الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن باع فحالا وعليه طلع لم يتشقق ففيه وجهان : ( أحدهما ) أنه لا يدخل في بيع الأصل ; لأن جميع الطلع مقصود مأكول ، وهو ظاهر ، فلم يتبع الأصل كالتين ( والثاني ) : أنه يدخل في بيع الأصل وهو الصحيح ; لأنه طلع لم يتشقق ، فدخل في بيع [ ص: 47 ] الأصل كطلع الإناث وما قاله الأول لا يصح ; لأن المقصود ما فيه وهو الكش الذي يلقح به الإناث وهو غير ظاهر ، فدخل في بيع الأصل كطلع الإناث ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الفحال بضم الفاء وحاء مهملة مشددة ، وآخره لام : ذكر النخل ، وقال ابن فارس : الفحال فحال النخل وهو ما كان من ذكوره فحلا لإناثه ، قال ابن قتيبة : وهو فحال النخل ولا يقال : فحل ، ولذلك اعترض معترض على الشافعي رضي الله عنه فإن الشافعي قال : وإن كان فيها فحول ، فقال هذا المعترض : إن هذا خطأ ; لأنه لا يقال في النخل فحل ، ولا في جمعه فحول ، وإنما يقال فحال وجمعه فحاحيل ، وأجاب الأصحاب بأن كل واحد منهما جائز في اللغة ، وقد ورد به الشعر . قال الشاعر :

                                      تأبري يا خيرة الفسيل تأبري من جيد فسيل إذ ضن أهل النخل بالفحول

                                      والكش بضم الكاف وبالشين المعجمة هو ما في بطون طلع الفحال الذي يلقح بها طلع الإناث . ( أما الأحكام ) فقال الأصحاب تبعا للشافعي : ( إذا كان في النخل فحول فإما أن تفرد الفحول بالبيع وإما أن يبيعهما معا فإن أفرد الفحول بالبيع فإما أن يكون قد تشقق شيء من طلعها أو لا ، فإن تشقق شيء من طلعها فالثمرة للبائع بلا شبهة ) وإن لم يكن تشقق شيء من طلعها ( فأحد ) الوجهين أنه للمشتري وهو الصحيح وقال المصنف في التنبيه والشيخ أبو حامد في تعليقه : إنه المنصوص ، وادعى بعضهم أنه ليس في المسألة نص .

                                      ( ومن أصحابنا ) من قال : للبائع ، مستدلا بأن ظهور طلع الفحال بمنزلة تشقق طلع الإناث ; لأنه ليس له ثمرة غيره بخلاف طلع الإناث فإن المقصود ما في جوفه ، فإذا لم يظهر بالتشقق يكون للمشتري وهذا أصح عند الماوردي والجرجاني في التحرير ورد الأصحاب ذلك بأن المقصود من طلع الفحال ليس هو الأكل ، بل الكش الذي يلقح به ، وهو غير ظاهر فهو كالإناث في التشقق سواء . قال الماوردي : هذان الوجهان مخرجان من اختلاف أصحابنا في [ ص: 48 ] طلع الإناث هل يقاس على الحمل قياس تحقيق ؟ أو قياس تقريب ؟ قال بعضهم : قياس تحقيق ، فعلى هذا لا يصير طلع الفحال مؤبرا إلا بالتشقق وقال آخرون بل قياس تقريب اعتبارا بالعرف فعلى هذا يصير طلع الفحال مؤبرا اعتبارا بالعرف ا هـ . ولو كان قد تشقق شيء من طلع الإناث وأفرد الذكور بالبيع وهي غير مؤبرة ففيها وجهان كالوجهين الآتيين فيما إذا أفرد ما لم يؤبر بالبيع ، قاله الفوراني وأما إذا جمع في العقد بين الفحول والإناث فإن كان قد تشقق شيء من طلع الإناث ; فطلع الكل للبائع على الوجهين اتفاقا ( أما ) على الصحيح ; فلأن الكل كطلع الإناث وأما على الوجه الآخر ، فإن طلع الإناث تشقق ، وطلع الفحال له بكل حال ، وقد جزموا على الصحيح ههنا أن طلع الفحول يتبع طلع الإناث ، وكان ينبغي أن يأتي فيها وجه بأن طلع الفحال للمشتري ، بناء على أن أحد النوعين لا يستتبع الآخر ، كما سنحكيه عن القاضي حسين والإمام في القسم الآخر لغير المتشقق فيه ، فهو كجنس آخر ، وهذا الكلام منه كالصريح بجريان الخلاف .

                                      وقال الجوري : إذا كان فيها فحول فقد اختلف أصحابنا ، فقال أبو حفص : إنما جعلت الفحول تابعة ; لأنها للأقل فالنادر يدخل في الغالب ; ولأن الغرض من طلع الفحال أكله غالبا ، فاستوى المؤبر منه وغيره ، وقال غيره : إذا تشقق شيء من الإناث فباقي الحائط وذكوره وإناثه تبع له ، وإذا تشقق شيء من الذكور فسائر ما بقي من الذكور والإناث تابع ، فهذا الكلام يقتضي أن أبا حفص وهو ابن الوكيل هو القائل بأن طلع الفحال للبائع بكل حال ، وأنه علل تبعيتها للإناث عند الاجتماع بهذه العلة وبعلة أخرى وهي الندرة ، غير أن التعليل بالندرة إنما يتم على ما هو المعهود غالبا ، فلو فرض كثرة الفحول زالت هذه العلة وإن لم يتشقق شيء منها أصلا لا من طلع الإناث ولا من طلع الفحول ، فعلى الصحيح الكل للمشتري ، وعلى الوجه الآخر طلع الإناث للمشتري والفحال للبائع . وقال القاضي حسين : على هذا الوجه فيه وجهان كما في طلع الإناث إذا كان من صنفين وتشقق البعض دون البعض ، وجمع بينهما [ ص: 49 ] في العقد ، وكذلك الإمام جعل تبعية الإناث للذكور كاستتباع النوع النوع ، وكذلك حكى الوجهين ، وقال : إن الأصح أن طلع الإناث لا يتبع طلع الفحول وإن كان طلع الفحول يتبع طلع الإناث ، وقال المتولي : إنه على هذا الوجه يكون الفحول والإناث كالجنسين ، فلا يجعل الإناث تبعا لها ، وإن كان قد تشقق شيء من طلع الفحول فقط فعلى الصحيح الطلع كله للبائع .

                                      وحكى في الحاوي وجها وصححه أن طلع الإناث لا يتبع طلع الذكور ، وإن كان طلع الذكور يتبع طلع الإناث ; لأن مقصود الثمار طلع الإناث ، وطلع الذكور يقصد لتلقيحه لا لنفسه ، وهذا الوجه هو الذي يدل عليه نص الشافعي رضي الله عنه كما سأبينه قريبا إن شاء الله تعالى ، فعلى هذا يكون حكمه كما سيأتي على الوجه الآخر ، وعلى الوجه الآخر طلع الفحول للبائع بالظهور وطلع الإناث للمشتري ، وينبغي أن يأتي فيه وجه أن طلع الإناث أيضا للبائع بناء على أن أحد النوعين يستتبع الآخر على قياس ما حكاه القاضي حسين ، إلا أن يتمسك بما تقدم عن صاحب التتمة أن الذكور مع الإناث على هذا الوجه كالجنسين وهو بعيد . واعلم أن عبارة المختصر : وإن كان فيها فحول بعد أن تؤبر الإناث فثمرتها للبائع ، وظاهر هذه العبارة إذا باع الفحول والإناث جميعا وقد أبرت الإناث فالكل للبائع ، وهي الصورة التي حكينا الاتفاق فيها على ذلك ، وأبدينا فيها احتمال وجه ، وعبارة الشافعي في الأم : ( ومن باع أصل فحل نخل أو فحول بعد أن تؤبر إناث النخل فثمرتها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ) وهذا يشبه عبارة المختصر إلا أن إطلاق عبارة الأم تصدق على ما إذا باع الأصل وحده بعد تأبير الإناث وهذا لا يستمر إلا على الوجه القائل بأنه إذا أفرد ما لم يؤبر يجوز إذا كان تأبر شيء من غير نوعه من ذلك الجنس ، ومفهومه يقتضي أنه إذا باع الفحل قبل التأبير يكون طلعه للمشتري ، كما ادعى المصنف في التنبيه أنه المنصوص وفي ظاهره إشكال ; لأنه يشمل ما إذا تأبر هو قبل أن تتأبر الإناث ، ولا يمكن القول بأن ذلك للمشتري ، فلذلك عبارة المختصر أبين .

                                      [ ص: 50 ] ثم قال الشافعي في الأم : ( ومن باع نخلا قبل أن تؤبر إناث النخل فالثمرة للمشتري ) وهذا النص يقتضي أن ثمرة الإناث لا تتبع ثمرة الفحول على خلاف ما قدمناه عن الأصحاب أنه إذا تشقق شيء من طلع الفحول يكون الطلع كله للبائع على الصحيح ، ويشهد للاحتمال الذي أبديته فيه ، هذا إن كان قول الشافعي نخلا بالنون والخاء المعجمة ، وإن كان بالفاء والحاء المهملة فأشذ ، فإنه حينئذ يقتضي أن الفحال إذا أفرد بالبيع وقد أبر ولم تؤبر الإناث أن طلعه للمشتري ولا قائل بذلك نعلمه من الأصحاب ، وإنما جوزت هذا الاحتمال في لفظ الشافعي ; لأنه أتى به في مقابلة من باع فحلا بعد أن تؤبر الإناث فقسيمه من باع فحلا قبل أن يؤبر ، وإن كان ذلك ليس بلازم - والله سبحانه وتعالى أعلم - ويؤيد ما قلته أن الشافعي قال أيضا في المختصر : ولو تشقق طلع إناثه أو شيء منه فهو في معنى ما أبر نخله ، فمفهوم هذا أنه لا يكتفى في ذلك بتشقق طلع الذكور .

                                      ( فائدة ) أطلق المصنف الوجهين في هذا الكتاب ، ولم ينسب شيئا منهما إلى النص ، وكذلك فعل القاضي أبو الطيب ، وفي التنبيه قال : وقيل : إن ثمرة الفحال للبائع بكل حال ، وهو خلاف النص ، وكذلك فعل الشيخ أبو حامد ، فهذا أحد المواضع التي يؤخذ منها ما اشتهر على ألسنة الفقهاء أن التنبيه مأخوذ من طريقة الشيخ أبي حامد ، والمهذب من طريقة القاضي أبي الطيب ، وذلك غير مستمر ، فسيأتي في تقسيم الشجر أنه تبع الشيخ أبا حامد ولم يتبع أبا الطيب ، لكن ذلك في صنعة التصنيف لا في النقل وفي ذلك الموضع يأتي كلام في مخالفته أبا حامد أو موافقته والظاهر عندي أنه لم يلتزم متابعة طريقة واحدة في كتاب منهما ، نعم إن كان ذلك في الأكثر فربما ، ويترك ذلك في بعض الأوقات لما يترجح عنده ، ولم أقف من نص الشافعي في الفحال إلا ما حكيته عن الأم والمختصر ، فيحتمل أن يكون الشيخ أبو حامد والمصنف وقفا على نص آخر أصرح منهما ، ويحتمل أنهما أخذاه من ذلك ، والله أعلم . ( فرع ) قال الماوردي : إذا أخذ طلع الفحال جاز بيعه في قشره ; لأنه من مصلحته ، وكان أبو إسحاق يمنع من بيعه حتى يصير بارزا ، قال : وليس هذا بصحيح ، ونسب الإمام الأول إلى معظم [ ص: 51 ] أصحابنا ، وذكر عن صاحب التقريب أنه ذكر في ذلك قولين ، وأنه بناهما على بيع الحنطة في سنبلها ، قال الإمام ، وهذا مقدح حسن .

                                      ( فائدة أخرى ) ادعى بعضهم أنه ليس في خصوص مسألة الفحال نص للشافعي ، وأنه لا يمكن أخذه من إطلاقه أن الإبار حد لملك البائع ; لأن الإبار عبارة عن إصلاح طلع الإناث بعد تشققه أو شقه بالكش الذي في طلع الفحال ، فلا إبار في الفحال ، فلا دخول له في هذا ، ولا يمكن حمل كلامه في التنبيه في قوله : وهو خلاف النص على نص الحديث ; لأن الحديث إنما يحمل على التأبير اللغوي ، وهو إنما يكون للإناث على ما سبق ، وجعل التشقق في معناه حكم شرعي من إلحاق الفقهاء بالمنصوص عليه فهو بكلام الشافعي أولى .

                                      ( فرع ) باع فحالا لا طلع عليه ، ثم أطلع قبل لزوم العقد ، قال في الاستقصاء : ( فإن قلنا : ) إنه كطلع الإناث فهو للمشتري ( وإن قلنا : ) إنه كالمؤبرة وقلنا : إنه يملك بالعقد أو موقوف فهو أيضا للمشتري ( وإن قلنا : ) إنه لا يملك إلا بالعقد وانقضاء الخيار فهو للبائع ; لأنه حدث والمبيع على ملكه .




                                      الخدمات العلمية