الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 73 ] قال المصنف رحمه الله تعالى : ( والرابع ) ما يكون في نور يتناثر عنه النور كالتفاح والكمثرى ، فاختلف أصحابنا فيه ، فقال أبو إسحاق والقاضي أبو حامد : هو كثمرة النخل إن تناثر عنه النور فهو للبائع ، وإن لم يتناثر عنه فهو للمشتري ، وهو ظاهر قوله في البويطي ، واختيار شيخنا القاضي أبي الطيب رحمه الله ; لأن استتارها بالنور كاستتار الثمر في الطلع ، وتناثر النور عنها كتشقق الطلع عن الثمرة ، فكان في الحكم مثلها ، وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني : هو للبائع ، وإن لم يتناثر النور عنها ; لأن الثمرة قد ظهرت بالخروج من الشجر ، واستتارها بالنور كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بما عليها من القشر الأبيض ، ثم ثمرة النخل بعد خروجها من الطلع للبائع مع استتارها بالقشر الأبيض ، فكذلك هذه الثمرة للبائع مع استتارها بالنور

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) النور الزهر على أي لون كان ، وقيل : النور ما كان أبيض ، والزهر ما كان أصفر ، والكمثرى بضم الكاف . ( أما الأحكام ) فإذا باع أصل التفاح والكمثرى والسفرجل والإجاص والخوخ والمشمش ، وما جرى مجراه مما يخرج في نور ، ثم يتناثر عنه النور ، فالمشهور أنه إذا باع الأصل وقد خرج وردها وتناثر وظهرت الثمرة فهي للبائع ، إلا أن يشترط المبتاع ، وإن لم يتناثر وردها ولم تظهر الثمرة ولا بعضها فهي للمشترط ; لأن الثمرة مغيبة في الورد ، وتظهر بعد تناثره ، فهي في ذلك كثمرة النخل في التأبير وعدمه ، وهو ظاهر قوله في البويطي ; لأنه قال في آخر باب السلف قبل باب الوديعة : وحكم الإبار في التفاح واللوز والفرسك إذا خرج منه وتحبب ، ونقل ذلك عن أبي إسحاق المروزي في الشرح ، والقاضي أبي حامد في جامعه ، وأبي علي بن أبي هريرة وهو اختيار القاضي أبي الطيب كما قال المصنف ، قال في تعليقه : وغلط الشيخ أبو حامد الإسفراييني فقال : ظهور الورد بمنزلة ظهور الثمرة ، واحتج بأن الشافعي رضي الله عنه قال : حكم كل ثمرة خرجت بارزة ترى في أول ما تخرج كما ترى في آخره ، فهو في معنى ثمرة النخل بارزا من [ ص: 74 ] الطلع ، وغلط فيه ; لأن هذا أراد به ما لا ورد له ، مثل العنب والتين ; لأن هذا الذي يخرج بارزا ، وأما ما يخرج في الورد فليس ببارز ، وإنما هو في جوف الورد وقد فسر ذلك في الصرف وذكرت لفظه فسقط قول هذا القائل ، انتهى كلام القاضي والذي ذكره من لفظ الشافعي في الصرف قال : ما كان من الثمر يطلع كما هو لا كمام عليه أو يطلع عليه كمام ثم لا يسقط كمامه ، فطلوعه كإبار النخل ; لأنه ظاهر .

                                      وهذا إنما يرد على الشيخ أبي حامد بمفهومه ، فإن منطوقه يدل على أن ما لا كمام عليه كالتين والعنب أو عليه كمام لا تسقط كالموز والرمان ، فالطلوع في القسمين بمنزلة التأبير ، أما كون الطلوع في غيرهما ليس بمنزلة التأبير فليس ذلك بالمنطوق ، بل قد يقال : إنه يدل للشيخ أبي حامد لإطلاقه أن ما لا كمام عليه يكون طلوعه كالتأبير ، والذي يخرج في نور لا كمام عليه ، وإن كان مستترا بالنور ، غير أن هذا يبعده قوله : كما هو ، فإنه يشعر لا شيء عليه من كمام ولا غيره وقد ذكر الشيخ في تعليقه ما نقله عن القاضي أبي الطيب فقال : إن الذي ذهب إليه شيوخ أصحابنا أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة وغيرهما أنها للمبتاع ، ولولا أنى لا أحب مخالفة كان ظاهر المذهب والأشبه بالسنة أن الأنوار إذا ظهرت للبائع ، إلا أن يشترط المبتاع ، كالطلع إذا تشقق أو أبر ، وذكر كلام الشافعي رضي الله عنه الذي تقدم ثم قال : وأما معنى السنة فقوله عليه الصلاة والسلام : " { من ابتاع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع ، إلا أن يشترط المبتاع } " لما جعل ثمرة النخل للبائع إذا ظهر عند الطلع ، وذلك الظاهر نور يتفتح ، فإذا تناثر انعقدت الثمرة بعده كانت الأنوار كالطلع ; لأن النور يتناثر ثم تنعقد الثمرة بعد ذلك ، وفيه نظر ، انتهى كلامه .

                                      والحق أنه لا حجة له في كلام الشافعي ، فإن الشافعي رضي الله عنه إنما حكم بذلك في الثمرة التي تخرج بارزة ترى في أولها كما ترى في آخرها ، وما يخرج في نور ليس يرى في أوله كما يرى في آخره فكيف يحمل عليه ، أو يقال : إنه مندرج فيه ، وما استدل به من الحديث وما أشار إليه وذكره المصنف له من استتار ثمرة النخل [ ص: 75 ] بعد التأبير بما عليها من القشر الأبيض ، فإن ذلك يرجع إلى تحقيق مناط ، فإن الشيخ أبا حامد يقول : إن ثمرة النخل بالتأبير لا تظهر ، وإنما يظهر ما يجري مجرى ورد سائر الأشجار ; لأنه إذا تشقق الطلع ظهر ما فيه مثل الليف ، وفيه حب صغار مثل الذرة وليس ذلك هو الثمرة ، وإنما الثمرة في جوف ذلك الحب ترى مثل الشعرة ، كما ترى ثمرة سائر الأشجار من بين الورد فإن كان الأمر كما قال الشيخ أبو حامد من أن ثمرة هذا الضرب الذي نحن فيه ترى من بين الورد ، وأن ثمرة النخل مثلها ، فينبغي أن يكون الحق معه ، وإلا فالحق مع القاضي أبي الطيب ومن وافقه ، وهذا ليس اختلافا في فقه ، بل يرجع إلى أمر محسوس ومثله يقطع بإدراك الصواب فيه ، والظاهر الذي تدل عليه المشاهدة أن الأمر كما قال أبو حامد ، وأراد المصنف من الاستتار بالقشر الأبيض وبالنور ما حكيناه عن الشيخ أبي حامد ، وإلا فظاهره أنها مستترة كلها ، وذلك يخالف ما تقدم من إلحاقها قبل التأبير بالحمل لاستتارها ، وبعد التأبير بالولد المنفصل لظهورها ، والذي صححه الرافعي في ذلك أنها للمشتري ، هكذا للمحرر والروضة ، ويشعر به كلامه في الشرح وقال : إن الآخر أرجح عند أبي القاسم الكرخي وصاحب التهذيب ، وجعل أكثر الأصحاب الضابط في ذلك تناثر النور كما تقدم .

                                      وقال القاضي حسين عن الأصحاب : إن ذلك يخرج أولا نورا ثم يتشقق ثم يتناثر ذلك ، ثم تنعقد الحبات كالمشمش والخوخ والتفاح ونحوها ، قال : فما لم تنعقد الحبات فيه يتبع الأصل في البيع ، وإذا انعقدت حباته لا يتبع الأصل في البيع مطلقا ولا يدخل إلا بالشرط ، وكأن القاضي أخذ ذلك عن القفال ، فإن الروياني حكى عن القفال أنه إذا تحببت ثمارها فهي للبائع ، وإن كان النور باقيا عليها ، وإن لم تتحبب فالنور كالورق . هذه عبارته ويجيء من مجموع ذلك ثلاثة أوجه : ( الأول ) أنها للبائع بمجرد الظهور وهو قول أبي حامد . ( والثاني ) أن الاعتبار بالتحبب وهو قول القفال . ( والثالث ) أن الاعتبار بتناثر النور ، وهو المذهب ، لقول الشافعي [ ص: 76 ] رضي الله عنه في البويطي : إذا خرج من النور وتحبب ، وقد يقال : ظاهر النص يقتضي اعتبار مجموع الأمرين ، لكن الظاهر أن التحبب يكون قبل التناثر ، فذكر التناثر يغني عنه ، وفي البحر أن الأصح ما قاله القفال رضي الله عنه وكذلك قال الخوارزمي في الكافي : إنه لا اعتبار بتناثر النور على الأصح وذكر ابن الصباغ أن المحاملي في المجموع ذكر هذه الحكاية التي حكيناها عن أبي حامد ، وأنها ليست مذكورة في التعليق الأخير عنه ، وهذا عجب من ابن الصباغ ، فإن شيخه أبا الطيب ذكرها عنه ، فكان ذكرها من جهته أولى ، وهي في التعليقة الموجودة عندنا ، وأما عدم ذكرها في التعليقة الأخيرة فلا يدل .

                                      ( تنبيه آخر ) أكثر الأصحاب جعلوا المشمش والتفاح والخوخ من هذا القسم الذي نحن فيه ، وتكلموا فيها كلاما واحدا كما تقدم ، وإمام الحرمين سلك طريقة أخرى فجزم بأن الخوخ والمشمش وما في معناه مما الأزهار محتوية عليه للمشتري في مطلق البيع . والتفاح والكمثرى وما في معناه مما لا تحتوي أزهاره على الثمار ، ولكنها تطلع والثمرة دونها ، قال : فما كان كذلك مال العراقيون إلى أنه للبائع ، ومن أصحابنا من قال : للمشتري لعدم الانعقاد ، قال : وهذا هو الذي ذكره الصيدلاني . وهذه الطريقة التي ذكرها الإمام مخالفة لما قاله أكثر الأصحاب ولنص الشافعي الذي نقلناه عن البويطي ، فإنه جعل حكم الإبار في التفاح والفرسك شيئا واحدا ، والفرسك هو الخوخ ، والإمام قد جعل حكمه مخالفا لحكم التفاح ، ثم إن الإمام نقل مثل العراقيين إلى أنه للبائع والعراقيون كما رأيت على أنه قبل تناثر النور للمشتري إلا الشيخ أبا حامد ولعل الإمام رأى كلام أبي حامد فنسب ذلك إلى العراقيين كما تقدم له مثل ذلك في الجوز .

                                      ( فرع ) قال القاضي الماوردي : إن الكرم نوعان : نوع منه يبدو منه أنوار ثم ينعقد ، ومنه ما يبدو حبا منعقدا ، وقد تقدم الكلام في ذلك ، وعد الماوردي الرمان واللوز مع ذوي النور ، قال تاج الدين عبد الرحمن : والمشاهد في بلادنا خلاف ذلك في الرمان ، فإن نوره لا يكون سابقا له في أول الظهور وأما اللوز فكذلك هو عندنا ، وقال [ ص: 77 ] الرافعي : إن الرمان واللوز مما يخرج في نور يتناثر عنه النور ، وما ذكرناه من الحكم فيما إذا بيع الأصل بعد تناثر النور عنه ، فإن بيع قبله عاد الكلام السابق فيه ، يعني إما أن يباع بعد الانعقاد أو بعد التناثر ، فكلام الرافعي موافق للماوردي في أن الرمان له نور ، ولعله نوعان كالكرم وأطلق المتولي القول بأن العنب حكمه حكم النخيل ، قال : وإن كان على حبه قشر لطيف يتفتق ويخرج منها نور لطيف ; لأن مثل ذلك يوجد في غير النخيل بعد التأبير وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم للبائع ، وهذا ملاحظة منه للمعنى الذي لحظه أبو حامد فيما مضى ، وصاحب التتمة مال إلى موافقته فيه أيضا ، وقال : إن ثمرة هذه الأشجار تكون تحت غطاء ، ويفارقها ويخرج من تحتها النور والثمرة والنور على رأس الثمرة ، لكنه قسمه قسمين : قسم يكون له نور بغير كمام كالتفاح والكمثرى والسفرجل وهو الذي حكى كلام أبي حامد فيه ومال إلى موافقته . وقسم على ثمرها نور وتكون الثمرة بين كمام كالجوز واللوز والمشمش والإجاص ، قال : فقبل أن يخرج من الكمام ويتناثر نوره حكمه حكم الطلع قبل التأبير وهذا التفصيل قريب مما حكيناه عن الإمام . ( فرع ) تقدم في كلام الشافعي المحكي عن البويطي عد اللوز مع التفاح والفرسك فاعترض البندنيجي بذلك على قول الأصحاب : إن اللوز كالجوز ، قال : وهو سهو منهم فيه ، قال ابن الرفعة : ( فإن قلت : ) هل للشيخ أبي حامد جواب عن نصه في البويطي ( قلت : ) لعله يقول : اللوز نوعان : منه ما ينشق عنه قشره الأعلى على الشجر وهو المذكور في الأم ، ومنه ما لا ينشق قشره على الشجر وهو المذكور في البويطي ، وشاهد ذلك أنا نجد الفول وغيره كالفرك لا يمكن إزالة قشره عنه دون الأسفل ولا كذلك غير الفرك .

                                      ( فرع ) إذا باع أصلا عليه ثمرة ظاهرة ، وظهر ما في ثمرة العام بعد البيع ففيما حدث بعد البيع وجهان ذكرناهما في التأبير قاله صاحب البيان ، يشير إلى الوجهين المتقدمين عن ابن أبي هريرة وغيره ، وأنه لا فرق في ذلك بين النخل وغيره .




                                      الخدمات العلمية