الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن قلنا : يلزمه الأرش قوم معيبا صحيحا ومعيبا مكسورا ، ثم يرجع عليه بما بين القيمتين ; لأنه لما رد انفسخ العقد فيه فصار كالمقبوض بالسوم ، والمقبوض بالسوم مضمون بالقيمة ، فضمن نقصانه بما نقص من القيمة ، ويخالف الأرش مع بقاء العقد لأن المبيع مع بقاء العقد مضمون بالثمن ، فضمن نقصانه جزءا من الثمن ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا قلنا يلزم المشتري الأرش عند رد المكسور كما هو ظاهر نص المختصر على خلاف الذي رجحوه ، فالأرش ههنا هل هو كالأرش المأخوذ من البائع عند بقاء العقد ؟ وقد تقدم أنه جزء من الثمن نسبته إليه نسبة ما نقص العيب من قيمة السليم إلى تمامها أو الأرش هنا مخالف لذلك الذي قاله المصنف هنا أنه مخالف ، وأن الأرش ههنا لا ينسب من الثمن ، بل هو ما نقص من قيمة السليم كما ذكره في الكتاب ، ووافقه على ذلك أكثر الأصحاب المتقدمين والمتأخرين ، ومنهم الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وصاحب التتمة وصاحب التهذيب والرافعي وخلائق لا يحصون ، والظاهر أن ذلك لا اختصاص له بهذه المسألة ، بل بحيث أمرنا المشتري برد الأرش على البائع بعد الفسخ في العيوب الحادثة ، ولذلك قال الروياني فيما إذا تقايلا ثم وجد البائع بالمبيع عيبا حدث عند المشتري . وقلنا بأن الإقالة لا تنفسخ ، وهو الأصح عند الروياني إنه يرجع البائع على المشتري بالأرش قال : والأقرب أنه يلزمه نقصان القيمة لأن البيع مرتفع بينهما . وهذا الذي قاله المصنف والأصحاب يطرقه أمران : ( أحدهما ) من جهة البحث ( والثاني ) من جهة النقل . أما الذي من جهة البحث فقال [ ص: 510 ] مجلي في الذخائر : فيه احتمال ; لأن الفسخ يرفع العقد بعد القبض من حينه ، فقد وجد العيب في يده ، وهو مضمون عليه بالثمن ، فينبغي أن يكون فوات ذلك الجزء مضمونا بجزء من الثمن . وأما الذي من جهة النقل فقال المصنف في باب اختلاف المتبايعين : إن المشتري إذا قطع يد العبد في يد البائع لم يجز له الفسخ ، فإن اندمل ثم تلف في يد البائع رجع البائع على المشتري بأرش النقص ، فيقوم مع اليد ويقوم بلا يد ثم يرجع بما نقص من الثمن ، ولا يرجع بما نقص من القيمة ، فلذلك قال القاضي أبو الطيب في شرح الفروع : إن المشتري إذا وطئ الجارية المبيعة البكر في يد البائع ، ثم تلفت قبل القبض أنه يجب أرش البكارة منسوبا من الثمن ، وطرد ذلك فيما إذا قطع يد العبد ثم مات بآفة سماوية قبل القبض أنه يستقر نصف الثمن وقال : إذا قطع المشتري يد العبد أنه يستقر العقد بجملة الثمن ، حتى إذا تلف العبد بعد ذلك لا يرجع المشتري على البائع بشيء .

                                      وفي الحاوي حكاية خلاف في صورة قطع اليد ، في أن البائع يرجع على المشتري عند تلف العبد بالأرش المقدر كالأجنبي ، أو بما نقص من القيمة لأن الجناية كانت في ملكه بخلاف الأجنبي . وفي التهذيب هل يستقر على المشتري من الثمن نسبة ما انتقص من القيمة ؟ وهو المذهب في تعليق القاضي حسين . والمجزوم به في شرح الفروع للقفال . وقد قدمت ذلك عن القاضي حسين والقفال في وطء البكر . فهذه النقول كلها إلا ما في الحاوي تدل على أن الأرش المأخوذ من المشتري مقدر من الثمن كالأرش المأخوذ من البائع . وذلك يؤيد ما قاله مجلي . والجواب : أما ما ذكر من النقل فإن ابن أبي الدم فرق بين مسألتنا هذه . وبين المسألة التي ذكرها المصنف في اختلاف المتبايعين من وجهين : ( أحدهما ) أن المشتري لما رد المبيع بالعيب فقد فسخ العقد باختياره ، فارتفع العقد قولا واحدا وصار كأن العقد لم يوجد ، ولا كأنه التزم ثمنه ; لأن العقد إنما انعقد بينهما على ظن المشتري السلامة التي يقتضيها مطلق العقد ، فإذا بان كونه معيبا صار كأنه أتلفه ، ولم يجر عليه عقد ، فكان الثمن في هذا بعيدا عن العقد ، [ ص: 511 ] فلم ينسب القيمة إليه ، وهذا معنى قول الشيخ : فصار كالمقبوض على وجه السوم ، بخلاف مسألة العبد ، فإن المشتري هو المفرط بقطع يد العبد وتعييبه ، ولم ينسب البائع فيه إلى تقصير في عيب أصلا ، فكأن المشتري رضي بالعقد ، ورضي بالتزام الثمن فيه فيقترب الثمن من العقد ، فاعتبرت القيمة منسوبة إلى الثمن .

                                      ( الفرق الثاني ) أن نسبة يدي العبد كنسبة نفسه على مذهب الشافعي في أن جراح العبد من قيمته ، كجراح الحر من ديته ، فيده كنصف نفسه ، فلو قتل المشتري العبد كان قابضا له قولا واحدا ، فإذا قطع يده فكأنه قبض نصف العبد تقديرا ، فإذا مات بعد الاندمال بيد البائع اعتبرت القيمة منسوبة إلى الثمن لقرب العقد من الاستقرار ، وما ذكره القاضي أبو الطيب يقوي ما ذكرناه في الفرق بين المسألتين ، ويفهم منه اختلاف ما بينهما ، وقول الماوردي في الوجه الأول : إنه يضمنه بالأرش المقرر كالأجنبي ، معناه أنه يضمنه بنصف قيمته تقديرا . ( وقوله ) في الوجه الثاني : إنه يضمنه بما نقص ، معناه أنه يلحق بغير العبد كالبطيخ وغيره ، وكأن الوجه الأول مبني على مذهب الشافعي في جراح العبد ( والثاني ) مبني على مذهب ابن سريج أنها غير مقدرة . بل الواجب فيها ما نقص من قيمتها كالواجب في غير العبيد ، وذكر الإمام في الغصب خلافا في أن المشتري إذا قطع يدي العبد هل يكون قابضا له ؟ ويسقط ضمان العقد في الباقي واستضعف القول بالسقوط ، هذا جواب ابن أبي الدم رحمه الله ، وما لحظه في الفرق الأول من التفريط وعدمه غير متضح ، وما ذكره في الفرق الثاني من قرب الاستقرار أبعد ; لأن المسألة هنا بعد القبض المحقق وقد استقر العقد وكان ينبغي أن ينسب من الثمن .

                                      وقد مال ابن الرفعة إلى ما قاله مجلي وأيده باتفاق الأصحاب ، على أن غريم المفلس إذا رجع في العين وقد نقصت في يد المفلس بفعل مضمون يضرب مع الغرماء بقدر أرش النقص من الثمن ، واعتذر عما ذكره الأصحاب على اختلافهم احتمال مجلي بتخصيص ما ذكروه بحالة فوات وصف مجرد من المبيع ، ليس بجزء وما ذكر من المسائل المنقولة [ ص: 512 ] مما ذكره المصنف في باب اختلاف المتبايعين وغيره في بعض الأجزاء ، وهي أقرب إلى المقابلة من الصفات المجردة . فلذلك جعل مستوفيا لها ، وحسب بدلها عليه من الثمن بخلاف الصفات ، فإن العبد إذا زنى أو سرق أو أبق لا يمكن أن يجعل المشتري بذلك مستوفيا لصفة السلامة منه ، حتى يستقر عليه من الثمن بنسبة ما نقص من قيمته ، قال : وهذا من دقيق الفقه فليتأمل . ( قلت ) وهو حسن إن سلم لكن يخدشه أمران : ( أحدهما ) تعليل المصنف والأصحاب بأنه لما رد انفسخ العقد فيه ، وصار كالمقبوض بالسوم ، والمقبوض بالسوم مضمون بالقيمة ، وذلك لا فرق فيه بين الأجزاء والأوصاف ، وكما أنا في الأرش المأخوذ من البائع لا نفرق فيه بين الأجزاء والأوصاف ، فكذلك هنا ومن يزعم أن الأرش جزء من الثمن ويأخذه عن الزنا والإباق ونحوه من الأوصاف من البائع منسوبا من الثمن ، وإن كانت ليست بمقابلته إلا على وجه التقدير إن صح ، فكيف لا ينزلها في جانب المشتري كذلك ؟ وأيضا فإنهم أطلقوا هنا وقد يكون الذاهب جزءا .

                                      ( والثاني ) أن الغزالي رحمه الله في مسألة الحلي بعد أن حكى قول ابن سريج والأصحاب قال فتحصلنا على احتمالين في حقيقة كل واحد من الأرشين أنه غرم ابتداء وفي مقابلة المعقود عليه ، والمشهور ما أشار إليه ابن سريج فيهما جميعا ، يعني أنه جزء من الثمن ، والفائت في مسألة الحلي بالكسر وصف لا جزء ، فكلام الغزالي هذا وإن استشكلنا به قول ابن الرفعة فإنه يشكل أيضا على ما قاله المصنف والأصحاب هنا من أن الأرش من المشتري لا يثبت من الثمن ، بل من القيمة وذلك يخالف قول الغزالي : إنه جزء من الثمن كالمأخوذ من البائع على أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما ، وقال : إنه المشهور . ولا شك أن المشهور الذي قال به معظم الأصحاب في الأرش القديم ، فلم لا كان كذلك في الأرش الحادث ؟ اللهم إلا أن يقال : لا يلزم من كونه جزءا من الثمن أن يكون منسوبا منه وهو بعيد ; لأنه متى لم ينسب منه لا يكون جزءا منه ، فكلام الغزالي في الأرش [ ص: 513 ] الحادث مخالف لما قاله المصنف والأصحاب هنا ، ثم إن للغزالي أن يقول للأصحاب : أنتم منعتم رد الحلي مع أرش الكسر الحادث حذرا من الربا ، وقلتم : إما أن يرده وحده ويسترجع الثمن ، ثم يغرم أرش الحادث كالمستام ، كما تقدم عن أكثر الأصحاب ، وإما أن يغرم قيمته كما قال ابن سريج ، وإما أن يأخذ أرش القديم كما قال صاحب التقريب ، ومنعوه أن يضم أرش الحادث إليه في الرد ، كما يفعل في غيره ، فإن كان الأرش حيث أخذ من المشتري لا يكون جزءا من الثمن فلا تخصيص لمسألة الحلي ، بل صارت هي وغيرها الأرش الذي يرده المشتري كالأرش الذي يغرمه المستام ، ولا يبقى محذور من جهة الربا فيه .

                                      وإن كان الأرش جزءا من الثمن كما اقتضاه كلامهم في مسألة الحلي ، وفروا إلى أن جعلوه كالمستام لضرورة فرارا من الربا ، فدل على أنه في غير ذلك الموضع يكون بخلافه ولا يخرج عن كونه منسوبا من الثمن ، وقد تقدم في مسألة الحلي وغيرها أن الإمام نبه على الأرش عن الحادث ، كيف يضم إلى المبيع المعيب ؟ ويرد الرد عليهما جميعا ، واستشكال ذلك والخلاص عنه بما سبق فإن صح ما يقوله المصنف والأصحاب هنا من أن أرش الحادث لا ينسب من الثمن خرجت مسألة الحلي في رد الأرش الحادث معها عن الإشكال ، وبين ما قدمناه من الاحتمالات في رد الأرش عن الحادث وأن سبيله سبيل الغرامات لا غير . لكن يبقى عليه ما ذكره مجلي من الإشكال . وعند هذا أقول : إن كلام المصنف والأصحاب هنا لم يريدوا به كل العيوب الحاصلة في يد المشتري كالزنا والسرقة والإباق . فإذا فرض حصولها في يد المشتري منعت الرد . فإذا اتفقا على الرد مع أرشها كان على حسب ما يتفقان عليه وفي تقدير ذلك بحث قدمته عند حدوث العيب وذكرت فيه أربعة احتمالات . ومراد المصنف هنا والأصحاب بما يحصل بفعل المشتري ككسر البطيخ ونحوه مما هو يتكلم فيه ، فإن ذلك مضمون على المستام بما نقص من القيمة ، وكذلك كسر الحلي ، فلذلك يضمنه . وسائر صور [ ص: 514 ] حدوث العيب غير مسألتنا هذه ، ومسألة الحلي الأمر فيها سهل إذا كانت على حسب التراضي فإن المتبايعين على ما شاءا من قليل وكثير .

                                      أما إذا قلنا : المجاب البائع أو المشتري ، ودعي إلى الرد مع الأرش ، فيحتاج إليه . وكذلك في هذه المسألة إذا كان الأمر على ما تقدم عن الرافعي ، أما على ما يظهر من عبارة المصنف وأكثر الأصحاب من أنا إذا قلنا بالرد ورد الأرش كان ذلك إلى المشتري ، وله إلزام البائع به ، وفسخ العقد . فيحتاج إلى البيان فيه . ولا جرم لم يذكر المصنف وكثير من الأصحاب الكلام في ذلك إلا في هذه المسألة وكأنهم رأوا أن المشتري يلزم البائع بالرد ، ثم يبقى الأرش لازما له فاحتاجوا إلى بيانه . ومسألة الحلي أولى بالبيان ; لأن الأمر فيها على بيان الإلزام فإذا تقرر فحيث قلنا بالإلزام . وكلام المصنف هنا والأصحاب ، بل الشافعي في المختصر يقتضي أن ذلك منسوب إلى القيمة . وجزم الأصحاب غير مجلي بأنه ليس منسوبا من الثمن وهو مشكل بما قاله مجلي . وأما كونه يرجع في الفلس بجزء من الثمن فيظهر الفرق بينه وبين ما نحن فيه بأن المقصود في الفلس وصول البائع إلى الثمن فعند التعذر جوز له الرجوع إلى عين ماله . فإذا فات منها جزء نسبناه من الثمن ; لأنه الأصل المقصود هناك لا مقصود غيره ، فالمفلس مأخوذ منه بغير اختياره والمشتري هناك مراد اختياره ومقصوده نقص البيع الذي دلس عليه البائع فيه .

                                      ( فرع ) قال ابن الرفعة : على كل حال فأي وقت نعتبر القيمة فيه ؟ فيه وجهان ( أصلهما ) ما إذا تعيب العين في يد المستام ( أحدهما ) وقت حدوث العيب ( والثاني ) أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين حدوث العيب . وكذا فيما قد يظن أنه يقتضي أن العقد إذا فسخ لا يرتفع من حينه لكنه على الأول يرتفع من حين حدوث العيب . وعلى الثاني يرتفع من حين القبض . وليس كذلك ، بل هو مرتفع من حينه ، [ ص: 515 ] ومن ارتفاعه من حينه لا يمكن أن يقال بتقدير جزء من الثمن ، فيتعين الرجوع إلى القيمة وأقرب وقت تعتبر فيه عند الأول وقت حدوث العيب ، لأن الواجب أرشه فلذلك اعتبره ، والقائل الآخر يقول : قد انكشف الحال عن ضمان المعيب بالقيمة على المشتري ، وقد ثبتت يده على الفائت من حين القبض إلى حين التلف فضمن أكثر القيمة في ذلك . قال : وعلى الجملة ففي التسوية بين المستام والمشتري في هذا المقام نظر ظاهر مع لحاظ أن العقد لا يرتفع من أصله ، فهذان الوجهان يقربان من الوجهين فيما إذا فسخ العقد بالتخالف ، وقد نقص المبيع في يد المشتري مع لحاظ أن العقد يرتفع من أصله ، والأصح منهما عند الغزالي اعتبار وقت التلف ، وليس الوجهان مثل الوجهين ; لأن الفائت في التخالف جزء مقابل بالثمن كما هو مفروض هناك ، وهنا قد تقرر أن الفائت صفة ، ولكنهما قريبان منهما . ( قلت ) وقد قال صاحب التتمة : إذا تحالفا والسلعة هالكة . وقلنا : العقد يرتفع من أصله ، صار كالمستام ( وإن قلنا ) من حينه ، غرم أقل قيمتي يوم العقد والقبض ، والأصحاب أطلقوا أنه يغرم قيمة يوم التلف ، وما قاله ابن الرفعة يشهد لما قاله مجلي أن الأرش المأخوذ من المشتري ينبغي بناؤه على ذلك .




                                      الخدمات العلمية