الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن وجد العيب وقد نقص المبيع - نظرت فإن كان النقص بمعنى لا يقف استعلام العيب على جنسه كوطء البكر وقطع الثوب وتزويج الأمة - لم يجز له الرد بالعيب لأنه أخذه من البائع وبه عيب ، فلا يجوز رده وبه عيبان من غير رضاه ، وينتقل حقه إلى الأرش لأنه فات جزء من المبيع وتعذر الفسخ بالرد فوجب أن يرجع إلى بدل الجزء الفائت وهو الأرش ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) النقص الحاصل لرخص السعر ونحوه لا خلاف أنه لا يعتبر ، فلذلك قال المصنف : المعنى أي حاصل في المبيع ، وامتناع الرد في افتضاض البكر وقطع الثوب وتزويج الأمة إذا لم يكن لها سبب سابق ولا ضم معها الأرش ، لا خلاف فيه عندنا ; لأنها عيوب حادثة في يد المشتري ، فلو رده وبه عيبان كما قال المصنف في وطء البكر ومذاهب السلف ، قال ابن جريج والنخعي : يردها ونصف عشر ثمنها ، وتقدم في وطء الثيب حكاية ثلاثة مذاهب مطلقة في الوطء والظاهر أنها مطردة في البكر ، وكلها ضعيفة ، واتفقوا في البكر على أنها بعد الافتضاض لا ترد مجانا ; لأن المتقدمين أجمعوا على قولين ( إما ) امتناع الرد ( وإما ) الرد مع الأرش ، وجعلوا ذلك مثالا لامتناع إحداث القول الثالث كما هو رأي أكثر الأصوليين ولا سيما هنا فإن فيه دفع ما أجمعوا عليه . وقد تكلم الشافعي في المختصر على افتضاض البكر فقال : وإن كانت بكرا فافتضها لم يكن له أن يردها ناقصة بما بين قيمتها صحيحة ومعيبة من الثمن . ثم تكلم بعد عن مسائل ، تكلم عن حدوث العيب عند المشتري فقال : فإن حدث عنده عيب كان له قيمة العيب إلا أن [ ص: 438 ] يرضى البائع أن يقبلها ناقصة ، فيكون ذلك له إلا أن يشاء المشتري حبسها ، ولا يرجع بشيء ، وتبعه الأصحاب على ذلك وتكلموا على كل من المسألتين وحدها ، وجزموا في وطء البكر أنه مانع من الرد وقالوا في مسألة حدوث العيب : إنه يمنع الرد به . وقال ابن سيرين والنخعي والزهري على ما نقله ابن المنذر وغيره ، والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وابن شبرمة ، وقال الشعبي : أبطل الآخر الأول .

                                      وهذا يحتمل أن يكون موافقا لما قلناه ، ويحتمل أن يكون بمنع الرد ولا يرجع بشيء ، وذهب حماد بن أبي سليمان وأحمد وأبو ثور إلى أنه يرد السلعة وأرش العيب الذي حدث عنده قياسا على المصراة . وقال الماوردي : إن أبا ثور روى ذلك عن الشافعي رضي الله عنه في القديم وهذا يرجع إلى الوجه المشهور الذي في طريقة الخراسانيين فيما إذا طلب المشتري الرد مع الأرش ، والبائع أعطاه الأرش وبقاء العقد ، وبالعكس من إيجاب كل منهما ، وسنذكره إن شاء الله تعالى . ولذلك قال المرعشي : قطع الثوب من الصور التي فيها قولان : ( أحدهما ) يرده وأرش القطع . ( والثاني ) يأخذ الأرش ، فلا تنافي بين الكلامين ، ولكن هل نقول الواجب له ابتداء له الرد مع بدل الأرش ؟ أو يتخير بين ذلك وبين طلب الأرش ، أو ليس له أخذ الأرش إلا أن يختار البائع كما يقتضيه ظاهر قول الشافعي رضي الله عنه في المختصر والأصحاب ؟ فيه بحث ينبني عليه أنه هل تجب عليه المبادرة إلى الرد وبدل الأرش أو لا ؟ ( إن قلنا ) بالأول وجب ( وإن قلنا ) بالثاني أو الثالث لم يجب . وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى ، واحتمال رابع وهو ما يقتضيه كلام الرافعي أنه حقه أولا في الرد وحده ، فإن امتنع البائع جاءت هذه الاحتمالات وسنذكره إن شاء الله تعالى . [ ص: 439 ] إذا عرفت ذلك فهل ذلك جار في وطء البكر أو لا ؟ الأقرب الأول .

                                      وإطلاق كلامهم يقتضيه ، وإنما أفردت مسألة وطء البكر وحدها لأنهم ذكروه عقب وطء الثيب ، والبحث فيها مع الحنفية ، فإنا نوافقهم على أن وطء البكر مانع ، ويحتمل على بعد أن يقال : هما مسألتان فوطء البكر وشبهه مما فيه فوات جزء كالخصاء ، أو قطع طرف من أطرافه ، أو قطع إصبع زائدة ، سقط حقه من الرد ، وينتقل إلى الأرش جزما إلا أن يرضى البائع بالرد ، والعيوب التي تنقص القيمة فقط يجري فيها خلاف أبي ثور ، والوجوه التي ستأتي ، فعلى الوجه الذي يقول بإجابة المشتري لم يسقط حقه من الرد ، بل حقه في الرد باق مع إعطاء الأرش ، إما على التعيين أو على التخيير بينه وبين أخذ الأرش كما تقدم ، وسيأتي إذا اتبعنا رأي المشتري . ويؤيد هذا الاحتمال أن القاضي أبا الطيب نقل الإجماع على أنه إذا قطع طرف من أطرافه في يد المشتري ثم وجد به عيبا قديما أنه لا يجوز له رده ، ووضع الشافعي والمصنف من الخلاف كابن المنذر وغيره مسألة الوطء وحدها ومسألة حدوث العيب وحدها ، وما تقدم عن الشعبي عامة قال في الجارية توطأ : يردها ويرد معها حكومة ، وفي الجارية يحدث بها عيب مبطل للعيب الأول ، وهذا يقتضي التغاير بين المسألتين والأول أوفق لإطلاقهم ولعموم كلام الشافعي في المسألة الثانية ، ولكلام المصنف فإنه سوى بين وطء البكر وقطع الثوب وتزويج الأمة وليس في الثاني والثالث فوات جزء ولا ينحل أن هذه الثلاثة مشتركة في أنها صادرة من المشتري فتكون محل الجزم ، ويخص الخلاف في يد المشتري ، فالأقرب أن العيوب كلها سواء في منع الرد الذي لم يضم معه الأرش أما إذا ضم معه الأرش فعلى ما سيأتي .

                                      وعلى رأي المصنف وهو الصحيح على ما سيأتي يمتنع مطلقا إلا برضا البائع لأنه يجاب من طلب تقرير العقد على الصحيح فلذلك صح إطلاق المصنف هنا ، ومحل الاتفاق أيضا ما لم يكن العيب الحادث له سبب متقدم ، فإن كان له سبب متقدم فلا يمنع على الأصح كما تقدم مبحث حمل كلام المصنف على ما لا سبب له متقدما ، ومن ذلك ما إذا [ ص: 440 ] اشترى بكرا مزوجة جاهلا فافتضها الزوج وقد تقدم . وممن صرح به هنا القاضي حسين ، وتقدم فيه بحث ، وجمع المصنف بين وطء البكر وقطع الثوب قيل : لأن أبا حنيفة وافق في وطء البكر وخالف في قطع الثوب ففيه قياس أحدهما على الآخر ، وقوله : وطء البكر محمول على افتضاضها ، فلو كانت غوراء فوطئها ولم تزل بكارتها فهو كوطء الثيب بما يظهر . واعلم أن زوال البكارة يفرض على وجوه مختلفة الأحكام ، سأفرد لها فرعا في آخر الكلام إن شاء الله تعالى .

                                      وقوله : من غير رضاه مفهم أنه لو رضي البائع بالرد جاز وهو كذلك . لكن فيه بحث فإن قوله في أول الكلام : نقص المبيع يدخل فيه جميع أنواع النقص والنقص قد يكون نقص صفة مخفية كقطع الثوب والتزويج وقد يكون نقصان عين ، ولكنها في حكم الوصف كزوال البكارة فإن جلدة البكارة - وإن كانت عينا - لكنها لا تقابل بقسط من الثمن ، ولذلك لا يسقط من الثمن بزوالها قبل القبض شيء وقد يكون نقصان عين مقابلة بجزء من الثمن ، كاحتراق بعض الثوب ، فأما القسمان الأولان فجواز الرد إذا تراضيا عليه ظاهر وأما القسم الثالث فينبغي أن يكون كما إذا رضي البائع أن يرد عليه بعض المبيع ، والأصح جوازه ، وقد تقدم فيه أنه لا يجوز . إذا قلنا : لا يجوز تفريق الصفقة وشرط النقص المانع من الرد بالاتفاق أن لا يكون له أمد ينتظر . فلو كان قريب الزوال ففيه خلاف مذكور في طريقة الخراسانيين سأذكره في التنبيه الذي في آخر الكلام إن شاء الله تعالى .

                                      ( وقوله ) وينتقل حقه إلى الأرش ، ظاهره أنه لا حق للمشتري في الرد لا على التعيين ، ولا على التخيير ، وهو أحد الاحتمالات المتقدمة ، وسنعيد الكلام فيها إن شاء الله تعالى .

                                      ( وقوله ) لأنه فات جزء من المبيع إنما يظهر في القسم الثاني والثالث المتقدمين . ( أما الأول ) وهو ما فيه نقصان صفة محضة فلا ، إلا أن يتجوز في إطلاق اسم الجزء عليها ، ويدلك قوله : بدل الجزء الفائت ، لكنه ههنا منزل منزلة الجزء شرعا بدليل جبره بالأرش ، فلو لم يكن كالجزء لم يستحق الأرش في مقابلته لكنه ليس جزءا [ ص: 441 ] حقيقيا ، وإلا لزم أن يسقط من الثمن شيء في مقابلته ، وإن رضي المشتري بالرد ، وأن لا يصح بيع أصلا حتى يحصر الأوصاف التي يجب الأرش بفواتها ، وهي غير محصورة ويستثنى من قول المصنف ، وينتقل حقه إلى الأرش ما إذا كان العيب القديم هو الخصاء ولم تنقص به القيمة ، فإنه لا أرش له وسأذكر قريبا أن كلام المصنف دال على ذلك فيما سيأتي . ويؤخذ من قول المصنف أن الأرش بدل عن الجزء الفائت ، فيكون جزءا من الثمن ، فليس عرفا جديدا ، وسيأتي الكلام في ذلك .

                                      ( تنبيه ) هل يشترط المبادرة بإعلام البائع ؟ قال المتولي والبغوي والرافعي : إن المشتري يعلم البائع بالحال فإن رضي به معيبا قيل للمشتري : إما أن ترده ، وإما أن تقنع به معيبا ، ولا شيء لك ، وإن لم ترض فلا بد من ضم الأرش ، صرح الرافعي والبغوي من بعد بأنه لو أخر الإعلام من غير عذر بطل حقه من الرد والأرش إلا أن يكون العيب حادثا قريب الزوال غالبا كما سيأتي . ( قلت ) وما ذكره يقتضي أن حقه أولا ثابت في الرد ، فإن امتنع البائع انتقل إلى الأرش ، وهو خلاف ظاهر عبارة المصنف ، وما حكيته من عبارة الشافعي وكذلك عبارة كثير من الأصحاب فإن ظاهرها أن حقه ثابت في الأرش إلا أن يرضى البائع بأخذه معيبا ، وقد قدمت أن الاحتمالات أربعة بكلام الرافعي ، هذا وما ذكره الرافعي يدل عليه كلام الغزالي هنا وكلام الإمام في باب السلم ، ويؤخذ من كلامه وجهان في ذلك أرجحهما عنده أنه لا يثبت الأرش إلا الطلب الجازم . وأما إذا كان العيب قريب الزوال كالصداع والحمى والرمد والعدة التي لزمتها من وطء شبهة ففي جواز التأخير قولان أو وجهان مذكوران في طريقة الخراسانيين . عبر عنهما البغوي بقولين والغزالي بوجهين : ( أحدهما ) يعذر بالتأخير وله انتظار زواله ليرده سليما عن العيب الحادث من غير أرش . [ ص: 442 ] والثاني ) لا كغيره من العيوب وعلله الغزالي بقدرته على طلب الأرش . ( فإن قلت ) هذان الوجهان يدلان على أنه فيما ليس قريب الزوال لا يعذر في التأخير قطعا . ويكون الإعلام لطلب الرد والأرش على الفور وهو ما قاله الرافعي .

                                      قلت : يحتمل ذلك ويحتمل أن يكون هذان الوجهان في أن له الرد بعد ذلك . وأن ذلك عذر في تأخير الرد أم لا ؟ فإن جعلناه عذرا كان بعد زواله الرد واسترجاع جميع الثمن . وإن لم نجعله عذرا تعين حقه في الأرش والاحتمال الأول أقرب إلى كلام الغزالي وعليه جرى الرافعي . فإن الغزالي صرح على قولنا أن لا يعذر أنه أبطل حقه . وظاهر ذلك حقه من الرد والأرش جميعا . فيقتضي أن طلب الأرش على الفور . فهم ابن الرفعة من كلام الغزالي أن الوجهين في تأخير طلب المشتري الرد مع بدل الأرش . ثم قال : إنه لا يبعد جريان مثلهما فيما إذا قلنا : إن حقه في طلب الأرش عن العيب القديم فأخر طلبه إلى زوال الحادث ، وبه صرح في الشامل في نظير ذلك إذا علم عيب الجارية بعدما حملت . والحمل ينقصها يرجع الأرش . وقيل للمشتري : أمسكها حتى تضع ويردها . وقد تقدم ذلك والذي أفهمه أن المسألة واحدة متى وجد عيب قديم وعيب جديد منتظر الزوال ، جرى الوجهان في جواز التأخير إلى الرد من غير أرش أو طلب الأرش الآن . لكن هل تتعين الفورية في طلبه أو لا ؟ فيه ما سلف عن الغزالي والرافعي من وجوب الفورية وعن غيرهما من عدمها . ولا فرق بين طلب الرد مع بدل الأرش وبين طلب الأرش بخلاف ما أفهم كلام ابن الرفعة من أنهما مسألتان . نعم يلتف ذلك على البحث الذي تقدمت الإشارة إليه هل حق المشتري أولا في الرد ؟ أو في طلب الأرش ( فإن قلنا ) بالأول يظهر الخلاف في كون التأخير بهذا السبب عذرا أو لا ( وإن قلنا ) بالثاني يظهر سقوط حقه من الرد . ولا يعين الأرش إلا برضا البائع ، ولا تشترط الفورية . هذا ما يتضح عندي في ذلك ، والله عز وجل أعلم .

                                      [ ص: 443 ] والوجه الذي حكاه صاحب الشامل معناه أنه يؤخر طلب الأرش . ويرد بعد الوضع . وأما تأخير طلب الأرش وحده بعد امتناع البائع من الرد فجائز قطعا ولا يجب المبادرة إلى أخذ الأرش ، ولذلك صرح صاحب التهذيب بأن أخذ الأرش ، لا يكون على الفور ، بل متى شاء أخذ وكذلك صاحب التتمة . ( فرع ) زوال البكارة إذا كان بعد القبض فهو مانع من الرد ، سواء أكان بوطء المشتري أو البائع أو أجنبي وسواء أكان بآلة الافتضاض أو بغيرها كإصبع أو خشبة أو ظفره أو وثبة أو غير ذلك كل ذلك مانع من الرد إلا إذا اشترى أمة مزوجة فزالت بكارتها بعد القبض بوطء الزوج فقد تقدم فيه وجهان وهما يثبتان هنا في تعليقة القاضي حسين ( أصحهما ) عند الرافعي على ما تقدم هناك أنه غير مانع . وقال صاحب التتمة : إنه مانع في صورة العلم دون الجهل ، وهو الأصح ، وإن كان زوال البكارة قبل القبض فإن كان من الزوج فإن جهل المشتري الزوجية فلا إشكال في أن ذلك موجب للرد ، فضلا عن كونه غير مانع ، وإن علم المشتري الزوجية فقد تقدم الكلام في هذا الباب ، في موضعين ، على كونه موجبا للرد بسببه أو مانعا من الرد بغيره أو لا ؟ . والذي ظهر أنه غير موجب ولا مانع وصرح صاحب التتمة بأنه غير مانع كما قلته ، وإن كان من غيره فهو جناية على المبيع قبل القبض سواء أكانت مكرهة أو مطاوعة ، وسواء أكان الواطئ عالما أو جاهلا ، والتفصيل فيه أنه إن كان من أجنبي فإن كان بغير آلة الافتضاض فعليه ما نقص من قيمتها ، وإن افتضها بآلته فعليه المهر ، وهل يدخل فيه أرش البكارة ، أو يفرد ؟ فيه ثلاثة أوجه ( أصحها ) عند الرافعي هنا يدخل فعليه مهر مثلها بكرا ( والثاني ) يفرد ، فعليه أرش البكارة ومهر مثلها ثيبا ( والثالث ) يجب أرش البكارة ومهر مثلها بكرا وهو الذي [ ص: 444 ] جزم به الشيخ أبو حامد في تعليقه في باب الشرط الذي يفسد البيع والرافعي هناك أيضا . ثم المشتري إن أجاز العقد فالجميع له ، هكذا أطلق الرافعي ، وهو كذلك إن تم العقد .

                                      وأما إن ماتت قبل القبض فقال القاضي حسين أرش البكارة للبائع وجها واحدا كما لو قطع أجنبي يدها ثم ماتت في يد البائع فأرش القطع للبائع ، وفي مهر مثل الثيب وجهان ( إن قلنا ) ينفسخ من أصله فهو للبائع ( وإن قلنا ) من حينه فللمشتري .

                                      وهذا الذي قاله القاضي حسين متعين ، وإن فسخ المشتري العقد قال الرافعي : فقدر أرش البكارة للبائع لعودها إليه ناقصة والباقي للمشتري . فأما قوله : أرش البكارة للبائع فهو شاهد لما قاله القاضي حسين . وأما قوله الثاني للمشتري فينبغي أن يكون ذلك على قولنا إنه ينفسخ من حينه .

                                      أما إذا قلنا ينفسخ من حينه فيكون الجميع للبائع كما تقدم في كلام القاضي عند التلف . وأما إذا افتضها البائع ، فإن اختار المشتري فلا شيء على البائع إن قلنا : جنايته كالآفة السماوية ، وإن قلنا : كالأجنبي فحكمه حكمه . هكذا قال الرافعي تبعا لصاحب التهذيب . واختلف جواب القاضي حسين فيها ، فمرة قال كذلك وهو آخر قوليه ومرة قال فيما إذا كان بغير آلة الافتضاض : يسقط من الثمن ما بين كونها بكرا وثيبا وكذلك اختلف قوله : فيما لو قطع البائع يد العبد المبيع قبل القبض واندمل ، وقلنا : جنايته كجناية الأجنبي أنه هل يجب عليه كمال القيمة أو نصفها ؟ قال : كما لو باع عشرة آصع حنطة بعشرة دراهم ، ثم أتلف البائع صاعا منها قبل القبض ، يسقط عن المشتري عشر الثمن ، ولا يقول : يجب على البائع مثله ; لأنه عامد ، هكذا قاله القاضي ودعواه في هذه الصورة ممنوعة أيضا ، بل مقتضى التفريع أنه إذا أجاز المشتري يجب عليه مثله . قال القاضي حسين : فيما إذا وطئها البائع وافتضها ، وجعلنا جنايته كجناية الأجنبي ، وأجاز المشتري وقلنا : أرش البكارة ينفرد ، [ ص: 445 ] ينظر كم نقص ذهاب البكارة من قيمتها ، فذلك القدر من الثمن يسقط إن نقص عشر قيمتها سقط من الثمن عشره ، ويجب من مهر مثلها ثيبا إن جعلناه كالأجنبي ( وإن قلنا ) أرش البكارة لا يفرد فيجب مهر مثلها بكرا مثلا مائة ، وثيبا ثمانين ، فخمس مهرها بكرا أرش البكارة ، إن جعلناها كجناية الأجنبي ، سقط من الثمن بحصته وفي أربعة أخماس الثمن وجهان ، فإن ماتت في يد البائع بعد افتضاضه سقط جميع الثمن . وقدر ما يقابل أرش البكارة لا يجب على البائع . وهل يغرم مهر مثلها ثيبا ؟ ( إن قلنا : ) الفسخ رفع من أصله لم يغرم ( وإن قلنا : ) من حينه ، وجناية البائع كالأجنبي غرم .

                                      هذا التفريع للقاضي حسين ، فإنه لم يفرع إلا على قوله الأول ، وفيه مخالفة كما قاله الرافعي في إلحاقه بالأجنبي مطلقا ، وإن فسخ المشتري فليس على البائع فسخ أرش البكارة وهل عليه مهر مثلها ثيبا ؟ إن افتض بآلته يبنى على أن جنايته كالآفة السماوية يجب أم لا ؟ وهكذا قال الرافعي ومقتضاه أنا إن قلنا : كالآفة السماوية لم يجب وهو صحيح . ( وإن قلنا ) كالأجنبي وجب وينبغي إذا قلنا : إن جنايته كالأجنبي فيخرج على أن الفسخ رفع للعقد من أصله ، أو من حينه ( إن قلنا : ) من أصله لم يجب أيضا وإلا وجب . وفي هذين القسمين زوال البكارة من البائع ومن الأجنبي قبل القبض لا يمنع الرد بالعيب القديم ، بل هذا عيب آخر مثبت للرد ، وأما إذا افتضها المشتري قبل القبض فيستشعر عليه من الثمن بقدر ما نقص من قيمتها . وهو تعييب مانع من الرد بالعيب القديم ، فإن سلمت حتى قبضها فعليه الثمن بكماله ، وإن تلفت قبل القبض فعليه بقدر نقص الافتضاض من الثمن . وهل عليه مهر ثيب ؟ يبنى على أن العقد ينفسخ من أصله أو من حينه ، هكذا قاله الرافعي ، وجعل القاضي حسين ذلك تفريعا على قولنا : إن أرش البكارة يفرد عن المهر ، فإن قلنا لا يفرد قال فيتقرر على المشتري من الثمن بقدر ما يقابله باعتبار القيمة . وفي الباقي من المهر الوجهان . وبين التقديرين اختلاف ، فإنا إذا أفردنا أرش البكارة [ ص: 446 ] وكان عشرين مثلا وهو عشر قيمتها قررنا عشر الثمن . وإذا لم يفرد وكان مهرها - بكرا - مائة ، أو - ثيبا - ثمانين فأرش البكارة الخمس ، فيتقدر خمس الثمن ، ولنفرض القيمة واحدة في المثالين ، فإذن ما ذكره الرافعي إنما يجيء على القول الضعيف . فإن الصحيح أن أرش البكارة يدخل في المهر . وهذا كله إذا لم نجعل وطء المشتري كوطء الأجنبي . وهو الصحيح . وهذا التقرير على طريقة القاضي حسين والرافعي هنا .

                                      وأما على طريقة الشيخ أبي حامد والرافعي في باب فساد البيع أنه يجب مهر بكر وأرش البكارة متعين ولا يخفى الحكم . وفي وجه افتضاض المشتري قبل القبض وافتضاض الأجنبي . وفرق القاضي حسين بأن ضمان الجناية بالشرع ، فروعي فيه واجب الشرع ، وهذا ضمان معاوضة ، فروعي فيه موجب العقد ، والعقد اقتضى التقسيط على الأجزاء ، فلذا قال الفارقي تلميذ المصنف : تكلمت يوما في هذه المسألة في حلقة الدامغاني قاضي القضاة وهي من مفردات أحمد ، فقلت : قضية العقد التسوية بين المتعاقدين . وحق الرد ثبت للمشتري إذا لم يحدث عنده عيب ; لأنه بذل الثمن ليحصل على مبيع سليم ، فلما فات أثبتنا له الرد جبرا لحقه ، فإنه لو أخذ منه الثمن الذي بذله في مقابلة السليم وجعل على المعيب فكان إخلالا بالنظر ، وترك التسوية بينهما ، فلذلك إذا حدث عنده وجب أن يمنع عليه الرد ; لأنا لو جوزنا له ذلك أفضى إلى الإضرار بالمنافع ; لأنه خرج المبيع عن ملكه سليما فلا يجوز رده إليه معيبا تسوية بين جانبه وجانب المشتري . فقال لي : هذا بيان التسوية بينهما وامتناع الرد ، فلم رجحت جانب البائع على جانب المشتري ، حتى ألزمت المشتري المعيب ؟ فقلت : هذا في قضية النظر لا يلزمني ; لأن مقصودي بيان امتناع الرد على المشتري ، وذلك يحصل بالمعاوضة لمراعاة حق البائع والتسوية بينهما ، فلا حاجة إلى بيان الترجيح . ثم أشرع ببيانه ( فأقول : ) إنما رجحت جانب البائع على المشتري ; لأن البائع إذا ألزمناه أخذ المبيع [ ص: 447 ] بعيبين عظم الضرر في حقه ; لأنه خرج المبيع عن ملكه سليما من هذا العيب لحدوثه . فإنه جزء من ملكه الذي كان ثابتا له ، والمشتري لم يكن في ملكه شيء ففات عليه ، وإنما قصد تحصيل شيء على صفة فلم يحصل على تلك الصفة ، وليس الضرر في حق من فاته شيء كان له حاصلا ، كالضرر في حق من لم يحصل له ما قصده . ( قلت : ) قوله : إنها من مفردات أحمد قد تقدم أن ذلك قول أبي ثور . رواه عن الشافعي ويوافقه أحد الأوجه في المذهب ، وهو مذهب مالك على تفصيل عنده .



                                      ( فرع ) أطلق المصنف أن تزويج الأمة مانع من الرد ويطرقه أمران : ( أحدهما ) أنا سنحكي حكاية عن صاحب البيان - وجها ضعيفا - أن التزويج ليس بعيب وقياس ذلك يطرد ههنا . ( الثاني ) لو قال الزوج لها : إن ردك المشتري بالعيب على البائع فأنت طالق فكان قبل الدخول ، ثم وجد بها عيبا قال الروياني في البحر : قال والدي رحمه الله ( الأظهر ) عندي أن له الرد ; لأن الفرقة تقع عقب الرد بلا فصل ، ولا يخلف النكاح عنده ، قالالروياني : ويحتمل أن يقال : ليس له الرد بمقارنة العيب الرد وعلى ذهني من كلام الغير ما يعضد هذا الاحتمال ، وأنه لو زوجها المشتري للبائع ثم عيبها لم يكن له أن يردها عليه ، وإن كان النكاح ينفسخ برده لوجود العيب الآن صرح بذلك صاحب التتمة . وقد ترتب ذلك على أن العلة مع المعلول أو قبله ( إن قلنا ) بالأول فلم تصادف الزوجية الرد فتصح ( وإن قلنا ) بالثاني فوجهان ( أحدهما ) لا يصح للمقارنة ، قال الروياني : ولأنه قد يموت عقيب الرد فيلزمها عدة الوفاة ، ولا يقع الطلاق على المذهب الصحيح أي لمصادفته زمان البينونة ، فيؤدي إيجاب القبول إلى إلحاق الضرر به ( والثاني ) يصح كما ذكره والد الروياني ، ولأن الزوجية في مثل هذا الحال لا تعد عيبا ، [ ص: 448 ] والأقرب أنه يمتنع لما قاله الروياني ، ولما قدمته ، وحينئذ يبقى كلام المصنف على إطلاقه .



                                      ( فرع ) إذا وجد المشتري العيب فقبل رده مع كونه في الرد جاء البائع وقطع يده ، ففيه وجهان : ( أحدهما ) له الرد ، قال الروياني : وهو الأظهر عندي ، لا لأنه عيب حدث في يد المشتري ( قلت ) هكذا أطلق هذين الوجهين ، ويحتمل أن يكونا خاصين بهذه الصورة حتى لا يكون فعل البائع مانعا لما شرع فيه المشتري ، ومحل ذلك إن نظر في جميع العيوب الحاصلة في المشتري من جهة البائع فيطرد ذلك في زوال البكارة من البائع وغيرها ، والكلام المتقدم في زوال البكارة يخالفه .



                                      ( فرع ) من جملة العيوب المانعة من الرد لو كان غلاما فحلق شعره ; لأنه ينقص من ثمنه ، قاله أبو عاصم العبادي .



                                      ( فرع ) اشترى فرسا بحمار وخصى الفرس ثم وجد به عيبا ، فالظاهر ومقتضى قول الجمهور ، وبه قال البغوي أنه ليس له الرد إلا برضا البائع ، وقال القاضي حسين في فتاويه : إن لم تنقص قيمته له أن يرد ، وإن نقصت استرد بقدر ما نقص من قيمته من عين الحمار لا من قيمته ، وإن كان الحمار قد تلف استرد من قيمته .




                                      الخدمات العلمية