الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    98 - ( فصل )

                    [ ص: 201 ] عموم الولايات وخصوصها : إذا عرف هذا فعموم الولايات وخصوصها ، وما يستفيده المتولي بالولاية : يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف ، وليس لذلك حد في الشرع ، فقد يدخل في ولاية القضاء - في بعض الأزمنة والأمكنة - ما يدخل في ولاية الحرب في زمان ومكان آخر ، وبالعكس ، وكذلك الحسبة ، وولاية المال ، وجميع هذه الولايات في الأصل ولايات دينية ، ومناصب شرعية ، فمن عدل في ولاية من هذه الولايات ، وساسها بعلم وعدل ، وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان ، فهو من الأبرار العادلين ، ومن حكم فيها بجهل وظلم ، فهو من الظالمين المعتدين ، و { إن الأبرار لفي نعيم ، وإن الفجار لفي جحيم } .

                    فولاية الحرب في هذه الأزمنة ، في البلاد الشامية والمصرية وما جاورها : تختص بإقامة الحدود : من القتل ، والقطع ، والجلد ، ويدخل فيها الحكم في دعاوى التهم التي ليس فيها شهود ولا إقرار ، كما تختص ولاية القضاء بما فيه كتاب وشهود وإقرار ، من الدعاوى التي تتضمن إثبات الحقوق والحكم بإيصالها إلى أربابها ، والنظر في الأبضاع والأموال التي ليس لها ولي معين ، والنظر في حال نظار الوقوف ، وأوصياء اليتامى ، وغير ذلك .

                    وفي بلاد أخرى - كبلاد الغرب - ليس لوالي الحرب مع القاضي حكم في شيء ، إنما هو منفذ لما يأمر به متولي القضاء .

                    وأما ولاية الحسبة : فخاصتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما ليس من خصائص الولاة والقضاة ، وأهل الديوان ونحوهم ، فعلى متولي الحسبة أن يأمر العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها ، ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس ، وأما القتل : فإلى غيره ، ويتعاهد الأئمة والمؤذنين ، فمن فرط منهم فيما يجب عليه من حقوق الأمة وخرج عن المشروع ألزمه به ، واستعان فيما يعجز عنه بوالي الحرب والقاضي .

                    واعتناء ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة أهم من كل شيء ، فإنها عماد الدين ، وأساسه وقاعدته ، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى عماله : " إن أهم أمركم عندي الصلاة ، [ ص: 202 ] فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ، ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة " . ويأمر والي الحسبة بالجمعة والجماعة وأداء الأمانة والصدق ، والنصح في الأقوال والأعمال ، وينهى عن الخيانة ، وتطفيف المكيال والميزان ، والغش في الصناعات والبياعات ، ويتفقد أحوال المكاييل والموازين ، وأحوال الصناع الذين يصنعون الأطعمة والملابس والآلات ، فيمنعهم من صناعة المحرم على الإطلاق ، كآلات الملاهي ، وثياب الحرير للرجال ، ويمنع من اتخاذ أنواع المسكرات ، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته ، ويمنع من إفساد نقد الناس وتغييرها ، ويمنع من جعل النقود متجرا ، فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله ، بل الواجب : أن تكون النقود رءوس أموال ، يتجر بها ، ولا يتجر فيها ، وإذا حرم السلطان سكة أو نقدا منع من الاختلاط بما أذن في المعاملة به .

                    ومعظم ولايته وقاعدتها : الإنكار على هؤلاء الزغلية ، وأرباب الغش في المطاعم والمشارب والملابس وغيرها ، فإن هؤلاء يفسدون مصالح الأمة ، والضرر بهم عام لا يمكن الاحتراز منه ، فعليه ألا يهمل أمرهم ، وأن ينكل بهم وأمثالهم ، ولا يرفع عنهم عقوبته ، فإن البلية بهم عظيمة ، والمضرة بهم شاملة ولا سيما هؤلاء الكيماويين الذين يغشون النقود والجواهر ، والعطر والطيب وغيرها ، يضاهئون بزغلهم وغشهم خلق الله ، والله تعالى لم يخلق شيئا فيقدر العباد أن يخلقوا كخلقه ، قال تعالى - فيما حكى عنه رسوله صلوات الله وسلامه عليه - : { ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة } .

                    ولهذا كانت المصنوعات - كالطبائخ والملابس والمساكن - غير مخلوقة إلا بتوسط الناس ، وقال تعالى : { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون ، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } ، وقال تعالى : { أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون } وكانت المخلوقات من المعادن والنبات والدواب غير مقدور لبني آدم أن [ ص: 203 ] يصنعوها ، لكن يشبهون بها على سبيل الغش ، وهذا حقيقة الكيمياء ، فإنها ذهب مشبه .

                    ويدخل في المنكرات : ما نهى الله عنه ورسوله من العقود المحرمة ، مثل عقود الربا ، صريحا واحتيالا ، وعقود الميسر ، كبيوع الغرر ، وكحبل الحبلة . والملامسة والمنابذة ، والنجش . وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ، وتصرية الدابة اللبون ، وسائر أنواع التدليس ، وكذلك سائر الحيل المحرمة على أكل الربا ، وهي ثلاثة أقسام : أحدها : ما يكون من واحد ، كما إذا باعه سلعة بنسيئة ، ثم اشتراها منه بأقل من ثمنها نقدا . حيلة على الربا .

                    ومنها : ما تكون ثنائية . وهي أن تكون من اثنين : مثل أن يجمع إلى القرض : بيعا أو إجارة أو مساقاة أو مزارعة ونحو ذلك ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم يضمن ، ولا بيع ما ليس عندك } قال الترمذي : حديث صحيح ، وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما ، أو الربا } .

                    ومنها : ما تكون ثلاثية ، وهي أن يدخلا بينهما محللا للربا ، فيشتري السلعة من آكل الربا ، ثم يبيعها لمعطي الربا إلى أجل ، ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم يستعيدها المحلل . وهذه المعاملات : منها ما هو حرام بالاتفاق ، مثل التي يباع فيها المبيع قبل القبض الشرعي ، أو بغير الشرط الشرعي ، أو يقلب فيها الدين على المعسر ، فإن المعسر يجب إنظاره ، ولا تجوز الزيادة عليه بمعاملة ولا غيرها ، ومتى استحل المرابي قلب الدين ، وقال للمدين : إما أن تقضي ، وإما أن تزيد في الدين والمدة : فهو كافر ، يجب أن يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل ، وأخذ ماله فيئا لبيت المال . فعلى والي الحسبة إنكار ذلك جميعه ، والنهي عنه ، وعقوبة فاعله ، ولا يتوقف ذلك على دعوى ومدعى عليه ، فإن ذلك من المنكرات التي يجب على ولي الأمر إنكارها ، والنهي عنها .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية