الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الفصل التاسع : ما يتعلق بالمال ، والمتاع

          وأما الضرب الثالث : فهو ما تختلف الحالات في التمدح به ، والتفاخر بسببه ، والتفضيل لأجله ، ككثرة المال فصاحبه على الجملة معظم عند العامة ، لاعتقادها توصله به إلى حاجاته ، وتمكن أغراضه بسببه ، وإلا فليس فضيلة في نفسه ، فمتى كان المال بهذه الصورة ، وصاحبه منفقا له في مهمات من اعتراه ، وأمله ، وتصريفه في مواضعه مشتريا به المعالي ، والثناء الحسن ، والمنزلة في القلوب كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا ، وإذا صرفه في وجوه البر ، وأنفقه في سبيل الخير ، وقصد بذلك الله ، والدار الآخرة ، كان فضيلة عند الكل بكل حال ، ومتى كان صاحبه ممسكا له غير موجهه وجوهه ، حريصا على جمعه ، عاد كثره كالعدم ، وكان منقصة في صاحبه ، ولم [ ص: 172 ] يقف به على جدد السلامة ، بل أوقعه في هوة رذيلة البخل ، ومذمة النذالة ، فإذا التمدح بالمال ، وفضيلته عند مفضله ليست لنفسه ، وإنما هو للتوصل به إلى غيره ، وتصريفه في متصرفاته ، فجامعه إذا لم يضعه مواضعه ، ولا وجهه وجوهه غير مليء بالحقيقة ، ولا غني بالمعنى ، ولا ممتدح عند أحد من العقلاء ، بل هو فقير أبدا غير واصل إلى غرض من أغراضه ، إذ ما بيده من المال الموصل لها لم يسلط عليه ، فأشبه خازن مال غيره ، ولا مال له ، فكان ليس في يده منه شيء ، والمنفق مليء ، غني بتحصيله فوائد المال ، وإن لم يبق في يده من المال شيء . فانظر سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وخلقه في المال تجده قد أوتي خزائن الأرض ، ومفاتيح البلاد ، وأحلت له الغنائم ، ولم تحل لنبي قبله ، وفتح عليه في حياته - صلى الله عليه وسلم - بلاد الحجاز ، واليمن وجميع جزيرة العرب ، وما دانى ذلك من الشام ، والعراق ، وجلبت إليه من أخماسها ، وجزيتها ، وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إلا بعضه ، وهادته جماعة من ملوك الأقاليم فما استأثر بشيء منه ، ولا أمسك منه درهما ، بل صرفه مصارفه ، وأغنى به غيره ، وقوى به المسلمين ، وقال : ما يسرني أن لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار ، إلا دينارا أرصده لدين . وأتته دنانير مرة فقسمها ، وبقيت منه ستة ، فدفعها لبعض نسائه ، فلم يأخذه نوم حتى قام ، وقسمها ، وقال : الآن استرحت . ومات ، ودرعه مرهونة في نفقة عياله . واقتصر من نفقته ، وملبسه ، ومسكنه على ما تدعو ضرورته إليه . وزهد فيما سواه ، فكان يلبس ما وجده ، فيلبس في الغالب الشملة ، والكساء الخشن ، والبرد الغليظ ، ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوصة بالذهب ، ويرفع لمن لم يحضره ، إذ المباهاة في الملابس ، والتزين بها ليست من خصال الشرف ، والجلالة ، وهي من سمات النساء . والمحمود منها نقاوة الثوب ، والتوسط في جنسه ، وكونه لبس مثله ، غير مسقط لمروءة جنسه مما لا يؤدي إلى الشهرة في الطرفين .

          وقد ذم الشرع ذلك ، وغاية الفخر فيه في العادة عند الناس إنما يعود إلى الفخر بكثرة الموجود ، ووفور الحال . وكذلك التباهي بجودة المسكن ، وسعة المنزل ، وتكثير آلاته ، وخدمه ، ومركوباته . ومن ملك الأرض ، وجبي إليه ما فيها ، فترك ذلك زهدا ، وتنزها ، فهو حائز لفضيلة المال ، ومالك للفخر بهذه الخصلة إن كانت فضيلة زائد عليها في الفخر ، ومغرق في المدح بإضرابه عنها ، وزهده في فانيها ، وبذلها في مظانها .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية