الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإذا خرج منه ما يشبه المني والمذي ولم يتميز له فقد اختلف أصحابنا فيه ، فمنهم من قال : يجب عليه الوضوء منه ، لأن وجوب غسل الأعضاء مستيقن ، وما زاد على أعضاء الوضوء مشكوك في وجوبه ، فلا يجب بالشك . ومنهم من قال : هو مخير بين أن يجعله منيا فيجب منه الغسل ، وبين أن يجعله مذيا فيجب الوضوء وغسل الثوب منه ; لأنه يحتمل الأمرين ، احتمالا واحدا ، وقال الشيخ الإمام أحسن الله توفيقه : وعندي أنه يجب أن يتوضأ مرتبا ويغسل سائر بدنه ويغسل الثوب منه ، لأنا إن جعلناه منيا أوجبنا عليه غسل ما زاد على أعضاء الوضوء بالشك ، والأصل عدمه ، وإن جعلناه مذيا أوجبنا عليه غسل الثوب والترتيب في الوضوء بالشك ، والأصل عدمه . وليس أحد الأصلين أولى من الآخر ، ولا سبيل إلى إسقاط حكمهما لأن الذمة قد اشتغلت بفرض الطهارة والصلاة . والتخيير لا يجوز ; لأنه إذا جعله مذيا لم يأمن أن يكون منيا فلم يغتسل له ، وإن جعله منيا لم يأمن أن يكون مذيا ولم يغسل الثوب منه ، ولم يرتب الوضوء منه ، وأحب أن يجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا خرج منه ما يشبه المني والمذي واشتبه عليه ففيه أربعة أوجه ( أحدها ) يجب الوضوء مرتبا ولا يجب غيره ، وقد ذكر المصنف دليله . قال الرافعي وغيره : فعلى هذا لو اغتسل كان كمحدث اغتسل .

                                      ( والثاني ) يجب غسل أعضاء الوضوء فقط ولا يجب ترتيبها ، بل يغسلها كيف شاء ; لأن المتحقق هو وجوبها ، والترتيب مشكوك فيه ، وهذا الوجه مشهور في طريقة الخراسانيين ، وصححه الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق ، وهذا عجب منه ، بل هذا الوجه غلط صريح لا شك فيه ، فإنه إذا لم يرتب فصلاته باطلة قطعا ; لأنه لم يأت بموجب واحد منهما ، وقد حكى القاضي حسين هذا الوجه في آخر صفة الوضوء عن شيخه القفال ، وأنه رجع [ ص: 166 ] عنه فقال : قال القفال : الترتيب واجب إلا في ثلاث صور ( إحداها ) هذه ( والثانية ) إذا أولج الخنثى ذكره في دبر رجل فعلى المولج فيه الوضوء بلا ترتيب .

                                      ( والثالثة ) مسألة ابن الحداد التي قدمناها في فصل ترتيب الوضوء . قال القاضي : ثم إن القفال رجع عن المسألتين الأولتين ، وقال : الأصل شغل ذمته بالصلاة ولا تبرأ بهذا ، فصرح القاضي برجوع القفال وأن هذا الوجه خطأ ، وكأن من حكاه خفي عليه رجوع القفال عنه .

                                      ( والوجه الثالث ) أنه مخير بين التزام حكم المني أو المذي ، وهذا هو المشهور في المذهب ، وبه قال أكثر أصحابنا المتقدمين ، وقطع به جمهور المصنفين وصححه الروياني والرافعي وجماعة من فضلاء المتأخرين ; لأنه إذا أتى بمقتضى أحدهما برئ منه يقينا ، والأصل براءته من الآخر ولا معارض لهذا الأصل بخلاف من نسي صلاة من صلاتين ; لأن ذمته اشتغلت بهما جميعا ، والأصل بقاء كل واحد منهما .

                                      ( والوجه الرابع ) يلزمه مقتضى المني والمذي جميعا ; وهو الذي اختاره المصنف وجعله احتمالا لنفسه ، وهو وجه حكاه الرافعي ، وهو الذي يظهر رجحانه لأن ذمته اشتغلت بطهارة ، ولا يستبيح الصلاة إلا بطهارة متيقنة أو مظنونة أو مستصحبة ، ولا يحصل ذلك إلا بفعل مقتضاهما جميعا . قال أصحابنا : فإن قلنا بالتخيير فتوضأ وصلى في ثوب آخر صحت صلاته ، وإن صلى في الثوب الذي فيه البلل ولم يغسله لم تصح صلاته ; لأنه إما جنب ، وإما حامل نجاسة . وإن اغتسل وصلى في هذا الثوب قبل غسله صحت صلاته لاحتمال أنه مني ; قال الرافعي : ويجري هذا الخلاف فيما لو أولج خنثى مشكل في دبر رجل فهما على تقدير ذكورة الخنثى جنبان وإلا فمحدثان ، فالجنابة محتملة ; فإذا توضأ وجب الترتيب ، وفيه الوجه السابق وهو غلط ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) قد يعترض على المصنف في قوله : على اختياره يلزمه غسل الثوب مع الوضوء والغسل فيقال : الصواب أنه لا يجب غسل الثوب ; لأن الأصل طهارته ، فلا يجب غسله بالشك ، بخلاف الجمع بين الوضوء والغسل ، [ ص: 167 ] لأن ذمته اشتغلت بأحدهما ولا تصح الصلاة إلا به ، ولا نعلم أنه أتى به إلا إذا جمع بينهما فوجب الجمع ، وهذا اعتراض حسن . فإن قيل : ما الفرق - على قول الجمهور - بين هذه المسألة وما إذا ملك إناء من ذهب وفضة مختلطين وزنه ألف : ستمائة من أحدهما وأربعمائة من الآخر ، ولا يعرف أيهما أكثر ، فإن المذهب وجوب الاحتياط بأن يزكي ستمائة من كل واحد ، ولم يلزمه الجمهور هنا الاحتياط ; فالجواب أن في مسألة الإناء يمكنه معرفة اليقين بسبكه ولا يمكنه اليقين بعينه ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية