الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن وجد العيب وقد نقص المبيع بمعنى يقف استعلام العيب على جنسه بأن كان جوزا أو بيضا أو غير ذلك مما لا يوقف على عيبه إلا بكسره - فينظر فيه فإن كسره فوجده لا قيمة للباقي كالبيض المذر والرمان العفن - فالبيع باطل لأن ما لا قيمة له لا يصح بيعه فيجب رد الثمن ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) تقدم الكلام في النقص الذي لا يقف استعلام العيب على جنسه والكلام الآن فيما يقف ، وإنما قال على جنسه ولم يقل عليه ليشمل ما إذا كسر منه قدرا لا يوقف على العيب بما دونه وما إذا كسر منه قدرا يمكنه الوقوف على العيب بأقل منه ، وكلا القسمين سيأتيان في كلامه إن شاء الله تعالى ، إذا عرفت ذلك فنقول : ما لا يوقف على عيبه إلا بكسره مما مأكوله في جوفه أو غيره ، كالبطيخ والرانج والرمان واللوز والجوز والبندق والبيض ، فكسره فوجده فاسدا لا قيمة له كالبيض المذر الذي لا يصلح لشيء ، والبطيخ الشديد التغير والرمان العفن والجوز والرانج والقثاء المدود ، فقد نص الشافعي رحمه الله والأصحاب أنه يرجع بجميع الثمن . [ ص: 500 ] قال المزني : سمعت الشافعي يقول : كل ما اشتريت مما يكون مأكوله في جوفه فكسرته فأصبته فاسدا فلك رده ، وما بين قيمته فاسدا صحيحا وقيمته فاسدا مكسورا ، قال : وقال في موضع آخر : فيها قولان . ( أحدهما ) ليس له الرد إلا إن شاء البائع ، وللمشتري ما بين قيمته صحيحا وفاسدا إلا أن يكون له فاسدا قيمة ، فيرجع بجميع الثمن إذا لم يكن لفاسده قيمة والقولان هكذا ذكرهما الشافعي في الأم في الجزء الثامن في باب ما اشتري مما يكون مأكوله داخله ، وما ذكره الشافعي رضي الله عنه من الرجوع بجميع الثمن إذا لم يكن لفاسده قيمة قطع بها الأصحاب كافة لكن اختلفوا في طريقه فالجمهور من الأصحاب العراقيين ومعظم الخراسانيين ، على أنه تبين فساد البيع كما ذكر المصنف لوروده على غير متقوم . وعن القفال وطائفة أنه لا يتبين الفساد لكنه على سبيل استدراك الظلامة ، كما يرجع بجزء من الثمن عند نقص جزء من المبيع يرجع بكله عند فوات كل المبيع .

                                      وتظهر ثمرة الخلاف في أن القشور الباقية بمن تختص ؟ حتى يكون عليه تطهير الموضع عنها ، وكلام الشافعي محتمل لكل من الوجهين ، لكن القواعد تقتضي حمله على ما قاله الأصحاب ، ونقل القاضي حسين عن الشيخ وهو القفال أنه قيل له في الدرس : إذا كان لا قيمة لفاسده غير مكسور وجب الحكم بفساد العقد كسائر ما لا يتقوم ، فقال : هو وإن كان كذلك فلا ينفك عن أدنى قيمة ، وإن قلت لبقاء بعض المنافع فإنها تقتضى لتنقش فيلعب بها الصبيان ، وخالف القاضي في ذلك ; لأن القصد من شراء البيض الطعم ، وأحد لا يشتري البيض لينقش وتلعب به الصبيان ، والإمام حكى قول القفال عن طائفة وأفسده لكن بغير الطريق الذي أفسده بها القاضي ، فإن مقتضى كلام القاضي أن هذه المنفعة لقلتها لا تعتبر ، وليست مسوغة لإيراد العقد عليه كسائر المنافع التافهة ، والإمام فرض الكلام حيث لا قيمة مع الصحة ، ومفهومه أنه إذا كانت له قيمة ، وإن قلت نحكم بالصحة ، لكنه في آخر كلامه يقول : لا وجه إلا القطع بالفساد . [ ص: 501 ] وقال الغزالي : إنه إذا لم يبق له بعد الكسر قيمة ، قال الشافعي يسترد الثمن جميعه ، فقال الأصحاب : معناه أنه يسترد أرش النقصان ، لكن أرش كمال الثمن إذا لم يبق له قيمة ( والوجه ) أن يقال : تبين بطلان العقد ، فإن فرض له قيمة قبل الكسر قيمة للنقش ولعب الصبيان ، فقد بطلت المالية الآن . ( فإن قلنا ) طريق الاطلاع من عهد البائع حتى لا يجب به أرش فههنا يتقدم أن يسترد تمام الثمن ويجعل كأنه لم يشتر إلا ما بقي بعد الاطلاع وإن جعل ذلك من ضمان المشتري فلا يتقدم معه أن يسترد تمام الثمن .

                                      هذا كلام الغزالي وما نقله عن الأصحاب هو قول القفال ، ومعظم الأصحاب قاطعون بخلافه أفهم كلامه فرض المسألة فيما إذا لم يكن له قبل الكسر قيمة أصلا ، كما اقتضاه كلام الإمام ، وأن منفعة النقش ولعب الصبيان معتبرة ، وذلك خلاف ما قاله القاضي حسين ومقتضى كلام الغزالي في هذه المسألة الحالة إذا كانت له قيمة ومنفعة للنقش ولعب الصبيان الجزم بصحة البيع ثم الاختلاف في استرداد تمام الثمن أي بطريق الفسخ ، كما في قتل العبد المرتد في يد المشتري وأولى فيتحصل من كلامه وكلام الأصحاب أربعة أوجه ( الأصح ) أن البيع باطل . ( والثاني ) أنه يصح وينفسخ بعد ذلك ، ويسترد جميع الثمن ، وهذا غير قول القفال يقول : إن ذلك بطريق استدراك الظلامة مع بقاء العقد كالأرش حتى تبقى القشور للمشتري ، ومقتضى هذا القول القائل بأن الانفساخ إذ ترجع القشور للبائع ، ويلزمه تنظيف المكان عنها . ( والثالث ) أنه يصح ولا ينفسخ ، لكن يكون له أرش العيب ، وهو ههنا الثمن بكماله وهو قول القفال . ( والرابع ) أن البيع صحيح ولا ينفسخ ولا يسترد الثمن بكماله ، بل يسترد الأرش وهو ما بين قيمته سالم الجوف وفاسده قبل الكسر ، [ ص: 502 ] وهذا الوجه مخالف لنص الشافعي ، وطريقه أن يحمل النص على ما لا قيمة له مع فساده في حال صحته فيحملها على مراتب : ( إحداها ) أن يتبين بالكسر أنه لم يكن له قيمة في حال صحته أصلا . وهذه الحالة يتبين بطلان البيع فيها قطعا ، على ما اقتضاه كلام القاضي حسين ، ويجرى فيها وجهان على ما اقتضاه كلام الغزالي .

                                      ( الثانية ) أن يتبين أنه كانت له قيمة تافهة كالنقش ولعب الصبيان . فهي محل أربعة الأوجه المتقدمة والمذهب البطلان خلافا للقفال وطائفة والغزالي . فإن كلامه يقتضي ذلك في هذه .

                                      ( المرتبة الثالثة ) أن يفرض له قيمة قبل الكسر معتبرة في صحة إيراد العقد عليه ثم تبطل بالكسر . وهذا الفرض لم يذكره الأصحاب لأنه متعذر أو بعيد فلو قدر وجوده فلا يمكن القول بتبين البطلان ههنا . لكن يأتي الوجهان المفهومان من كلام الغزالي في المرتبة الثانية ( أحدهما ) أن البيع ينفسخ ويرجع بالثمن ، ويجعل طريق الاطلاع من ضمان البائع ، وإن حصل في يد المشتري . ( والثاني ) أنه لا ينفسخ إذا قلنا : ذلك ليس من ضمان البائع ، لكن يرجع المشتري على البائع بالأرش ، وهو ما بين قيمته سالما وفاسدا صحيح القشر ، وهذان الوجهان إذا فرض له قبل الكسر قيمة صحيحة للعقد لا إشكال في جريانهما ويمكن صاحب الوجه الأول أن يحمل كلام الشافعي على ذلك ، وأنه يرجع بالثمن بطريق انفساخ العقد ، والخلاف في كون طريق الاطلاع على العيب من ضمان البائع أو لا . سيأتي إن شاء الله تعالى فيما إذا كان له بعد الكسر قيمة . ( والأصح ) أنه من ضمان البائع ، فيكون الأصح هنا من الوجهين اللذين قالهما الغزالي أنه ينفسخ ( وإن قلنا ) إن العقد صحيح لكن الظاهر أن الغزالي لا يوافق على تصحيح أنه من ضمان البائع في المسألة الآتية ، وشبه أيضا بالخلاف في قتل المرتد في يد المشتري بالردة السابقة ، هل يكون من ضمان البائع أو لا ؟ والصحيح أنه من ضمان [ ص: 503 ] البائع .

                                      إذا عرفت ذلك رجعنا إلى لفظ الكتاب قول المصنف : فوجده لا قيمة للباقي أي بعد الكسر يشمل ما إذا كان له قبل الكسر قيمة تافهة أو كثيرة ، أو لا قيمة له أصلا ، والأخير محل اتفاق . ( والثاني ) تقدم الكلام فيه ، وبينت أنه فرض بعيد أو متعذر ، فلا نجعله مدرجا في كلام المصنف ، فإنه بذلك يشكل الحكم بالبطلان لما تقدم ، والأول وهو أن يكون له قيمة تافهة هو محل الخلاف بيننا وبين القفال ، فلذلك والله أعلم أتى المصنف بهذه العبارة حتى تشمل القسمين ; الأول والثالث ، وتعليله بأنه لا قيمة له يقتضي الاقتصار على القسم الثالث لكن الذي له قيمة تافهة كما لا قيمة له فالمراد لا قيمة له معتدا بها ( وقوله ) فيجب رد الثمن هو المنصوص للشافعي ( وقوله ) البيع باطل وما حمل معظم الأصحاب كلام الشافعي عليه .

                                      ( فرع ) قال ابن الرفعة : إنه تظهر فائدة الخلاف بين الأصحاب والقفال أيضا في أن مجرد الاطلاع هل يوجب استرجاع الثمن أم لا ؟ فعلى القول بأنه استدراك للظلامة لا يكون له إلا إذا طلبه على الفور ، كما تقدم ذكره في المبيع الذي تعذر رده لحدوث عيب به عند المشتري . وعلى القول بتبين بطلان العقد يكون الثمن مستحقا من حين الكسر الذي زالت به المالية . ( قلت ) أما إذا قلنا : إنه استدراك للظلامة لا يكون إلا طلبه على الفور ، فإنه قد تقدم أنه عند امتناع البائع من أخذ المعيب وتعين الحق في الأرش لا يجب أن المشتري يطلبه على الفور ، وقبل امتناع البائع تقدم عن الرافعي وغيره أنه يعلمه به على الفور ، فإن شاء قبله فههنا إن كان الرد عند القفال سائغا وأنه إذا طلبه البائع يجب ، فالأمر كما قال ، فإذا لم يعلمه به بطل الرد والأرش لكن ذلك لا فائدة فيه أصلا ، ولا يحصل للبائع به مصلحة ، وإن الرد عند القفال ممتنع لخروجه عن المالية ، فيكون الأرش متعينا ولا يجب طلبه على الفور ، وهذا هو الأظهر ، وأما قوله : على القول بتبين بطلان العقد يكون الثمن مستحقا من حين الكسر ، فمحمول على أن علمنا استحقاقه من حين [ ص: 504 ] الكسر ، وإلا فهو مستحق من حين التسليم لعدم صحة البيع من أصله ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) أطلق المصنف الكسر في هذا القسم . فيقتضي أن لا فرق بين أن يزيد في الكسر أو يقتصر على قدر ما يعرف به العيب ، وهو كذلك على المذهب لأنه إذا تبين بطلان العقد لعدم كونه متقوما قبل الكسر ، فلا فرق ، أما على رأي القفال ومن وافقه فيظهر أن يقال : إن زاد في الكسر وكان لو اقتصر على ما يعلم به العيب لبقيت تلك القيمة اليسيرة يكون الزائد من ضمان المشتري ، فلا يكون الأرش جميع الثمن وفيه نظر .

                                      ( فرع ) إن اختلفا في تسليمه صحيحا أو فاسدا فالقول قول البائع مع يمينه قاله الشيخ أبو حامد .




                                      الخدمات العلمية