الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن حدث عند الثاني عيب فرجع على الأول بالأرش رجع هو على بائعه ; لأنه أيس من الرد ولم يستدرك الظلامة )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) جماعة من الأصحاب أطلقوا هكذا كما أطلقه المصنف أنه إذا رجع المشتري الثاني على الأول بالأرش رجع الأول على بائعه ; لأنه أيس من الرد ، أي بحدوث العيب ، وبأنه لم يستدرك الظلامة لأخذ الأرش منه ، وممن جزم بذلك كما جزم المصنف الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والمحاملي وقال : إن ذلك على التعليلين معا ، وأما الرافعي رحمه الله فإنه قال على القول المشهور المخالف لتخريج ابن سريج : إنه إذا حدث عيب في يد المشتري الثاني ثم ظهر عيب قديم ينظر إن قبله المشتري الأول مع العيب الحادث خير بائعه فإن قبله فذاك ، وإلا أخذ الأرش منه . وعن أبي الحسين - وهو ابن القطان - أنه لا يأخذه ، واسترداده رضا بالعيب . [ ص: 532 ] وإن لم يقبله وغرم الأرش للثاني ففي رجوعه بالأرش على بائعه وجهان ( أحدهما ) لا يرجع به ، قال ابن الحداد : وهو الذي قاله الفوراني قال والماوردي ، لأنه لو قبله وما قبله منه بائعه فكان متبرعا بغرامة الأرش ( وأظهرهما ) يرجع ; لأنه ربما لا يقبله بائعه فيتضرر قال الشيخ أبو علي : ويمكن بناء الوجهين على ما سبق من المعنيين إن عللنا بعلة أبي إسحاق وإذا غرم الأرش زال استدراك الظلامة فيرجع ، وإن عللنا بعلة الأكثرين وابن أبي هريرة فلا يرجع ، لأنه ربما يرتفع العيب الحادث فيعود إليه . قال الشيخ أبو علي : وعلى الوجهين لا يرجع ما لم يغرم الثاني ، فإنه ربما لا يطالبه بشيء فيبقى مستدركا للظلامة ، وهذا ما ذكر الرافعي رحمه الله ، وأصل الترتيب في تعليقة القاضي حسين والتهذيب ، وقطع القاضي بموافقة ابن الحداد في عدم الرجوع ، والبقية من زيادات الرافعي ، وأورد ابن الرفعة على بناء الشيخ أبي علي أنه لو كان كذلك لقال ابن الحداد بالثاني وهو قد قال بالأول فامتنع التخريج . قال الرافعي : إنه على قول ابن سريج الذي خرجه للمشتري الأول أخذ الأرش من بائعه ، كما لو لم يكن يحدث عيب ، ولا يخفى الحكم بينه وبين المشتري الثاني . انتهى .

                                      ( وأقول ) بعون الله تعالى : ما ذكره الرافعي والبغوي من الترتيب مبني على ما تقدم عنهما في أن الواجب عند حدوث العيب عرض الرأي على البائع ، فإن قبله وإلا انتقل إلى الأرش فالحق لا يثبت للمشتري في الأرش حتى يمتنع البائع من قبوله ، فلا جرم سلك هذا الترتيب هنا وحسن جريان الخلاف إذا لم يقبله وقول ابن الحداد بعدم الرجوع ، وتعليله بأنه متبرع بغرامة الأرش ، ولا ينافي هذا قوله بأن العلة عدم استدراك الظلامة ; لأنه إذا جعله بغرامة الأرش متبرعا كما صرح به الرافعي عنه ، فاستدراك الظلامة باق لا يرتفع بتبرعه . وأما القول بالرجوع المقابل لقول ابن الحداد في جعله متبرعا وإن [ ص: 533 ] وافقه في أصل العلة ، وأما على القول بأن العلة في الرجوع اليأس - فإن كان المراد اليأس من الرد على سبيل الإلزام - فإن اليأس هنا غير موجود ; لما قاله الشيخ أبو علي من إمكان ارتفاع الحادث ، وعوده إليه ، فيمكن من رده بالإلزام حينئذ وربما يعود إليه مع العيب الحادث ورضا البائع بقبوله ، فيتمكن المشتري من الرد على سبيل المراضاة ، وهو الذي وجب له ابتداء على رأي الرافعي ، فإمكان إلزام الرد موجود إن كان هذا الإمكان معتبرا لاحتمال ارتفاع الحادث وعوده ، وإمكان الرد بالتراضي موجود باحتمال عوده ، فلم جعل الرافعي هنا الأصح أنه يرجع بالأرش ؟ وسكت عن قول الشيخ أبي علي ، ثم قوله عن الشيخ أبي علي : أنه على الوجهين لا يرجع ما لم يغرم للثاني هذا إنما يظهر على التعليل باستدراك الظلامة .

                                      أما إذا عللنا باليأس فليس لقرابته للثاني أثر ، فإن إمكان الرد بالتراضي لا ينقطع بها ، وإمكان الرد بالإلزام مع العيب الحادث ليس ممكنا قبلها ، وعلى تقدير ارتفاع العيب الحادث يمكن قبلها وبعدها فلا معنى لتقييد ذلك على اعتبار اليأس بالقرابة بل ينبغي إن كان له الرجوع رجع مطلقا ، وإن لم يكن له الرجوع لم يرجع مطلقا ، وقد صحح أنه له الرجوع فليرجع ، وإن لم يغرم على اعتبار اليأس . وكلام الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب في تعليقهما يقتضي بإطلاقه أنه إذا حصل به نقص عند الثاني فللأول الرجوع بالأرش على اعتبار اليأس وهذا مما يدل على أن الوجهين المذكورين عن ابن الحداد وغيره مفرعان على قولنا : إن العلة استدراك الظلامة ، وعلى ذلك يصح قول الشيخ أبي علي : إنه على الوجهين لا يرجع ما لم يغرم ، أي على هذين الوجهين المفرعين على الوجه الضعيف ، لكن الذي ذكره أولا من البناء مشكل . وظاهر كلام الشيخ أبي علي أن الصحيح عنده امتناع الرجوع إن كان يوافق الأكثرين على التعليل باليأس ، وهو مخالف لما قاله المصنف وغيره من العراقيين والذي قالوه هو الصحيح بناء على ما قدمته عن الأصحاب أن الواجب عند حدوث العيب هو الأرش ابتداء ، فإنه يقتضي وجوب الأرش هنا مطلقا غرم أو لم يغرم ، وأما على ما تقدم [ ص: 534 ] عن الرافعي وصاحب التهذيب أن الواجب الرد إلا أن يمتنع البائع فينتقل إلى الأرش فيظهر أنه لا يرجع مطلقا ، غرم أو لم يغرم حتى يحصل اليأس . واعلم أن تعليل المصنف والأصحاب الذين ذكرتهم موافقين له في هذه المسألة باليأس يبين لنا أن المراد اليأس عن الرد على سبيل الإلزام ، وأن توقع زوال العيب الحادث غير معتبر .

                                      ( فرع ) هذا الذي ذكرناه كله ما دام المبيع باقيا ، أما لو تلف بعد حدوث العيب أو دونه فأخذ الثاني الأرش من الأول رجع الأول على بائعه بلا خلاف




                                      الخدمات العلمية