الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    7 - ( فصل )

                    وسلك أصحابه وخلفاؤه من بعده ما هو معروف لمن طلبه فمن ذلك : أن أبا بكر رضي الله عنه حرق اللوطية ، وأذاقهم حر النار في الدنيا قبل الآخرة .

                    وكذلك قال أصحابنا : إذا رأى الإمام تحريق اللوطي فله ذلك . فإن خالد بن الوليد رضي الله عنه كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه " أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة " فاستشار الصديق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان أشدهم قولا ، فقال : " إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا واحدة ، فصنع الله بهم ما قد علمتم ، أرى أن يحرقوا بالنار فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقوا بالنار . فكتب أبو بكر [ ص: 17 ] إلى خالد " أن يحرقوا " فحرقهم .

                    ثم حرقهم عبد الله بن الزبير في خلافته . ثم حرقهم هشام بن عبد الملك .

                    وحرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حانوت الخمار بما فيه . وحرق قرية يباع فيها الخمر . وحرق قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب في قصره عن الرعية . فذكر الإمام أحمد رحمه الله في مسائل ابنه صالح : أنه دعا محمد بن مسلمة فقال : " اذهب إلى سعد بالكوفة ، فحرق عليه قصره ، ولا تحدثن حدثا حتى تأتيني " فذهب محمد إلى الكوفة ، فاشترى من نبطي حزمة حطب ، وشرط عليه حملها إلى قصر سعد . فلما وصل إليه ألقى الحزمة فيه ، وأضرم فيها النار ، فخرج سعد ، فقال : " ما هذا ؟ " قال : " عزمة أمير المؤمنين فتركه حتى احترق . ثم انصرف إلى المدينة ، فعرض عليه سعد نفقة ، فأبى أن يقبلها ، فلما قدم على عمر قال له : " هلا قبلت نفقته ؟ " فقال : " إنك قلت : لا تحدثن حدثا حتى تأتيني " .

                    وحلق عمر رأس نصر بن حجاج ، ونفاه من المدينة لتشبيب النساء به وضرب صبيغ بن عسيل التميمي على رأسه ، لما سأل عما لا يعنيه . وصادر عماله ، فأخذ شطر أموالهم لما اكتسبوها بجاه العمل ، واختلط ما يختصمون به بذلك . فجعل أموالهم بينهم وبين المسلمين شطرين . [ ص: 18 ] وألزم الصحابة أن يقلوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتغلوا به عن القرآن ، سياسة منه ، إلى غير ذلك من سياساته التي ساس بها الأمة رضي الله عنه قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ومن ذلك إلزامه للمطلق ثلاثا بكلمة واحدة بالطلاق ، وهو يعلم أنها واحدة . ولكن لما أكثر الناس منه رأى عقوبتهم بإلزامهم به . ووافقه على ذلك رعيته من الصحابة .

                    وقد أشار هو إلى ذلك ، فقال : " إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة ، فلو أنا أمضيناه عليهن ؟ " فأمضاه عليهم ليقلوا منه فإنهم إذا علموا أن أحدهم إذا أوقع الثلاثة جملة واحدة وقعت ، وأنه لا سبيل له إلى المرأة : أمسك عن ذلك .

                    فكان الإلزام به عقوبة منه لمصلحة رآها ، ولم يكن يخفى عليه أن الثلاث كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر تجعل واحدة ، بل مضى على ذلك صدر من خلافته ، حتى أكثر الناس من ذلك ، وهو اتخاذ لآيات الله هزوا .

                    كما في " المسند " و " سنن النسائي " وغيرهما من حديث محمود بن لبيد : { أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟ فقال رجل : ألا أضرب عنقه يا رسول الله ؟ } فلما أكثر الناس من ذلك عاقبهم به . ثم إنه ندم على ذلك قبل موته ، كما ذكره الإسماعيلي في " مسند عمر " .

                    فقلت لشيخنا : فهلا تبعت عمر في إلزامهم به عقوبة . فإن جمع الثلاث محرم عندك ؟ فقال : أكثر الناس اليوم لا يعلمون أن ذلك محرم ، ولا سيما الشافعي يراه جائزا ، فكيف يعاقب الجاهل بالتحريم ؟ قال : وأيضا فإن عمر ألزمهم بذلك .

                    وسد عليهم باب التحليل ، وأما هؤلاء : فيلزمونهم بالثلاث ، وكثير منهم يفتح لهم باب التحليل ، فإنه لا بد للرجل من امرأته ، فإذا علم أنها لا ترجع إليه إلا بالتحليل سعى في ذلك .

                    والصحابة لم يكونوا يسوغون ذلك ، فحصلت مصلحة الامتناع من الجمع من غير وقوع مفسدة التحليل بينهم .

                    قال : ولو علم عمر أن الناس يتتابعون في التحليل لرأى أن إقرارهم على ما كان عليه الأمر في زمن رسول ، الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وصدرا من خلافته أولى ، وبسط شيخنا الكلام في ذلك بسطا طويلا .

                    [ ص: 19 ] قال : ومن ذلك منعه بيع أمهات الأولاد ، وإنما كان رأيا منه رآه للأمة ، وإلا فقد بعن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومدة خلافة الصديق ، ولهذا عزم علي بن أبي طالب على بيعهن ، وقال : " إن عدم البيع كان رأيا اتفق عليه هو وعمر " ، فقال له قاضيه عبيدة السلماني : " يا أمير المؤمنين ، رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك " ، فقال : " اقضوا كما كنتم تقضون ، فإني أكره الخلاف " فلو كان عنده نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم بيعهن لم يضف ذلك إلى رأيه ورأي عمر ، ولم يقل " إني رأيت أن يبعن " .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية