الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن كان له وارثان فاختار أحدهما أن يرد نصيبه دون الآخر لم يجز ; لأنه تبعيض صفقة في الرد . فلم يجز من غير رضا البائع كما لو أراد المشتري أن يرد بعض المبيع ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الذي ذكره المصنف رحمه الله هو الصحيح ، وهو قول ابن الحداد ، وقطع به جماعة منهم القاضي حسين والإمام ، وممن صححه الرافعي والجرجاني ، وقال الفوراني : إنه ظاهر المذهب . واستدلوا له بأن أحد الاثنين لو سلم نصف الثمن لم يلزم البائع تسليم النصف إليه ، وبأنهما قائمان مقام المورث ولم يكره له التبعيض . وهذا هو استدلال المصنف رحمه الله واحترز بقوله : " تبعيض " عن خيار الشرط ، وبقوله الصفقة أي الواحدة عن المشترين وفيه وجه أنه ينفرد أحد الوارثين برد نصيبه لأنه جميع ماله حكاه الرافعي . ونقله أبو إسحاق العراقي عن حكاية أبي علي محتجا بالصحيح المشهور في المكاتب إذا ورثه اثنان فأعتق أحدهما نصيبه أنه ينفذ والفرق بينهما ظاهر . ونظره ابن الرفعة بقوله في الراهن إذا مات وخلف اثنين فوفى أحدهما من الدين بقدر نصيبه أنه ينفذ نصيبه وبالجملة هذا [ ص: 395 ] الوجه ضعيف ( وإذا قلنا ) به فلا أرش ، وعلى الأول هل يجب الأرش للذي منعناه من الرد ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) يجب ونسبه الروياني إلى ابن الحداد لتعذر الرد كما بالتلف ( والثاني ) لا يجب ، لعدم اليأس ، فإنه يرجو موافقة صاحبه ، قاله القاضي حسين ، والأصح التفصيل إن حصل اليأس بأن علم الآخر بالعيب وأبطل حقه ، أو توانى مع الإنكار ، رجع هذا بالأرش ، وإن كان يرجو موافقة صاحبه لغيبته أو حضوره مع عدم اطلاعه فلا .

                                      وهذا من القاضي رحمه الله قد يوهم أن في المسألة ثلاثة أوجه ( أحدها ) : أنه لا يجب الأرش مطلقا وإن حصل اليأس ، لكن الذي قاله الإمام وصاحب التهذيب والرافعي وجزموا به وجوب الأرش في حالة اليأس ، وهو الظاهر ، فليكن قول القاضي محمولا على أنه أراد تنزيل الوجهين على ذلك . وعلته في الوجه الثاني ترشد إلى أن محله عند عدم اليأس . وكلام الروياني يدل على ذلك ، فإنه حكى قول الرد وقول أخذ الأرش ، وقول التفصيل . كما قاله القاضي ونسبه إلى القفال . وكذلك فعل صاحب التتمة قطع حالة اليأس بوجوب الأرش . وحكى الوجهين حالة عدم اليأس لوجود التعذر والكلام في الوارثين كما صرح به القاضي حسين . والرافعي أجاز تعيينه فيما إذا وكل اثنان واحدا بالشراء . ومنعنا كلا من الموكلين من الانفراد برد نصيبه ، فهل له الأرش ؟ فيه الخلاف المذكور ، فيحصل بذلك مع الوجه الذي حكاه الرافعي رحمه الله في مسألة الوارثين ثلاثة أوجه ( أصحها ) لا يرد ، ويأخذ الأرش إن أيس ( والثاني ) لا يرد الأرش ( والثالث ) يرد .

                                      وقولنا هنا على الأول أنه يأخذ الأرش ، أي هل هو على سبيل التعيين ؟ أو للبائع أن يسقطه بالرضا بالرد الذي ذكره البغوي ، وكذلك قطع الماوردي في مسألة الوارثين بأن البائع بالخيار بين أن يسترجعه بنصف الثمن وبين أن يعطى نصف الأرش ، وهذا يقتضي أنه لا يكون هو الوجه الأول ، ويكون المراد أنه يأخذ الأرش أي إن لم يوافق البائع على الرد . وليس المراد أنه يجب الأرش عينا ، رضي البائع أو سخط ، ويعضد [ ص: 396 ] هذا الاحتمال أن قول المنع الذي هو الصحيح منسوب إلى ابن الحداد كما تقدم ، وهو مع ذلك قائل كما قاله القاضي أبو الطيب في شرح الفروع : إنه إذا طلب أحد الاثنين الأرش يجبر البائع ، كما قاله الماوردي ، فعلى هذا رضي البائع بالرد وسقط حق المشتري من الأرش ، ويحتمل أن يكون كل من الكلامين محمولا على ظاهره فيكون في المسألة أربعة أوجه ، والاحتمال الأول حتى يكون قول ابن الحداد مطبقا على ما هو الصحيح ، ويدل عليه كلام صاحب التهذيب ، والتحقيق في ذلك أنا إن جعلنا المانع كون الصفقة متحدة ، ولا يقبل التفريق شرعا فيمتنع ويجب الأرش عينا ، وليس للبائع الرضا بالرد وإسقاط حق المشتري من الأرش ، وإن جعلنا المانع الضرر الحاصل للبائع بالتبعيض ، فإذا رضي بالرد فقد رضي بحصول الضرر له ، فيبطل حق المشتري من الأرش .

                                      ( وأما ) الرافعي رحمه الله فإنه قال تبعا لصاحب التهذيب في مسألة الاثنين ، والموكلين في الشراء إذا منعنا أحدهما عن الانفراد أنه حصل اليأس عند رد الآخر فإن رضي به وجب الأرش ، هذا وإن لم يحصل فكذلك على الأصح ، فأما جزمه بالأرش عند اليأس الحقيقي فجيد وهو موافق لما تقدم عن الإمام ، وقد تقدم أن كلام القاضي يوهم جريان الخلاف فيه وتأويله ، وأما بقية الكلام عليه ففيه مناسبة في قوله : إن اليأس عن رد الآخر بأن رضي به وجب الأرش . هذا وإن لم يحصل فلذلك يحصل برضا الآخر وقد تقدم هو عن الإمام وقدمته عنه أن اليأس بإعتاق الآخر وهو معسر .

                                      ( وأما ) الرضا فإنه قدم فيه خلافا عن الإمام مبنيا على أنه لو اشترى نصيب صاحبه وضمه إلى نصيبه وأراده ; رده . والرجوع بنصف الثمن ، هل يجبر البائع على قبوله ( إن قلنا ) لا ، وجب الأرش وإلا فكذلك في الأصح فقطعه هنا بأن الرضا يحصل به اليأس مخالف لما ذكر هناك . وأما قوله : إن الأصح وجوب الأرش إذا لم يحصل الرضا فهو فيه موافق لصاحب التهذيب ، وذلك مخالف لما صححه القاضي [ ص: 397 ] حسين ، والترجيح بين التصحيحين متوقف على تحقيق المأخذ في وجوب الأرش وهل هو اليأس أو لا ؟ والأول هو الذي يقتضيه كلام الشافعي رضي الله عنه وسأذكره عند ما إذا باع المبيع ثم اطلع على عيبه إن شاء الله تعالى وإذا تحقق ذلك ظهر أن الأصح ما قاله القاضي حسين وإلا فالأصح على ما قاله الرافعي والبغوي .

                                      ( فرع ) إذا أوجبنا الأرش للممنوع من الرد ، فهل هو أرش النصف ، أو نصف الأرش ؟ قد تقدم في كلام الماوردي في الاثنين ( الثاني ) وهو كذلك فإن الصفقة واحدة ، وأحد الوارثين يستحق نصف ما كان الميت يستحقه ، وهو مستحق عند تعذر الرد الأرش كاملا فيستحق أحد وارثيه عند تعذر الرد نصفه وأما أحد الموكلين في الشراء فمن حيث كون الصفقة واحدة اعتبارا بالوكيل على الأصح لنسبة مسألة الاثنين ، وفيه نظر من جهة أنهما لا يتلقيان استحقاق الأرش من غيرهما حتى ينقسم بينهما ، وإنما يثبت لكل واحد أرش نقصان ملكه وقد يكون أرش النصف أقل من نصف الأرش لأنا نثبته من قيمة النصف ، وقيمة النصف أقل من نصف القيمة .




                                      الخدمات العلمية