; لأنه محل منع استعماله من أجل النجاسة ، فلزمه غسل أثره ، كالمتيقن . ( 66 ) فصل : وإذا علم عين النجس استحب إراقته ليزيل الشك عن نفسه . وإن احتاج إلى الشرب شرب من الطاهر ، ويتيمم إذا لم يجد غير النجس .

                                                                                                                                            وإن خاف العطش في ثاني الحال ، فقال القاضي : يتوضأ بالماء الطاهر ويحبس النجس ; لأنه غير محتاج إلى شربه في الحال ، فلم يجز التيمم مع وجوده . والصحيح إن شاء الله ، أنه يحبس الطاهر ويتيمم ; لأن وجود النجس كعدمه عند الحاجة إلى الشرب في الحال ، وكذلك في المآل ، وخوف العطش في إباحة التيمم كحقيقته .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية