الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 311 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن لم يعلم بالعيب واشتراه ثم علم بالعيب ، فهو بالخيار بين أن يمسك وبين أن يرد ; لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له ذلك فثبت له الرجوع بالثمن كما قلنا في المصراة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) المشتري للعين المعيبة تارة يكون عالما بعيبها ، وتارة لا يكون . ( الحالة الأولى ) إن كان عالما فلا خلاف أنه لا يثبت له الخيار لرضاه بالعيب ، ولا يأتي فيه الخلاف المتقدم في المصراة إذا كان عالما بالتصرية ; لأن المستند في ثبوت الخيار هناك عند من يقول به : التعبد ، وإن ذلك خيار ثابت بالشرع كما تقدم ، وليس ههنا كذلك وهذه الحالة تؤخذ من مفهوم كلام المصنف رحمه الله فإنه شرط في الخلاف عدم العلم ، ومفهومه أن عند العلم لا خيار قال ابن حزم في كتاب مراتب الإجماع : واتفقوا على أنه إذا بين له البائع بعيب فيه وحد مقداره ، ووقفه عليه إن كان في جسم المبيع ، فرضي بذلك المشتري أنه قد لزمه وإلا رد له بذلك العيب .

                                      ( فرع ) فلو كان المشتري قد علم به ، ولكن لم يعلم أنه عيب يوكس الثمن ، ويوجب الفسخ . قال الماوردي : ولا رد له ; لأنه قد كان يمكنه عند رؤيته أن يسأل عنه . ولأن استحقاق الرد حكم ، والجهل بالأحكام لا يسقطها . قال : فلو كان شاهد العيب قديما وقال : ظننت أنه قد زال فلا تأثير لهذا القول ; لأن الأصل بقاء العيب ، ولو اختلفا في العلم بالعيب فالقول قول المشتري ; لأن الأصل عدمه ، قاله صاحب العدة .

                                      ( الحالة الثانية ) إذا لم يعلم بالعيب وهي منطوق مسألة الكتاب يثبت الخيار لما ذكره المصنف رحمه الله . وقياس ذلك على المصراة إن كانت التصرية عيبا ظاهرا بالقياس والجامع الذي ذكره المصنف ، [ ص: 312 ] وقد قدمنا أن الصحيح أن التصرية عيب . وإن لم تكن التصرية عيبا فمن باب الأولى ; لأن الخيار إذا ثبت بالتدليس بما ليس بعيب ، فثبوته بالتدليس بالعيب المحقق أولى . هكذا ذكره القاضي أبو الطيب ، وفيه نظر ; لأن الذي يقول بالتصرية ليس بعيب يجعلها كالشرط ويلحق الخيار فيها بخيار الخلف . وحينئذ قد يقال : لا يلزم من جعل التصرية التي هي من فعل البائع كالشرط جعل التدليس بالعيب الذي ليس من فعله . ولئن جعلنا التدليس بالعيب كذلك فالعيب إذا لم يعلم به البائع لا يمكن دعوى ذلك فيه ، ومع ذلك الخيار ثابت به . ولأجل ذلك الطريقة التي سلكها المصنف رحمه الله واقتصر عليها أولى في الاستدلال وأسلم عن الاعتراض . نعم هو إنما يأتي على قول الجمهور : إن التصرية عيب أما على القول الذي رجحه الغزالي في الوجيز أن الخيار فيها ملحق بخيار الخلف فلا ; لأن سبب الخيار في المصراة المقيس عليها إخلاف الشرط الملتزم ، ولم يوجد في مسألتنا . فالمصنف رحمه الله قد جعل الجامع بين المسألتين عدم حصول المبيع السليم فعلى ما اختاره الغزالي لا يأتي ، إلا أن يجعل ذلك مقيسا على الالتزام الشرطي وكذلك فعل هو في الوسيط تنزيلا لغلبة السلامة منزلة الاشتراط ، ثم لك أن تجعل الالتزام الشرطي أصلا يكتفى به كما اقتضاه كلامه في الوسيط ، ولك أن ترده إلى التصرية لورود النص فيها ، وقد اقتصر المصنف رحمه الله على الاستدلال بالقياس ، وفي المسألة حديث وإجماع ، أما الحديث فالذي ذكره بعد هذا بفصل في الخراج بالضمان ، فإن فيه أنه خاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم { وأنه رده عليه بالعيب } وسنتكلم عليه هناك إن شاء الله تعالى .

                                      وأما الإجماع فإنه لا خلاف بين المسلمين في الرد بالعيب على الجملة . واتفقوا على أن من اشترى شيئا ولم يبين له البائع العيب فيه ولا اشترط المشتري سلامة ولا اشترط الإخلاء به ، ولا بيع منه ببراءة ، فوجد به عيبا كان به عند البائع وكان ذلك العيب يمكن البائع معرفته وكان يحط [ ص: 313 ] من الثمن حطا لا يتغابن الناس بمثله في مثل ذلك البيع ، في ذلك الوقت ، يعني وقت عقد البيع ، ولم يتلف عين المبيع ولا نقصها ، ولا تغير اسمه ولا تغير سوقه ، ولا خرج عن ملك المشتري كله ولا بعضه ، ولا أحدث المشتري فيه شيئا ولا وطئا ولا غيره ، ولا ارتفع ذلك العيب ، وكان البائع قد نقد فيه جميع الثمن فإن للمشتري أن يرده ويأخذ ما أعطى فيه من الثمن ، وإن له أن يمسكه إن أحب ، واختلفوا فيما عدا كل ما ذكرناه بما لا سبيل إلى ضبطه بإجماع جاز انتهى . وادعى القاضي أبو الطيب إجماع المسلمين على التسوية بين الغاش الخائن وغيره ولعل المصنف رحمه الله إنما اقتصر على القياس . ولم يذكر الحديث والإجماع ، لأن الحديث فيه رد بعيب ، وذلك حكاية حال لا دلالة لها على العموم ولا إجماع مقيد بالقيود المذكورة ، أو أكثرها فكان الاستدلال بالقياس أشمل ، وبالجملة الرد بالعيب في الجملة لا شبهة فيه ، قال الشيخ أبو حامد : ولا يخفى أن المراد العيب الموجود عند العقد ، أما لو وجد العيب وزال قبل القبض فلا خلاف أنه لا حكم له ، وكذلك لو زال بعد البيع وقبل القبض .

                                      ( فرع ) ولي الطفل إذا اشترى له شيئا فظهر به عيب ، فإن كان الشراء بعين المال فهو باطل ، وإن كان في الذمة نفذ في حق الولي ، فإن اشترى سليما فحدث به عيب قبل القبض فإن كان الحظ في الإمساك أمسك أو في الرد رد ، فإن ترك الرد فإن كان اشترى في الذمة انقلب إليه ، ولزمه الثمن من مال نفسه وإن كان بغير مال الطفل بطل العقد ، قاله صاحب التتمة ، والله تعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية