الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة ، وتبين لك اعتبار أمور :

                        ( أحدها ) : الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله .

                        والثاني : أن عامة النظر فيها إنما هو فيما غفل معناه وجرى على [ ص: 628 ] ذوق المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول ، فلا مدخل لها في التعبدات ، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية ، لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل ، كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره ، والحج . . . ونحو ذلك .

                        فيتأمل الناظر الموفق كيف وضعت على التحكم المحض المنافي للمناسبات التفصيلية .

                        ألا ترى أن الطهارات ـ على اختلاف أنواعها ـ قد اختص كل نوع منها بتعبد مخالف جدا لما يظهر لبادي الرأي ؟

                        فإن البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما تطهير أعضاء الوضوء دون المخرجين فقط ، ودون جميع الجسد ، فإذا خرج المني أو دم الحيض وجب غسل جميع الجسد دون دم المخرج فقط ، ودون أعضاء الوضوء .

                        ثم إن التطهير واجب مع نظافة الأعضاء [ إذا أحدث ] ، وغير واجب مع قذارتها بالأوساخ والأدران إذا فرض أنه لم يحدث .

                        ثم التراب ـ ومن شأنه التلويث ـ يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف .

                        ثم نظرنا في أوقات الصلوات فلم نجد فيها مناسبة لإقامة الصلوات فيها ، لاستواء الأوقات في ذلك .

                        وشرع للإعلام بها أذكار مخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها ، فإذا أقيمت ابتدأت إقامتها بأذكار أيضا ، [ ص: 629 ] ثم شرعت ركعاتها مختلفة باختلاف الأوقات ، وكل ركعة لها ركوع واحد وسجودان دون العكس ، إلا صلاة خسوف الشمس فإنها على غير ذلك ، ثم كانت خمس صلوات دون أربع أو ست وغير ذلك من الأعداد ، فإذا دخل المتطهر المسجد أمر بتحيته بركعتين دون واحدة كالموتر ، أو أربع كالظهر ، فإذا سها في صلاة سجد سجدتين دون سجدة واحدة ، فإذا قرأ [ آية ] سجدة سجد واحدة دون اثنتين .

                        ثم أمر بصلاة النوافل ونهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة ، وعلل النهي بأمر غير معقول المعنى .

                        ثم شرعت الجماعة في بعض النوافل كالعيدين والخسوف والاستسقاء ، دون صلاة الليل ورواتب النوافل .

                        فإذا صرنا إلى غسل الميت وجدناه لا معنى له معقولا ، فإنه غير مكلف ، ثم أمرنا بالصلاة عليه بالتكبير دون ركوع أو سجود أو تشهد ، والتكبير أربع تكبيرات دون اثنتين أو ست أو سبع أو غيرها من الأعداد .

                        فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرا كإمساك النهار دون الليل ، والإمساك عن المأكولات والمشروبات ، دون الملبوسات والمركوبات ، والنظر والمشي والكلام ، وأشباه ذلك ، وكان الجماع ـ وهو راجع إلى الإخراج ـ كالمأكول ـ وهو راجع إلى الضد ، [ ص: 630 ] وكان شهر رمضان ـ وإن كان قد أنزل فيه القرآن ـ ولم يكن أيام الجمع ، وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس ، أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل . ثم الحج أكثر تعبدا من الجميع .

                        وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه . فاعلموا أن في هذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قصد قصده ونحا نحوه واعتبرت جهته ، وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة ، وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه ، وسواء علينا أقلنا : إن التكاليف معللة بمصالح العباد ، أم لم نقله : اللهم إلا قليلا من مسائلها ظهر فيها معنى فهمناه من الشرع فاعتبرنا به أو شهدنا في بعضها بعدم الفرق بين المنصوص عليه ، والمسكوت عنه ، فلا حرج حينئذ فإن أشكل الأمر ، فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل ، فهو العروة الوثقى للمتفقه في الشريعة والوزر الأحمى .

                        ومن أجل ذلك قال حذيفة ـ رضي الله عنه ـ : كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا ، فاتقوا الله يا معشر القراء ، وخذوا بطريق من كان قبلكم ونحوه لابن مسعود أيضا ، وقد تقدم من ذلك كثير .

                        ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن [ ص: 631 ] ظهرت لبادي الرأي ، وقوفا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه ، فلم يلتفت في إزالة الأخباث ، ورفع الأحداث ، إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره ، حتى اشترط في رفع الأحداث النية ، ولم يقم غير الماء مقامه عنده ـ وإن حصلت النظافة ـ حتى يكون بالماء المطلق ، وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء ، ومنع من إخراج القيم في الزكاة ، واقتصر في الكفارات على مراعاة العدد ، وما أشبه ذلك .

                        ودورانه في ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى مناسب ـ إن تصور ـ لقلة ذلك في التعبدات وندوره ، بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول ، فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية ، نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه ولا يناقض أصلا من أصوله ، حتى لقد استشنع العلماء كثيرا من وجوه استرساله زاعمين أنه خلع الربقة ، وفتح باب التشريع ، وهيهات ما أبعده من ذلك ! رحمه الله ، بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه بالاتباع ، بحيث يخيل لبعض أنه مقلد لمن قبله ، بل هو صاحب البصيرة في دين الله ـ حسبما بين أصحابه في كتاب سيره ـ .

                        بل حكي عن أحمد بن حنبل أنه قال : إذا رأيت الرجل يبغض مالكا فاعلم أنه مبتدع ، وهذه غاية في الشهادة بالاتباع .

                        وقال أبو داود : أخشى عليه البدعة ( يعني المبغض لـ مالك ) .

                        [ ص: 632 ] وقال ابن المهدي : إذا رأيت الحجازي يحب مالك بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة ، وإذا رأيت أحدا يتناوله فاعلم أنه على خلاف السنة .

                        وقال إبراهيم بن يحيى بن هشام : ما سمعت أبا داود لعن أحدا قط إلا رجلين : أحدهما : رجل ذكر له أنه لعن مالكا ، والآخر : بشر المريسي .

                        وعلى الجملة فغير مالك أيضا موافق له في أن أصل العبادات عدم معقولية المعنى ، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل ، فالأصل متفق عليه عند الأمة ، ما عدا الظاهرية ، فإنهم لا يفرقون بين العبادات والعادات ، بل الكل غير معقول المعنى ، فهم أحرى بأن لا يقولوا بأصل المصالح فضلا عن أن يعتقدوا المصالح المرسلة .

                        والثالث : أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ، ورفع حرج لازم في الدين ، وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لا يتم الواجب إلا به . . . فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد ، ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد .

                        أما رجوعها إلى ضروري فقد ظهر من الأمثلة المذكورة .

                        وكذلك رجوعها إلى رفع حرج لازم ، وهو إما لاحق بالضروري ، وإما من الحاجي ، وعلى كل تقدير فليس فيها ما يرجع إلى التقبيح والتزيين البتة ، فإن جاء من ذلك شيء : فإما من باب آخر منها ، كقيام رمضان في المساجد جماعة ـ حسبما تقدم ـ وإما معدود [ ص: 633 ] من قبيل البدع التي أنكرها السلف الصالح ـ كزخرفة المساجد والتثويب بالصلاة ـ وهو من قبيل ما يلائم .

                        وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل وما لا يتم الواجب إلا به :

                        إن نص على اشتراطه ، فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب ، لأن نص الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر فيه .

                        وإن لم ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي ، فلا يلزم أن يكون شرعيا ، كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة ، فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كتب عاديا مطردا ؛ لصح ذلك ، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها ، كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك ، ، وكذلك سائر المصالح الضرورية ـ إذا ثبت هذا ـ لم يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل .

                        وأما كونها في الحاجي من باب التخفيف فظاهر أيضا ، وهو أقوى في الدليل الرافع للحرج ، فليس فيه ما يدل على تشديد ولا زيادة تكليف ، والأمثلة مبينة لهذا الأصل أيضا .

                        إذا تقررت هذه الشروط علم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة :

                        لأن موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل ، والتعبدات من حقيقتها أن لا يعقل معناها على التفصيل .

                        وقد مر أن العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما يدخلها من جهة ما [ ص: 634 ] فيها من التعبد لا بإطلاق .

                        وأيضا ، فإن البدع في عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع . بل إنما تتصور على أحد وجهين : إما مناقضة لمقصوده ـ كما تقدم في مسألة المفتي للملك بصيام شهرين متتابعين ـ وإما مسكوتا عنها فيه ؛ كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده على تقدير عدم النص به ، وقد تقدم نقل الإجماع على اطراح القسمين وعدم اعتبارهما .

                        ولا يقال : إن المسكوت عنه يلحق بالمأذون فيه . إذ يلزم من ذلك خرق الإجماع ؛ لعدم الملاءمة . ولأن العبادات ليس حكمها حكم العادات في أن المسكوت عنه كالمأذون فيه ، إن قيل بذلك ، فهي تفارقها . إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا أصل لها ؛ لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرح به ؛ بخلاف العادات ، والفرق بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات في الجملة . وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إلى الله تعالى . وقد أشير إلى هذا المعنى في كتاب الموافقات وإلى هذا .

                        فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إلى حفظ ضروري من باب الوسائل أو إلى التخفيف ، فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات ، لأن البدع من باب الوسائل ؛ لأنها متعبد بها بالفرض . ولأنها زيادة في التكليف وهو مضادة للتخفيف .

                        فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم الملغى باتفاق العلماء . وحسبك به متعلقا . والله الموفق .

                        وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئا من التعبدات إلى [ ص: 635 ] آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده . والزيادة عليه بدعة ، كما أن النقصان منه بدعة . وقد مر لهما أمثلة كثيرة وسيأتي أخيرا في أثناء الكتاب بحول الله .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية