الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الباب الرابع

في الشيء الذي تزال به .

- وأما الشيء الذي به تزال ، فإن المسلمين اتفقوا على أن الماء الطاهر المطهر يزيلها من هذه الثلاثة المحال ، واتفقوا أيضا على أن الحجارة تزيلها من المخرجين ، واختلفوا فيما سوى ذلك من المائعات والجامدات التي تزيلها .

فذهب قوم : إلى أن ما كان طاهرا يزيل عين النجاسة مائعا كان أو جامدا في أي موضع كانت ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه .

[ ص: 73 ] وقال قوم : لا تزال النجاسة بما سوى الماء إلا في الاستجمار فقط المتفق عليه ، وبه قال مالك والشافعي ، واختلفوا أيضا في إزالتها في الاستجمار بالعظم والروث ، فمنع ذلك قوم ، وأجازوه بغير ذلك مما ينقي ، واستثنى مالك من ذلك ما هو مطعوم ذو حرمة كالخبز ، وقد قيل ذلك فيما في استعماله سرف كالذهب والياقوت .

وقوم قصروا الإنقاء على الأحجار فقط ، وهو مذهب أهل الظاهر ، وقوم أجازوا الاستنجاء بالعظم دون الروث وإن كان مكروها عندهم ، وشذ الطبري ، فأجاز الاستجمار بكل طاهر ونجس .

وسبب اختلافهم في إزالة النجاسة بما عدا الماء فيما عدا المخرجين هو : هل المقصود بإزالة النجاسة بالماء هو إتلاف عينها فقط فيستوي في ذلك مع الماء كل ما يتلف عينها ؟ أم للماء في ذلك مزيد خصوص ليس بغير الماء ، فمن لم يظهر عنده للماء مزيد خصوص قال بإزالتها بسائر المائعات والجامدات الطاهرة ، وأيد هذا المفهوم بالاتفاق على إزالتها من المخرجين بغير الماء ، وبما ورد من حديث أم سلمة أنها قالت " إني امرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر ، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يطهره ما بعده " وكذلك بالآثار التي خرجها أبو داود في هذا مثل قوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب له طهور " إلى غير ذلك مما روي في هذا المعنى ، ومن رأى أن للماء في ذلك مزيد خصوص منع ذلك إلا في موضع الرخصة فقط ، وهو المخرجان ، ولما طالبت الحنفية الشافعية بذلك الخصوص المزيد الذي للماء لجأوا في ذلك إلى أنها عبادة إذ لم يقدروا أن يعطوا في ذلك سببا معقولا ، حتى أنهم سلموا أن الماء لا يزيل النجاسة بمعنى معقول ، وإنما إزالته بمعنى شرعي حكمي ، وطال الخطب والجدل بينهم : هل إزالة النجاسة بالماء عبادة أو معنى معقول ، خلفا عن سلف ، واضطرت الشافعية إلى أن تثبت أن في الماء قوة شرعية في رفع أحكام النجاسات ليست في غيره ، وإن استوى مع سائر الأشياء في إزالة العين ، وأن المقصود إنما هو إزالة ذلك الحكم الذي اختص به الماء لإذهاب عين النجاسة ، بل قد يذهب العين ويبقى الحكم فباعدوا المقصد ، وقد كانوا اتفقوا قبل مع الحنفيين أن طهارة النجاسة ليست طهارة حكمية ( أعني شرعية ) ولذلك لم تحتج إلى نية ، ولو راموا الانفصال عنهم بأنا نرى أن للماء قوة إحالة للأنجاس والأدناس وقلعها من الثياب والأبدان ليست لغيره ، ولذلك اعتمده الناس في تنظيف الأبدان والثياب - لكان قولا جيدا ، وغيره بعيد ، بل لعله واجب أن يعتقد أن الشرع إنما اعتمد في كل موضع غسل النجاسة بالماء لهذه الخاصية التي في الماء ، ولو كانوا قالوا هذا لكانوا قد قالوا في ذلك قولا هو أدخل في مذهب الفقه الجاري على المعاني وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول " عبادة " إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم ، فتأمل ذلك فإنه بين من أمرهم في أكثر المواضع .

وأما اختلافهم في الروث : فسببه اختلافهم في المفهوم من النهي الوارد في ذلك عنه عليه الصلاة والسلام ( أعني أمره - عليه الصلاة والسلام - أن لا يستنجى بعظم ولا روث ) ، فمن دل عنده النهي على [ ص: 74 ] الفساد لم يجز ذلك ، ومن لم ير ذلك إذ كانت النجاسة معنى معقولا حمل ذلك على الكراهية ولم يعده إلى إبطال الاستنجاء بذلك ، ومن فرق بين العظام والروث فلأن الروث نجس عنده .

التالي السابق


الخدمات العلمية