الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : هذه الآية وهي قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) ، أجاب أبو مسلم عنه بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد من الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل ، كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب ، مما وضعه الله تعالى عنا وتعبدنا بغيره ، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون : " لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " ، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب ، وهو كما يقال نسخت الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : أنا بينا أن هذه الآية لا تدل على وقوع النسخ ، بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير منه ، ومن الناس من أجاب عن الاعتراض الأول بأن الآيات إذا أطلقت فالمراد [ ص: 208 ] بها آيات القرآن ؛ لأنه هو المعهود عندنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن الثاني : بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختص ببعض القرآن ، وهذا النسخ مختص ببعضه ، ولقائل أن يقول على الأول : لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن ، بل هو عام في جميع الدلائل ، وعلى الثاني : لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن ، بل التقدير والله أعلم : ما ننسخ من اللوح المحفوظ فإنا نأتي بعده بما هو خير منه .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية للقائلين بوقوع النسخ في القرآن : أن الله تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا كاملا ، وذلك في قوله : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول ) [ البقرة : 240 ] ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشر كما قال : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ البقرة : 234 ] قال أبو مسلم : الاعتداد بالحول ما زال بالكلية ؛ لأنها لو كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا ، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا ناسخا ، والجواب : أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل ، سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر ، فجعل السنة العدة يكون زائلا بالكلية .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ) [ المجادلة : 12 ] ثم نسخ ذلك ، قال أبو مسلم : إنما زال ذلك لزوال سببه ؛ لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون من حيث لا يتصدقون عن المؤمنين ، فلما حصل هذا الغرض سقط التعبد . والجواب : لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقا ، وهو باطل ؛ لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي - رضي الله عنه - ويدل عليه قوله تعالى : ( فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم ) [ المجادلة : 13 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة : أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى : ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ) [ الأنفال : 65 ] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) [ الأنفال : 66 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الخامسة : قوله تعالى : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) [ البقرة : 142 ] ثم إنه تعالى أزالهم عنها بقوله : ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) [ البقرة : 144 ] . قال أبو مسلم : حكم تلك القبلة ما زال بالكلية ، لجواز التوجه إليها عند الإشكال ، أو مع العلم إذا كان هناك عذر . الجواب : أن على ما ذكرته لا فرق بين بيت المقدس وسائر الجهات ، فالخصوصية التي بها امتاز بيت المقدس عن سائر الجهات قد زالت بالكلية فكان نسخا .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة السادسة : قوله تعالى : ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر ) [ النحل : 101 ] والتبديل يشتمل على رفع وإثبات ، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم ، فكيف كان فهو رفع ونسخ ، وإنما أطنبنا في هذه الدلائل ؛ لأن كل واحد منها يدل على وقوع النسخ في الجملة ، واحتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل . والجواب : أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله ، ولا يأتيه من بعده أيضا ما يبطله .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية