الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثم يكشف لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم، وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم يوقع في الأرض الفساد، ويملؤها برا وبحرا بهذا الفساد، ويجعله مسيطرا على أقدارها، غالبا عليها:

                                                                                                                                                                                                                                      ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ..

                                                                                                                                                                                                                                      فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثا، ولا يقع مصادفة، إنما هو تدبير الله وسنته.. ليذيقهم بعض الذي عملوا من الشر والفساد، حينما يكتوون بناره، ويتألمون لما يصيبهم منه: لعلهم يرجعون فيعزمون على مقاومة الفساد، ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم.

                                                                                                                                                                                                                                      ويحذرهم في نهاية هذه الجولة أن يصيبهم ما أصاب المشركين قبلهم، وهم يعرفون عاقبة الكثيرين منهم، ويرونها في آثارهم حين يسيرون في الأرض، ويمرون بهذه الآثار في الطريق:

                                                                                                                                                                                                                                      قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين .

                                                                                                                                                                                                                                      وكانت عاقبتهم ما يرون حين يسيرون في الأرض، وهي عاقبة لا تشجع أحدا على سلوك ذلك الطريق!

                                                                                                                                                                                                                                      وعند هذا المقطع يشير إلى الطريق الآخر الذي لا يضل سالكوه، وإلى الأفق الآخر الذي لا يخيب قاصدوه..

                                                                                                                                                                                                                                      فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله. يومئذ يصدعون. من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون. ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله. إنه لا يحب الكافرين .

                                                                                                                                                                                                                                      والصورة التي يعبر بها عن الاتجاه إلى الدين القيم صورة موحية معبرة عن كمال الاتجاه، وجديته، واستقامته: فأقم وجهك للدين القيم .. وفيها الاهتمام والانتباه والتطلع، واستشراف الوجهة السامية والأفق العالي والاتجاه السديد.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جاء هذا التوجيه أول مرة في السورة بمناسبة الكلام عن الأهواء المتفرقة والأحزاب المختلفة. أما هنا فيجيء بمناسبة الشركاء، والرزق ومضاعفته، والفساد الناشئ من الشرك، وما يذوقه الناس في الأرض من ظهور الفساد واستعلائه، وعاقبة المشركين في الأرض. يجيء بهذه المناسبة فيبين جزاء الآخرة ونصيب المؤمنين والكافرين فيها ويحذرهم من يوم لا مرد له من الله. يوم يتفرقون فريقين: من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ..

                                                                                                                                                                                                                                      ويمهد معناها يمهد ويعبد، ويعد المهد الذي فيه يستريح، ويهيئ الطريق أو المضجع المريح. وكلها ظلال تتجمع وتتناسق، لتصور طبيعة العمل الصالح ووظيفته. فالذي يعمل العمل الصالح إنما يمهد لنفسه ويهيئ أسباب الراحة في ذات اللحظة التي يقوم فيها بالعمل الصالح لا بعدها. وهذا هو الظل الذي يلقيه التعبير. وذلك: ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات .. من فضله .. فما يستحق أحد من بني آدم الجنة بعمله. وما يبلغ مهما عمل أن يشكر الله على جزء من فضله. إنما هو فضل الله ورحمته بالمؤمنين. وكراهيته سبحانه للكافرين: إنه لا يحب الكافرين ..

                                                                                                                                                                                                                                      بعد ذلك يأخذ معهم في جولة أخرى تكشف عن بعض آيات الله، وما فيها من فضل الله ورحمته، فيما يهبهم من رزق وهدى ينزل عليهم، فيعرفون بعضه وينكرون بعضه. ثم لا يشكرون ولا يهتدون.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2774 ] ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات، وليذيقكم من رحمته، ولتجري الفلك بأمره، ولتبتغوا من فضله، ولعلكم تشكرون. ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات، فانتقمنا من الذين أجرموا، وكان حقا علينا نصر المؤمنين. الله الذي يرسل الرياح، فتثير سحابا، فيبسطه في السماء كيف يشاء، ويجعله كسفا، فترى الودق يخرج من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون. وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين. فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها. إن ذلك لمحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير. ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنه يجمع في هذه الآيات بين إرسال الرياح مبشرات، وإرسال الرسل بالبينات، ونصر المؤمنين بالرسل، وإنزال المطر المحيي، وإحياء الموتى وبعثهم.. وهو جمع له مغزاه.. إنها كلها من رحمة الله، وكلها تتبع سنة الله. وبين نظام الكون، ورسالات الرسل بالهدى، ونصر المؤمنين، صلة وثيقة. وكلها من آيات الله. ومن نعمته ورحمته، وبها تتعلق حياتهم، وهي مرتبطة كلها بنظام الكون الأصيل.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية