الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن اختلفت قيمة المبيع من حال العقد إلى حال القبض ، قوم بأقل القيمتين لأنه إن كانت قيمته وقت العقد أكثر ثم نقص كان ما نقص في يده مضمونا عليه ، وما كان نقصانه في ضمانه فلا يجوز أن يقوم على البائع ، وإن كانت قيمته وقت العقد أقل ثم زادت في يده فإنها زيادة حدثت في ملك المشتري لا حق للبائع فيها ، فلا يجوز إدخالها في التقويم ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) تقدم أن القيمة تعتبر معنى لإيجاب الأرش ، والاعتبار بأنه قيمة فيه طريقان ( أصحهما ) - وهي التي جزم بها المصنف وشيخه أبو الطيب والماوردي والروياني وغيرهم - القطع بأن الاعتبار بأقل القيمتين ، من قيمة يوم العقد ويوم القبض ، فإنه إن كان عند العقد أكثر فالنقصان من ضمان البائع ، وإن كانت عند القبض أكثر فالزيادة حدثت في ملك المشتري . ( والطريقة الثانية ) أن في المسألة ثلاثة أقوال ( أصحها ) هذا ( والثاني ) ونقل عن نصه في موضع : أن الاعتبار بقيمته يوم القبض ، وهو الذي صححه الغزالي في باب التخالف ، وفرق بينه وبين التخالف ، ونقل عن الفوراني أن هذا القول من رواية عبد العزيز بن مقلاص ، ووجهه أن الثمن يومئذ قابل للمبيع . ( والثالث ) نقله الرافعي عن رواية ابن مقلاص أن الاعتبار بقيمة يوم القبض وقد رأيته منصوصا في باب الغصب من اختلاف العراقيين معللا بأنه يوم إذ تم البيع ، فأصحاب هذه الطريقة أثبتوا هذين القولين مع الأول الصحيح ، وممن اقتصر على إيراد هذه الطريقة الإمام والغزالي إلى أن قال الرافعي : والأكثرون قطعوا بالأول . وحملوا كل نص على ما إذا كانت القيمة المذكورة أقل . [ ص: 477 ] واعلم أن هذه المسألة معروفة بالإشكال لا سيما على عبارة المصنف تعليله وأنا إن شاء الله تعالى أذكر ما قيل في ذلك من حيث المذهب ، وبيان الصحيح منه ، وأذكر ما اعترض به على المصنف وما قيل في جوابه . اعلم أن طائفة من الأصحاب أهملوا التعرض لوقت اعتبار القيمة ، وبعضهم زعم أن ذلك لا فائدة فيه وأن الأرش لا يختلف بذلك ، ذكر ذلك ابن أبي عصرون وسبقه إليه الشاشي في الحلية ، والأكثرون اعتبروا ذلك وتكلموا فيه ، ونص الشافعي يدل لهم .

                                      ثم اختلفوا هل يعتبر يوم العقد أو يوم القبض ، أو أقل الأمرين وهو الصحيح ، ثم اختلفت عباراتهم عن هذا القول الثالث فالأكثرون يقولون كما قال المصنف إنه يقوم بأقل القيمتين من يوم العقد ويوم القبض . وعلى ذلك جاءت عبارة الرافعي في الشرح ، والمحرر والنووي في الروضة وعبارة ثانية قالها الإمام في النهاية أن المعتبر ما هو أضر بالبائع في الحالين ، ويعبر عنه بأن المعتبر كثرة النقصانين . وعبارة ثالثة قالها النووي في المنهاج أنه يعتبر أقل قيمة من يوم العقد إلى القبض . ( فأما ) عبارة النووي في المنهاج ، فأؤخر الكلام عنها حتى أفرغ من عبارة الأولين . وأما عبارة الإمام فادعى ابن الرفعة أنها راجعة لعبارة الأكثرين ; لأن اعتبار أقل القيمتين يقتضي أن يكون الواجب مع الأرش الأكثر في الحالين ، فإن المعنى بأقل القيمتين ، قيمة المبيع مع العيب في حالة العقد وحالة القبض ، كما إذا كانت قيمته سليما عشرة في الحالين ، ومعيبا يوم العقد ثمانية ، ويوم القبض تسعة ، فاعتبار أقل القيمتين يوجب الخمس من الثمن ، وهو أكثر من العشر ، وهذا الذي قاله فيه نظر ، وأول ما أقدم أن لنا قيمة منسوبة إليها - وهي قيمة السليم - ، وقيمة منسوبة - وهي قيمة العيب - ، ونسبة بينهما بها يعرف قدر العيب من السليم ، فعبارة تكون تلك النسبة بين القيمتين يوم العقد ، كهي بينهما بعد ذلك ، وإن كان حال المبيع مختلفا في اليومين ، فههنا لا أثر للاختلاف مع اتحاد النسبة .

                                      [ ص: 478 ] مثاله : قيمة السليم يوم العقد مائة ، ويوم القبض ألف أو عشرة ، وقيمة المعيب يوم العقد تسعون ، ويوم القبض تسعمائة أو تسعة ، فالنسبة في اليومين العشر ، ولا أثر للاختلاف بالزيادة ولا بالنقصان ، ولا فرق بين اعتبار أقل القيمتين واعتبار أكثرها ، والساقط من الثمن على التقديرين العشر وإن اختلفت النسبة ، فقد يكون ذلك لاختلاف قيمة المبيع مع بقاء السليم على حالها ، وقد تكون بالعكس ، وقد يكون ، باختلافهما معا . ( مثال الأول ) قيمته في اليومين سليما عشرة ، ومعيبا يوم العقد تسعة ، ويوم القبض ثمانية . فالاختلاف ههنا في المنسوب ، فإن نسبنا قيمة يوم العقد كان الأرش التسع ، وإن نسبنا أقل القيمتين كان الخمس وهو أنفع للمشتري . وكلام الإمام تصريح ، وإطلاق كلام المصنف وغيره يقتضي أنا نسلك هذه الطريقة التي هي أنفع للمشتري ، فاعتبار أقل القيمتين هنا أوجب زيادة الأرش ، وإيجاب أكثر النقصانين من الثمن لكني سأبين إن شاء الله تعالى في آخر الكلام أن المصنف والأصحاب لم يريدوا هذا القسم ، ولا حاجة لهم إليه هنا ; لأنهم بينوا في موضع آخر أن العيب الحادث قبل القبض من ضمان البائع ، والنقصان مع بقاء قيمة السليم لا بد أن يكون بعيب ، والزيادة لا بد أن تكون بنقصان العيب ، ونقصانه يمنع من ضمان ما نقص منه كزواله . ( ومثال الثاني ) قيمته معيبا يوم العقد ويوم القبض ثمانية وسليما يوم العقد عشرة ويوم القبض تسعة أو بالعكس فالاختلاف ههنا في القيمة المنسوب إليها فإن نسبنا إلى أقل القيمتين كان الأرش التسع ، وإن نسبنا إلى أكثرها كان الأرش الخمس فاعتبار الأقل هنا فيه نفع للبائع لا للمشتري ، فليس فيه إيجاب أكثر النقصانين بل أقلهما ، وهو التسع من الثمن وهذا القسم يظهر أنه مراد المصنف والأصحاب على ما سأوضحه إن شاء الله تعالى . ( ومثال الثالث ) قيمته يوم العقد سليما عشرة ومعيبا تسعة ، ويوم القبض سليما تسعة ومعيبا ثمانية .

                                      فاعتبار الأقل يوجب أن الأرش التسع ، وهو أنفع للمشتري من العشر . وأكثر نقصانا من الثمن [ ص: 479 ] أو تكون قيمته يوم العقد سليما عشرة ومعيبا تسعة ، ويوم القبض سليما اثني عشر ومعيبا عشرة ، فاعتبار الأقل يقتضي أن الأرش التسع ، واعتبار الأكثر يقتضي أنه السدس ، وهو أنفع للمشتري وأكثر نقصانا من الثمن . أو تكون قيمته يوم العقد سليما عشرة ومعيبا خمسة ، ويوم القبض سليما ستة ومعيبا أربعة فاعتبار أقل القيمتين يقتضي أن الأرش الثلث ، واعتبار أكثرهما يقتضي أن الأرش النصف ، وهو أنفع للمشتري وأكثر نقصانا من الثمن . وإذا تأملت الذي ذكرته في القسمين الأولين لم يخف عليك اختلاف الأمثلة وأحكامها في هذا القسم إن شاء الله تعالى . إذا عرفت ذلك فأقول : إن الإمام عبر عن الوجه الثالث الصحيح أن المراعى ما هو الأضر بالبائع في الحالين ، والعبارة عنه بأن المعتبر أكثر النقصانين ، ومثله بأن يكون العيب القديم يوم العقد منقصا ثلث القيمة ، ويوم القبض منقصا ربعها وهذا الكلام من الإمام رحمه الله إنما يستمر مع عبارة المصنف والأصحاب إذا كان فرض المسألة فيما إذا كان الخلاف من جهة العيب ، وأن المراد بأقل القيمتين أقل قيمتي المعيب المنسوبة لا أقل قيمتي السليم المنسوب إليها ، وذلك في القسم الأول يستقيم فيه أن المعتبر أقل القيمتين ، والواجب أكثر الأمرين ، ويبقى القسم الثاني والثالث مسكوتا عنهما ، هل يراعى فيهما الأضر بالبائع كما قاله فيقوم بالأكثر أم لا ؟ بل يقوم بالأقل دائما كما أطلقه الأصحاب ؟ فإن ثبت أن نفع المشتري مراعى مطلقا فعبارة الإمام في قوله : أكثر النقصانين أحسن من قول الباقين : أقل القيمتين لأن النقصان نسبة ، والمراد أكثر الأمرين نقصانا من السليم ، وأقل القيمتين راجع إلى القيمة في نفسها لا إلى ما تنقصه من السليم ، وأيضا في القسم الثاني يصح كلام الإمام ، ونوجب أكثر النقصانين وليس هو باعتبار أقل القيمتين .

                                      فعبارة الإمام مطردة في الأقسام الثلاثة ، هذا إن كان الحكم مساعدا له على ذلك في جميع الأقسام . وأكثر الأصحاب لم يذكروا إلا أقل القيمتين ، ولم يبينوا ما عدا ذلك ، وكأنهم رضوا بأن القيمة عن السليم سواء ، واختلفت قيمة المعيب بحسب زيادة وصف في ذات [ ص: 480 ] المبيع أو نقصان فيه ، فينسب النقص لأنه من ضمان البائع ، ولا تنسب الزيادة لأنها حادثة في ملك المشتري ، والأمر المنسوب إليه وهو قيمة السليم لم يتكلموا في حال اختلافها ويحتمل أن يكون المعتبر الأقل مطلقا فإذا اختلفتا معا اعتبرنا أقل قيمتي المعيب ونسبناها إلى أقل قيمتي السليم . وحينئذ يصح إطلاق كلام المصنف والأصحاب ، ولا يصح إطلاق عبارة الإمام لما تقدم من المثالين الآخرين في القسم الثالث ، وكذلك في القسم الثاني أيضا ، فالموافق لإطلاق الأصحاب ذلك ، ولا يبقى المراعى ضرر البائع مطلقا ، ولا ضرر المشتري مطلقا ، ولم أر في ذلك نقلا صريحا . إلا أن في تعليقة الشيخ أبي حامد قال : فأما وقت تقويمه سليما فهو أنقص الحالين قيمة من حالة العقد أو حالة القبض تقومه في تلك الحالة ثم يقومه وبه العيب . وهذا يدل على أن المراد أقل قيمتي السليم المنسوب إليها ، لا أقل قيمتي المعيب . وفي هذه الصورة وهي الثاني الذي ذكرته في ذلك المثال يكون التقويم بأقل القيمتين أنفع للبائع ، وكذلك كلام الماوردي يفهم منه ما يوافق الشيخ أبا حامد ، فإنه قال في مسألة الجارية تقوم في أقل الحالتين ، فإذا قيل : قيمتها في تلك الحال بكرا لا عيب بها مائة قومت بكرا وبها ذلك العيب فإذا قيل : تسعون كان ما بين القيمتين العشر ، فيرجع بعشر الثمن . فهذا وجه من الإشكال في هذه المسألة قد انحل بحمد الله تعالى .

                                      وتبين بحمد الله أن المراد أقل قيمتي السليم ، وليس المراد قيمتي المعيب كما ظنه ابن الرفعة وغيره ، ولا يجب أن يكون المراعى هو الأضر بالبائع مطلقا كما قاله الإمام ، وهذا الذي لحظه أبو حامد هو الصحيح فإن المنسوب إليه هو القيمة ، والمنسوب هو العيب الموجود قبل العقد وبعده إلى القبض ما لم يطلع البائع عليه ، فلا وجه لاعتبار اختلافه ، وإنما المنسوب إليه هو المعتبر . وهو قد يقل وقد يكثر . وهذا الذي قاله الشيخ أبو حامد يعين معنى قول المصنف ، فلا يجوز أن يقوم على البائع وإنه صحيح . وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى .

                                      وأما ما يختص بالصفة فنذكره في ضمن فائدة .



                                      ( فائدة ) قال الفارقي في كلامه على المهذب : هذه المسألة يعني [ ص: 481 ] مسألة الكتاب التي ذكرها المصنف فاسدة الوضع والأصل ، وفاسدة التعليل ، وليس لنا في الكتاب مسألة أظهر فسادا منها . أما فساد وضعها فإنه يعتبر بأقل القيمتين على ما ذكر ، وإنما يكون هذا الاعتبار صحيحا ومفيدا إذا كان الأرش إسقاط جزء من قيمة المبيع ، وليس الأمر كذلك ، وإنما نحن نسقط من الثمن جزءا بقدر نسبة فوائد ما ينقص من قيمته بالعيب ، مثلا : إذا اشترى عبدا بمائة فوجده مقطوع اليد فإنا نقومه صحيحا بمائة ومقطوعا بتسعين ، ونعلم أنه سقط عشر الأصل فيسقط في مقابله عشر الثمن ولا فرق بين أن تكون قيمته مائة أو ألفا أو عشرة فإن أثر العيب في التنقيص واحد ، فإنه إذا كان أثر العيب في تنقيص عشرة من مائة نقص من الألف مائة ومن العشرة دينار ، فنسبة كل واحد من هذه إلى أصله بالعشر فيسقط في مقابله عشر الثمن ، وعشر الثمن ، لا يتفاوت على جميع الأحوال وإنما يتفاوت عشر القيمة ، ونحن إنما نوجب عشر الثمن ولا مبالاة باختلاف عشر القيمة وأكثرها . بيان فساد التعليل أن حصر اعتبار القيمة من حال العقد إلى حال القبض ، فعرفنا أن النقصان في يد البائع ، وليس يريد نقصان القيمة باختلاف الرغبات وكثرة المبتاع وقلته ، وإنما يريد فوائد المبتاع ، كهزال الدابة وتغير الثوب أو حدوث آفة به ، فقوله : كان ما نقص مضمونا عليه يعني أن العين المبيعة مضمونة على البائع ( وقوله ) وكان نقصانها من ضمانه ، يعني الجزء الفائت من الثمن ، أو فوات جزء يكون من ضمان البائع ، كما أن جملة المبيع من ضمانه .

                                      ( وقوله ) فلا يجوز أن يقوم على البائع كلام يتناقض في نفسه ; لأنه إذا كان الناقص ونقصانه مضمونا عليه ، وجب أن يكون مقوما أما أن لا يقوم عليه لأنه مضمون عليه ، فهذا كلام يتناقض لا فائدة فيه قال : وإن كانت قيمته يوم العقد أقل إلى آخره ، وهذا أيضا ظاهر الفساد والتناقض ; لأنه إذا كانت هذه الزيادة حق المشتري لا حق للبائع فيها فيجب تقويمها عليه حتى نوجب عليه قدر ما نقص من فواتها مضموما إلى قدر الأرش ، فثبت بذلك بيان فساد التعليل والوضع جميعا ، هذا كلام الفارقي رحمه الله [ ص: 482 ] وزاد ابن معن في حكاية عنه أن معرفة فساد التعليل يحتاج إلى معرفة أمرين : ( الأول ) أن الضمير في قوله : لأنه إن كانت قيمته أكثر ثم نقص كان ما نقص مضمونا عليه ، فكان نقصانها من ضمانه ، فلا يجوز أن يقوم على البائع ، إما أن يكون عائدا إلى البائع أو المشتري ، لا جائز أن يعود إلى المشتري ; لأنه حصر اعتبار القيمة من يوم العقد إلى يوم القبض ، ولا يتصور أن يكون في يد المشتري إلا بعد القبض ، ولو نزلنا جدلا أن الضمير يعود إلى المشتري بطل قوله : من حين العقد إلى حين القبض ، فتعين أن يكون المراد بقوله مضمونا عليه فكان النقصان من ضمان البائع لا غير ، هذا الأمر الأول . ( الأمر الثاني ) أن المراد بالنقصان تغير أحوال المبيع كحدوث آفة في الثوب أو الدابة لا بغيره ، لاختلاف القيمة باعتبار نقصان الرغبات وكثرتها وانخفاض الأسواق وارتفاعها ، وحينئذ قوله : فكان نقصانها من ضمانه فلا يجوز أن تقوم على البائع ، ظاهر التناقض لأنه نقصان جزء كما بيناه من الأمر الثاني ، وكما أن جملة المبيع من ضمان البائع كذلك جزؤه ، ولا يمكن أن يعود الضمير إلى المشتري لما بيناه في الأمر الأول ، هذا كلام ابن معن حاكيا عن الفارقي .

                                      ولأجل كلام الفارقي هذا قال ابن أبي عصرون : إنه لا فائدة في اعتبار أقل القيمتين ، قال في الانتصار : ونص الشيخ أبو إسحاق في المهذب على أنه يقوم بأقل القيمتين ، وكذلك في الحاوي وذكره القاضي أبو الطيب في بعض كتبه ، ثم خط عليه وقد أوضحت وجه فساده وفساد قول الشاشي الأخير ، ثم اختار أن تعتبر قيمته حال العقد لأنه موجب للضمان ، والقبض مقدر له كما في الحكومة في الجناية قال ابن أبي عصرون : وهذا - يعني كلام الشاشي - رجوع عما اعترف بصحته ورده على غيره ، ثم لا وجه لما اختاره . ( وقوله ) إن العقد هو الموجب للضمان مسلم لكن بماذا ؟ بالثمن أو بالقيمة فلا فائدة في النظر إلى قدرها وإنما جعلت معيار المعرفة المستحق للرجوع به من الثمن فلا تختص بقيمته حالة العقد . [ ص: 483 ] وأما الجناية على الجزء فإنما اعتبرت حالة الجناية لأنها حالة كمال المجني عليه واعتبرت بعد الجناية لأنها حالة النقصان ، ليعلم ما نقص من قيمته ولو كان عبدا ثم قال الشاشي معترضا : لو كانت قيمته حال العقد تسعين ، والعيب ينقصه خمسة والخمسة من المائة نصف عشر ، ومن التسعين أكثر لم تستمر النسبة في المرجوع به ، ثم أجاب فقال : هذا التصوير تحكم ; لأن العيب الواحد ينقص من الكثير القيمة بالنسبة إلى ما ينقصه من قليل القيمة لا سيما والعين على صفة واحدة ، وإنما التفاوت من جهة السوق . قال ابن أبي الدم : وأنا أقول في القلب من هذه المسألة ، وبما قاله هذان الشيخان يعني الفارقي وابن أبي عصرون حسيكة عظيمة ، وأنا أفرغ الجهد فيما ذكر عندي فيها نقلا وبحثا إن شاء الله تعالى .

                                      ثم ذكر ابن أبي الدم بعد ذلك كلام الماوردي والإمام والغزالي وحكايتهما مع المراوزة الأقوال الثلاثة ، قال : فاختار الشيخ أبو إسحاق قولا منها ، وترجيحه لها لا يكون فاسدا ولا غلطا كما ذكره الفارقي ، بل ما ذكره الفارقي من الإيراد والإشكال غلط ، فإن التقويم ما كان لإيجاب عين القيمة ، بل لمعرفة نسبة ما يرجع به من الثمن ، فالقيمة معيار وإذا كان كذلك فقد ظهر صحتها وإفادتها . ( وقوله ) " إن أثر العيب في التنقيص واحد " خطأ ; لأنه إذا كان الثمن مائة فوجده مقطوع اليد يقوم سليما ، فكانت قيمته يوم العقد ويوم القبض تسعين فإن اعتبرنا يوم العقد علم أنه نقص منه خمس قيمته فيرجع بخمس الثمن ، وإن اعتبرنا قيمة يوم القبض علم أنه نقص عشر قيمته فيرجع بعشر الثمن ، فحصل التفاوت الظاهر ، وهذا واضح لا إشكال فيه وإنما فهم الفارقي أنه جعل قيمته معيبا تسعين وقيمته بالعوض مائة ، قال : فنعلم أن الناقص عشر القيمة ، فيرجع بعشر الثمن ، وتوهم أن ذلك لازم لا يتغير ، ولا شك أنه يمكن أن تكون قيمته معيبا يوم العقد أكثر ، ويمكن أن تكون قيمته معيبا يوم القبض أقل ، وإذا فرض تفاوت القيمة بالنسبة إلى الزمانين وجب اعتبار أحدهما لاختلافها ، وقول الفارقي في فساد التعليل ففيما ذكر من كلام الشيخ غنية عنه . [ ص: 484 ]

                                      وعلى الجملة فهذا القول الذي صار إليه الشيخ أبو إسحاق ليس قولا له اخترعه وإنما هو قول مقول عن أئمة المذهب ، فلا يليق بالمتاجر إظهار شناعة على من اختاره ، وذكره في تصنيفه فإنه فاسد ليس في كتابه شيء أظهر فسادا منه ، وإنما اللائق به إن كان تكلم على دليله وأورد عليه بما يتوجه عليه من إشكال أو مباحثة أما الحكم عليه بأنه أفسد شيء في كتابه فخطأ محض منه وسوء أدب ، وممن اختار ما اختاره الشيخ أبو إسحاق : القاضي أبو الطيب والبغوي . ( قلت ) وما قاله ابن أبي الدم من وجوب حفظ الأدب صحيح ، وما قاله المصنف هو بلفظه وحروفه في تعليق القاضي أبي الطيب فلا اختصاص للمصنف به ، وقد علمت أن الشافعي رحمه الله نص في اختلاف العراقيين على اعتبار يوم القبض ، قال : وقيمتها يوم قبضها المشتري من البائع ، فلو لم يكن لاختلاف القيمة أثر لما قيد الشافعي بيوم القبض ، فيجب النظر في اختلاف القيمة وبيان كونه مؤثرا في اختلاف الأرش ، وما فرضه ابن أبي الدم لعله من اختلاف قيمة المعيب مع تساوي قيمة السليم يوم العقد ويوم القبض والعيب واحد ، كما مثل به من قطع اليد بعبد ; لأنه متى كانت قيمة السليم يوم القبض سواء والعيب واحد والمبيع واحد ، فكيف تختلف قيمة العيب ؟ لكن قد تقدمت أمثلة تغني عن ذلك من جملتها أن تتحد قيمة السليم ، وتختلف قيمة المعيب لزيادة العين أو نقصانها ، واستبعاد الشاشي له .

                                      وقوله : إن العيب ينقص من كثير القيمة بالنسبة إلى ما ينقص من قليلها ، فالكلام عليه من وجهين : ( أحدهما ) أن الشاشي قصر الكلام على اختلاف قيمة السليم المنسوب إليها واتحاد العيب المنسوب وذلك هو القسم الثاني الذي قدمته وقلت : إن كلام المصنف والأصحاب لم يشمله ، أو إن الأولى فيه عبارة الإمام . أما إذا فرضنا الكلام في القسم الأول ، وهو أن قيمة السليم سواء ونقصت القيمة بحدوث عيب قبل القبض ، أو زادت بحدوث صفة ، فإن النسبة تختلف قطعا ، وهذا هو المراد بما قرره الفارقي في كلامه ، فغير ذلك التقرير جوابه عن الأصحاب ، وإن كان في صورة الاعتراض ، [ ص: 485 ] وذلك هو جواب عن المصنف إلا في قوله : فلا يجوز أن يقوم على البائع ، فإنه مشكل ، وسنزيد الكلام عليه .

                                      ( الوجه الثاني ) من الكلام على الشاشي أن الأصحاب وإن سكتوا عن قيمة السليم المنسوب إليها فلا بد من اعتبارها ، فإن قيمة المعيب زادت أو نقصت منسوبة إليها ، فالضرورة تحتاج أن يكون ذلك الشيء المنسوب إليه معلوما ، فإن اتحد فذلك ، وإن اختلف فهذا مما قدمت أن الأصحاب سكتوا عنه إلا الشيخ أبا حامد ، وبحث فيه هناك ، فإذا ثبت اعتبارها وأنها قد تختلف ، فاختلافها مع تعارض السلامة من غير زيادة إنما يكون بحيث الأسعار والرغبات ، وعند ذلك قد ينقص العيب من قليل القيمة نسبة لا ينقصها من كثيرها ، وذلك إذا غلا السعر وضاق ذلك الصنف فإن الرغبة تشتد فيه ، ويغتفرون ما به من عيب ، ولا يصير الناس يبالون بعيبه ، كما يبالون به في حال الرفاهية . وبعكس ذلك إذا رخصت الأسعار واتسع الصنف وبخست قيمته ، بحيث يصل إلى السليم منه كل أحد صدت أكثر الناس عن المعيب لقدرتهم على ما هو خير منه ، وانحطت قيمته عن قيمة السليم بنسبة أكثر مما كانت قبل ذلك ، هذا هو العرف بين الناس ، وإن كان ذلك غير منقول ، ثم إن المسائل التي تفرض في الفقه ، والفروض المقدرة لا يلزم أن تكون واقعة غالبا ، بل ولا نادرا ، بل المقصود أنها إن وجدت كان هذا حكمها . فإن قال قائل : هذا إنما جاء في اختلاف الأسواق ، وفرض المسألة فيما إذا كان الاختلاف من جهة حدوث وصف في المبيع . ( فالجواب ) أن الاختلاف في قيمة المعيب سببه حدوث الوصف بزيادة أو نقصان ( وأما ) الاختلاف في قيمة السليم المنسوب إليها فليس له سبب إلا اختلاف السوق ، ولا بد من اعتبارها .

                                      [ ص: 486 ] وأما قول المصنف : ولا يجوز أن يقوم على البائع ففي غاية الإشكال وإيراد الفارقي عليه قوي ، وهو كذلك في تعليقة القاضي أبي الطيب وليس بمناسب فيما يظهر ; لأنا إذا أدخلنا الذي نقص في التقويم قبل الأرش وتضرر المشتري وانتفع البائع ، فلو قال المشتري يناسبه من هذا الوجه وكان يفسد من وجه آخر لعدم مناسبته لبقية تعليله بأنه مضمون على البائع لكن الجواب عن هذا أن هذا الإشكال إنما هو بناء على أن الكلام في العيوب المنسوبة ، وقد تبين فيما تقدم عن كلام الشيخ أبي حامد أن المراد قيمة السليم المنسوب إليها ، وعلى ذلك يصح أن يقال : فلا يجوز أن يقوم على البائع ; لأنا إذا نسبنا إليه وأدخلناها في التقويم كثر الأرش عليه ، وإن تعلقوا بكلام الإمام تعلقنا بكلام الشيخ أبي حامد وهو أصح لما تقدم . ( فإن قلت ) ذلك لا يلائم قوله : كان ما نقص في يده مضمونا عليه ، وكان نقصانها من ضمانه ( قلت ) سيأتي تأويله عن صاحب البيان وقول الفارقي : إنا نوجب على البائع قدر ما نقص بفواتها مضموما إلى الأرش إنما يصح تخيله على بطلانه ، لو زال بعد حدوثه قبل القبض ، وقد رأيت صاحب الوافي نقل هذا الجواب الذي قلته عن شيخه ، ثم اعترض بأن المسألة تفرض فيما إذا زادت بين العقد والقبض ثم ذهبت الزيادة . قال : فالجواب صحيح أن تلك المسألة لم تدخل في ضمان البائع .

                                      وما ذكره من فرض المسألة قد يمنع منه الحكم إذا فرضها كذلك ، وقد اعتذر صاحب البيان عن المصنف في التعليل فقال : هذا مشكل ، لكن أراد أن النقصان مضمون على البائع ، وقد سقط ضمانه برضا المشتري بقبض المبيع ناقصا ، فلو فرضناه وقت العقد أدى إلى إيجاب ضمان النقصان على البائع ، وقد سقط عنه ، إلا أن الشيخ عنى البائع في أول كلامه ثم ذكره ظاهرا . ( قلت ) : معناه أن المشتري قبضه ناقص القيمة باعتبار السلامة ، [ ص: 487 ] فذلك القدر الزائد منها قد رضي بإسقاطه فلا ينسب العيب إلا إلى الثاني ، وهو الأقل ، وفي ذلك نفع للبائع ، وهذا اعتذار عجيب فإن فيه محافظة على تصحيح قول المصنف فلا يجوز أن يقوم على البائع ، لكن ذلك قد يقتضي عكس الحكم ، فإن قيمة السليم إذا كانت مائة يوم العقد ويوم القبض ، وكانت قيمة المعيب يوم العقد تسعين ويوم القبض ثمانين ، فعلى ما قاله صاحب البيان : ينبغي بأن يقوم بأكثر قيمتي المعيب تسعين ; لأن العيب الزائد المنقص للعشرة الثانية لم يحسب على البائع ، فيكون الأرش العشر . ( والظاهر ) من كلامهم أن الأرش في هذه الصور الخمس ; لأن الثمانين أقل القيمتين ثم إن ذلك يقتضي الفرق بين أن يعلم بذلك أو يجهل ، فإنه قد يحصل عيب قبل القبض منقص للقيمة ويقبضه المشتري من غير علم بذلك العيب ، ثم يحدث ما يمنع من الرد فله الأرش عن العيبين جميعا ، الذي كان قبل العقد والذي حدث قبل القبض . وقال صاحب الوافي : معنى قوله كان مضمونا عليه ، أي يذهب من ضمان البائع وهو ناقص عليه في حكم ما لم يبعه من أمواله إذا لم يبعه ليس مضمونا عليه للمشتري ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يقوم عليه للمشتري .

                                      ورأيت في تعليقة أبي إسحاق العراقي على المهذب : ولا يجوز أن يقوم على المشتري ، وهذا إما أن يكون غلطا في النسخة ، وإما أن يكون أحد ظن أن البائع غلط فأصلحه على ظنه ، وكل النسخ فيها البائع ، والفارقي أعرف بما في المهذب وقد ظهر الجواب عن ذلك - بحمد الله تعالى - واندفاع الإشكال عنه ، وكذلك رأيت في الاستقصاء كان ما نقص من القيمة غير مضمون عليه ، أي لأنه ليس بجزء ، وأظن ذلك كله إصلاحا لما أشكل عليهم . وتعليل الماوردي قريب من تعليل المصنف . كذلك أكثر من تكلم في المسألة من الأصحاب ، ولم يختص المصنف من الإشكال إلا بقوله : فلا يجوز أن يقوم على البائع ، وكذلك شيخه القاضي أبو الطيب الإشكال في هذه اللفظة وارد عليها .

                                      [ ص: 488 ] فرع ) وهذا الذي قلته وحملت كلام المصنف عليه ، من أن المراد إن اختلفت القيمة المنسوب إليها هو الصحيح المتعين . أما إذا اتحدت واختلفت قيمة العيب كما في القسم الأول كانت قيمته معيبا تسعة عند العقد ، ثم نقص فنقصانه مع بقاء قيمة السليم إنما تكون لعيب آخر ، فذلك العيب الآخر إن اطلع عليه المشتري ورضي به صار وجوده كعدمه ، وينسب الذي كان حالة العقد فقط ، وإن لم يرض به كان الكل إلى القبض مضمونا على البائع ينسب من القيمة وإن زادت قيمة المعيب مع بقاء قيمة السليم فذلك ، إن كان نقصان العيب فقد برئ البائع بما نقص ; لأنه لو زال كله قبل القبض لم يثبت به الرد ولا الأرش فكذلك نقصانه ، فلا يصح اعتبار أقل القيمتين هنا ، وإن الحصول وصف زائد في المبيع جبر النقصان الحاصل بالعيب ، فيقتضي ذلك زيادة قيمته سليما ، وقد فرضنا أن قيمته سليما باقية بحالها .

                                      ( فرع ) عبارة الرافعي والجمهور : أقل القيمتين من يوم العقد ويوم القبض وكذلك في المحرر ، وقد تقدم الكلام عليها وعلى عبارة الإمام ، وقال النووي في المنهاج : أقل قيمة من يوم العقد إلى يوم القبض ، وذلك يقتضي أنه إذا نقصت القيمة فيما بين العقد والقبض أن تعتبر تلك القيمة الناقصة المتوسطة ، وإن كانت القيمة يوم العقد ويوم القبض سواء . لأن المتوسطة حينئذ أقل ، وكذلك إذا كانت في أحد اليومين أقل من الآخر . وفيما بين ذلك أقل منهما أن يقوم بالمتوسطة التي هي أقل . وعبارة الجمهور لا تقتضي ذلك . وتقتضي أن يقوم بإحدى القيمتين في يوم العقد أو يوم القبض ، إن كانتا متساويتين فبإحداهما وإن اختلفتا فبالأقل منهما ، وهذه عكس الصورة التي فرض الكلام فيها فيما تقدم عن صاحب الوافي . وعلى أنه في الروضة تابع للرافعي في عبارته ، ونبه في دقائق المنهاج على ذلك وأنه غيرها لهذا المعنى ، والذي يظهر عبارة الجمهور ; لأن العيب المنقص إذا وجد وزال قبل القبض لا يثبت به خيار فلا اعتبار به ، وفيه نظر فليتأمل .

                                      وقال في التهذيب : أقل القيمتين من يوم العقد إلى يوم القبض ، فإن كانت النسخة صحيحة ففيه موافقة للمنهاج من بعض الوجوه . لكن قوله : أقل القيمتين يوافق الجمهور .

                                      [ ص: 489 ] فرع ) هذا الذي تقدم في معرفة الأرش عن العيب القديم ، وكلام المصنف مفروض في ذلك ، فإنه قال في أول الفصل : إذا أراد - يعني المشتري - الرجوع بالأرش . أما الأرش المأخوذ من المشتري عن العيب الحادث ، قال ابن الرفعة فالمنقول أنه يقوم وبه العيب القديم ، ثم يقوم وبه العيب الحادث والقديم ويجب ما بينهما ، فإذا كانت قيمته بالقديم عشرة ، وبه مع الحادث تسعة غرم درهما ، ولا تجعل القيمة في هذا الحال معيارا ( قلت ) وسيأتي هذا في كلام المصنف فيما لا يوقف على عيبه إلا بكسره . ( فرع ) قال ابن عصرون : المتأخر في مجموع له يتعرض في بعضه لألفاظ المهذب قال : ( قوله ) وإن اختلفت قيمة المبيع قال : فيقال مثلا قيمته يوم العقد بلا عيب ثلاثون ، وبالعيب عشرون ، فينقص عشرة . ويقال : قيمته يوم القبض بلا عيب خمسة وعشرون وبالعيب عشرون ، فيرجع بأقل القيمتين وهو خمسة وكذلك لو قلت قيمته يوم العقد وزادت يوم القبض كما إذا قلنا : سائل يعني أن ذلك في السائل . وأيضا فقوله : يرجع بخمسة ، يجب تأويله على أن المراد نسبتها من الثمن .




                                      الخدمات العلمية