الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن اشترى شيئا فتبين أنه غبن في ثمنه لم يثبت له الرد ; لما روي { أن حبان بن منقذ كان يخدع في البيع ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إذا بعت فقل : لا خلابة ، ولك الخيار ثلاثا } ولم يثبت له خيار الغبن ; ولأن المبيع سليم ولم يوجد من جهة البائع تدليس ، وإنما فرط المشتري في ترك الاستظهار فلم يجز له الرد ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الحديث قد ذكره المصنف في أول كتاب البيوع ، فيكتفى بما تقدم من كلام النووي عليه ، والأصح أن الذي كان يخدع منقذ والد حبان ، والحديث صحيح في الجملة ، ومعنى لا خلابة : لا غبن ولا خديعة ، وجعلها الشرع لإثبات الخيار إذا قالها ثبت الخيار ، صرح باشتراطه أم لا . وقوله صلى الله عليه وسلم : " ولك الخيار " إعلام منه بثبوت الخيار ( وقوله ) ولم يثبت له خيار الغبن من كلام المصنف ، وليس من الحديث ، ووجه الدلالة منه ظاهر ; لأنه لو كان يثبت الخيار بالغبن لبينه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحتج أن يعد اشتراط خيار الثلاث أو أن يجعل له الخيار ثلاثا ، بقوله " لا خلابة " وقد ورد أن حبان كان إذا اشترى فرجع إلى أهله فيقولون له : اردده فإنك قد غبنت أو غششت ، فيرجع إلى بيعه ، فيقول : خذ سلعتك ورد دراهمي ، فيقول : لا أفعل قد رضيت فذهبت به ، حتى يمر الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعله بالخيار فيما يبتاع ثلاثا ، فترد عليه دراهمه ويأخذ سلعته . فلو كان الخيار ثابتا بالغبن لكل أحد لم يكن الخيار خصوصية [ ص: 571 ] بذلك . فظاهر قضية حبان أنه كان بالخيار ثلاثا ، سواء غبن أو لم يغبن ، وهل ذلك خاص به لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله بالخيار ؟ أو هو ثابت بالشرط كما هو في حق غيره ؟ مساق هذه القصة التي حكيتها يشعر بالأول ، فإنه لو عرف البائع شرط الخيار لم يخالفه وإلى ذلك ذهب بعضهم . وقيل : إن ذلك بالشرط وهو عام له ولغيره ، وكيفما كان فالدلالة منه ظاهرة في عدم ثبوت الخيار بالغبن ، وما ذكره المصنف من المعنى ظاهر أيضا ، فإن المبيع لا عيب فيه ، ولا تدليس ; لأن الفرض كذلك فانتفى موجب الخيار . وقال أصحابنا : لا يثبت الخيار بالغبن سواء أتفاحش أم لا . وإن اشترى زجاجة بثمن كثير وهو يتوهمها جوهرة ، فلا خيار له ولا نظر إلى ما يلحقه من الغبن ; لأن التقصير منه ، حيث لم يراجع أهل الخبرة . ونقل المتولي وجها شاذا أنه كشراء الغائب ، ويجعل الرؤية التي لا تفيد المعرفة ولا تنفي الغرر كالمعدومة . قال أصحابنا : وثبوت الخيار في المعيب للنقص لا للغبن ، ولهذا لو كان مع العيب يساوي أضعاف ثمنه ثبت له الرد ، ولو تعيب في يد البائع ثبت الخيار . ولو نقصت قيمته بانخفاض الأسواق فلا . ويخالف تلقي الركبان ; لأن هناك وجها منه تغرير بالإخبار عن السعر على خلاف ما هو . ولا طريق إلى الاستكشاف . ويخالف الغبن في مسألة المرابحة ; لأن هناك علق العقد الثاني بالأول ، والمخالف لنا في هذه المسألة مالك وأحمد وأبو ثور ، أما مالك فقال : إن غبن بأقل من الثلث فلا خيار له ، وإن كان بالثلث أو أكثر فله الخيار . هكذا نقل أصحابنا عنه ، وهو قول بعض أصحابه . قال القاضي عبد الوهاب : ولم يجد مالك في ذلك حدا ، ومذهبه إذا خرج من تغابن الناس في قبيل تلك السلعة ، ثم أصحابنا نقلوا هذا مطلقا ، وشرطه عند المالكية أن يكونا أو أحدهما غير عارف بتقلب السعر وتغيره في عقده ، فإن كانا جميعا من أهل البصر بتلك السلعة وأسعارها في وقت البيع فلا خيار ، سواء أكان الغبن قليلا أو كثيرا . قاله القاضي عبد الوهاب . [ ص: 572 ] وأما أحمد فقال : إن كان المشتري مسترسلا غير عارف بالبيع ، وإذا عرف لا يعرف ثبت له الخيار بالغبن ، وإن كان من أهل المعرفة لو تأمل فيه لعرف أن قيمته لا تبلغ ذلك المبلغ فلا خيار له . وأما أبو ثور فأطلق عنه النقل بإثبات الخيار وأنه إن فاتت السلعة رجع المغبون بقدر الغبن ، ونقل ابن المنذر عنه أن البيع - فيه غبن لا يتغابن الناس بمثله - فاسد ، وهذا النقل عنه أثبت عندنا من الأول . ونقل أصحابنا عن المالكية أنهم احتجوا بحديث { لا تلقوا الركبان } " وكونه أثبت الخيار بالغبن ، وبحديث { لا ضرر ولا ضرار } " ، وبالقياس على الغبن بالبيع ، وأجاب الأصحاب عن الأول بأن الخيار ثبت للتغرير ، فإن المشتري غره . وعن الثاني بأنا نقول بموجبه ، وعن الثالث بأن خيار العيب لم يكن للغبن ، بل لاقتضاء البيع السلامة ، وبأن العيب يستوي فيه الموجود عند العقد والحادث قبل القبض وههنا لا خيار إذا حدث نقصان القيمة قبل القبض اتفاقا بأن العيب لا فرق فيه بين الثلث أو أقل أو أكثر ، وهم لا يقولون به هنا ، وقد قال أصحابنا : يكره غبن المسترسل ، وإطلاق الكراهة في ذلك محمول على ما إذا لم يستنصحه المسترسل ، أما إذا أستنصحه فيجب نصحه ، ويصير غبنه إذ ذاك خديعة محرمة ، هكذا أعتقده من غير نقل . والمنقول عن مذهبنا ومذهب أبي حنيفة من القول بلزوم العقد لعله لا ينافي التحريم ، أو محمول على ما إذا لم يستنصحه كما تقدم ، قال ابن المنذر : وقال بعضهم : كل بيع باعه رجل من مسترسل واختدعه فيه ، أو كذبه فالمشتري في ذلك بالخيار إذا بين له ذلك .



                                      ( فرع ) فيما نتوهم أنه عيب ، وليس بعيب لا رد فيه ، فكون الرقيق رطن الكلام أو غليظ الصوت أو يسيء الأدب أو ولد زنا ، خلافا لأبي ثور ، وسواء أكان مجلوبا أو مولدا خلافا لأبي حنيفة ، ولا بكونه يقتل النفس أو بطيء الحركة أو فاسد الرأي أم حجاما أو أكولا أو قليل الأكل بخلاف الدابة في قلة الأكل بحيث ترد وعن القاضي حسين إلا أن تكون قلة أكل العبد لعلة . ولا يحتاج إلى ذلك ; لأن تلك العلة كافية في الرد ولا بكون الأمة عقيما وكون العبد عنينا ، وعن الصيمري إثبات [ ص: 573 ] الرد بالتعنين وهو الأصح عند الإمام . ولا يكون الرقيق ممن يعتق على المشتري ولا تكون الأمة أخته أو غيرها ممن يحرم عليه من الرضاعة أو النسب كما قاله القاضي حسين والماوردي والبغوي وغيرهم أو المصاهرة كابنة امرأته أو موطوءة أبيه أو ابنه . بخلاف المحرمة والمعتدة ; لأن التحريم هناك عام فتقل الرغبة . وهنا خاص به ، وفي وجه رواه ابن كج يلحق ما نحن فيه بالمحرمة والمعتدة . حكاه الروياني في موطوءة الأب وضعفه . وقد تقدم عن الصيمري إثبات الخيار فيما إذا بان أن العبد أخو المشتري أو عمه ، وقياسه بغير شك أن يقول هنا فيما إذا بانت أخته من النسب بالخيار ، وهو موافق في الرضاع على عدم الخيار ، وكذلك في المصاهرة . ولا أثر لكونها صائمة على الصحيح . وفيه وجه ( قال ) الرافعي : ضعيف . وقال النووي باطل . ولو وجد العبد فاسقا قال الروياني : لا خيار بالإجماع . قال ذلك عند الكلام مع الحنفية في الكفر ، وينبغي أن يقيد ذلك ، فإن من أسباب الفسق ما يرد به ، وقد تقدم كثير منه . قال ابن الرفعة : إنه إذا كان العبد مرتدا حال العقد وقد تاب قبل العلم لا يرد به على المذهب ، يعني في ارتفاع العيب قبل العلم به - وفيه نظر - لأن ذلك قد ينفر عنه لتوهم سوء سريرته . والأولى ما قاله في الحاوي في كتاب الرهن أن ذلك عيب في الحال . قال ابن الرفعة بعد حكاية ذلك : وأما إذا قلنا : إنه ليس بعيب فهل له الرد به ؟ فيه وجهان . وهذا كلام عجيب . كيف يكون له الرد بما ليس بعيب ، ولو اشترى شيئا فبان أن بائعه باعه بوكالة أو وصاية أو ولاية أو أمانة حاكم ، فهل له الرد لخطر فساد النيابة ؟ فيه وجهان حكاهما الماوردي قال النووي : ( الأصح ) لا رد . ولو اشترى شقصا من عقار على ظنه أن الباقي للبائع فبان أنه لغيره وأن له الشفعة فلا خيار له لعدم الضرر على تقدير الأخذ أو الترك . قال المتولي : ولو كان الرقيق أصلع . قال القاضي حسين : فلا رد بخلاف الأقرع ، وفيه نظر ، وقد تقدم بأنه لا رد بكون الرقيق [ ص: 574 ] في ذمته مال وكذلك قاله الماوردي قال : وقال العراقيون : له الرد ، وليس بصحيح وأراد بالعراقيين أبا حنيفة وأصحابه . فنبهت على ذلك لئلا يتوهم من لا معرفة له أنهم العراقيون من أصحابنا . ولو اشترى فلوسا فكسرت قبل القبض ، ومنع السلطان المعاملة بها لم ينفسخ العقد ، خلافا لأبي حنيفة قاله في العدة ونقله العمراني عنه . فهذه جملة مما يرد به وما لا يرد ، ولم أذكر منها شيئا إلا منقولا ، ولا سبيل إلى حصولها ، وفي الضابط المتقدم كفاية .




                                      الخدمات العلمية