الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    96 - ( فصل )

                    وأما حديث زيد بن أرقم - في قصة علي في الولد الذي ادعاه الثلاثة والإقراع بينهما : فهو حديث مضطرب جدا ، كما تقدم ذكره .

                    وقد قال علي بن سعيد : سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث ؟ فقال : هذا حديث منكر ، لا أدري ما هذا ولا أعرفه صحيحا .

                    وقال له إسحاق بن منصور : حديث زيد بن أرقم " أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد ؟ " قال : حديث عمر في القافة أعجب إلي . وذكر البخاري في تاريخه " : أن عبد الله بن الخليل لا يتابع على هذا الحديث . وهذا يوافق قول أحمد : أنه حديث منكر .

                    ويدل عليه أيضا : ما رواه قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن علي رضي الله عنه " أن رجلين وقعا على امرأة في طهر واحد ، فجاءت بولد ، فدعا له علي القافة ، وجعله ابنهما جميعا ، يرثهما ويرثانه " وهذا يدل على أن مذهب علي رضي الله عنه : الأخذ بالقافة دون القرعة .

                    وأيضا : فالمعهود من استعمال القرعة إنما هو إذا لم يكن هناك مرجح سواها . ومعلوم أن القافة مرجحة : إما شهادة ، وإما حكما ، وإما فتيا ; فلا يصار إلى القرعة مع وجودها . وأيضا : فنفاة القافة لا يأخذون بحديث علي في القرعة ، ولا بحديثه وحديث عمر في القافة ، فلا يقولون بهذا ولا بهذا .

                    فنقول : حديث علي : إما أن يكون ثابتا أو ليس بثابت ، فإن لم يثبت فلا إشكال ، وإن كان ثابتا ، فهو واقعة عين ، تحتمل ، وجوها : أحدها : أنه لا يكون قد وجد في ذلك المكان وفي ذلك الوقت قائف ، أو يكون قد أشكل على القائف ولم يتبين له ، أو يكون لعدم كون القيافة طريقا شرعيا ، وإذا احتملت القصة هذا وهذا وهذا : لم يجزم بوقوع أحد الاحتمالات إلا بدليل ، وقد تضمنت القصة أمرين مشكلين : [ ص: 197 ] أحدهما : ثبوت النسب بالقرعة .

                    والثاني : إلزام من خرجت له القرعة بثلثي الدية للآخر . فمن صحح الحديث ونفى الحكم والتعليل - كبعض أهل الظاهر - قال به ولم يلتفت إلى معنى ولا علة ولا حكمة ، وقال : ليس هنا إلا التسليم والانقياد . وأما من سلك طريق التعليل والحكمة ، فقد يقول : إنه إذا تعذرت القافة وأشكل الأمر عليها : كان المصير إلى القرعة أولى من ضياع نسب الولد ، وتركه هملا لا نسب له ، وهو ينظر إلى ناكح أمه وواطئها ، فالقرعة هاهنا أقرب الطرق إلى إثبات النسب ، فإنها طريق شرعي ، وقد سدت الطرق سواها ، وإذا كانت صالحة لتعيين الأملاك المطلقة ، وتعيين الرقيق من الحر ، وتعيين الزوجة من الأجنبية ، فكيف لا تصلح لتعيين صاحب النسب من غيره ؟ .

                    والمعلوم أن طرق حفظ الأنساب أوسع من طرق حفظ الأموال ، والشارع إلى ذلك أعظم تشوفا ، فالقرعة شرعت لإخراج المستحق تارة ، ولتعيينه تارة ، هاهنا أحد المتداعيين هو أبوه حقيقة ، فعملت القرعة في تعيينه ، كما عملت في تعيين الزوجة عند اشتباهها بالأجنبية ، فالقرعة تخرج المستحق شرعا ، كما تخرجه قدرا .

                    وقد تقدم في تقرير صحتها واعتبارها ما فيه شفاء ، فلا استبعاد في الإلحاق بها عند تعينها طريقا ، بل خلاف ذلك ، هو المستبعد .

                    الأمر الثاني : إلزام من خرجت له القرعة بثلثي الدية لصاحبه ، ولهذا أيضا وجه ، فإن وطئ كل واحد من الآخرين كان صالحا لحصول الولد له ، ويحتمل أن يكون الولد له في نفس الأمر ، فلما خرجت القرعة لأحدهم : أبطلت ما كان من الواطئين من حصول الولد له ، فقد بذر كل منهم بذرا يرجو به أن يكون الزرع له ، فقد اشتركوا في البذر ، فإذا فاز أحدهم بالزرع : كان من العدل أن يضمن لصاحبيه ثلثي القيمة ، والدية قيمة الولد شرعا ، فلزمه ضمان ثلثيها لصاحبيه ، إذ الثلثان عوض ثلثي الولد الذي استبد به دونهما ، مع اشتراكهما في سبب حصوله . وهذا أصح من كثير من الأحكام التي يثبتونها بآرائهم وأقيستهم ، والمعنى فيه أظهر .

                    وقد اعتبر الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك في ولد المغرور ، حيث حكموا بحريته ، وألزموا الواطئ فداءه بمثله لما فوت رقه على سيد الأمة ، هذا مع أنه لم يوجد من سيدها هنا كوطء يكون منه ولد ، بل الزوج وحده هو الواطئ ، ولكن لما كان الولد تابعا لأمه في الرق : كان بصدد أن يكون رقيقا لسيدها ، فلما فاته ذلك - بانعقاد الولد حرا من أمته - ألزموا الواطئ بأن يغرم له نظيره ، ولم يلزموه بالدية ، لأنه إنما فوت عليه رقيقا ، ولم يفوت عليه حرا ، وفي قصة علي : كان [ ص: 198 ] الذي فوته الواطئ القارع حرا ، فلزمته حصة صاحبيه من الدية ولو كان واحدا لزمه نصف الدية .

                    فهذا أحسن وجوه الحديث ، فإن كان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فالقول الصحيح هو القول بموجبه ، ولا قول سواه ، وبالله التوفيق .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية