الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى : ( واختلفوا في بيع السكر بعضه ببعض ، فمنهم من قال : لا يجوز ; لأن النار قد عقدت أجزاءه ، ومنهم من قال : يجوز ; لأن ناره لا تعقد الأجزاء ، وإنما تميزه من القصب ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الوجهان المذكوران حكاهما الشيخ أبو حامد وابن الصباغ والبغوي والإمام والرافعي وجعلهما الرافعي كالدبس ، ومقتضى ذلك أن الأصح عنده المنع في السكر أيضا وكذلك قال في التهذيب إن الأصح أنه لا يجوز ، وكذلك نقل ابن الرفعة عن الأرغياني أنه قال في فتاوى النهاية بالبطلان في السكر والفانيذ والعسل المميز بالنار ، قال ابن الرفعة : وذلك قياس جزم العراقيين بمنع السلم في ذلك فإن باب الربا أحوط من باب السلم ، بدليل أنه يجوز السلم فيما لا يجوز بيع بعضه ببعض لأجل طلب المماثلة ، وظاهر المذهب الجواز في السكر على ما ذكره الشيخ أبو حامد ، وقال [ ص: 400 ] القاضي حسين : إنه الصحيح ، وكذلك يقتضيه إيراد الجرجاني ، ونقل ابن الرفعة عن البندنيجي أنه ظاهر المذهب ، وعن سليم أنه أظهر الوجهين ، وجزم في التعليق عن ابن أبي هريرة بالمنع ، وقال الماوردي : إن كانت للتصفية وتمييزه من غيره جاز ، وإن دخلت لعقد الأجزاء لم يجز .

                                      ( واعلم ) أنه قد يستشكل قول الشيخ وغيره : إن نار السكر لينة لا تعقد الأجزاء وإنما تميزه من القصب ، والسكر إنما يتميز من القصب بالعود الذي يعصر به ، فإذا وقع أحد العودين على الآخر وانعصر القصب تميز ، وفي بعض ما تكلم به على المهذب تأويل ذلك بأنه لا بد أن يبقى في السكر شيء من أجزاء القصب ، ويكثر ذلك حتى يحتاج إلى استخراجه ، فإذا أغلي بالنار سهل إخراجه ، فإن ما يبقى من أجزاء القصب يعلو على السكر عند الغليان ويسهل استخراجه ، فهذا معنى التمييز الذي قصدوه .

                                      وعلل القاضي حسين الجواز بأن لدخول النار فيه حدا ونهاية ، وعلله الإمام بأن الانعقاد من طباع السكر كما حكيناه ، وقيده الماوردي فقال في السكر والفانيذ : إن ألقي فيهما ماء أو لبن أو دقيق أو غيره فلا يجوز بيع بعضه ببعض ، وإلا فينظر ، فإن دخلت النار فيهما لتصفيتهما وتمييزهما من غيرهما جاز ، وإن دخلت لاجتماع أجزائه وانعقادها فلا .

                                      ( قلت ) : أما تقييده بما إذا لم يكن فيه ماء أو لبن أو دقيق أو غيره فيمكن أن يكون إطلاق الأصحاب منزلا عليه ; لأنه حينئذ يصير بيع السكر وغيره بمثله ، قال ابن الرفعة : وما قاله فيه نظر ; لأن السكر لا بد من إذابة أصله بالماء ليحل ثم يطبخ ، ونصب عليه بعد غليانه اللبن ليبيضه ويزيل وسخه ، وذلك يقتضي منع بيع بعضه ببعض على طريقه .

                                      ( قلت ) : وكلام الماوردي يقتضي أنه لم يتحدد عنده حال السكر ولا حال تأثير النار فيه ، فأما حكمه بالمنع عند اختلاطه بغيره وما ذكره ابن الرفعة من أن ذلك لا بد منه فهو يقتضي قوله بالمنع فيه وهو القياس ، فإن الخليط الذي فيه من الدقيق واللبن مانع من التماثل ، أما الماء ففيه نظر ، فإن الظاهر أنه لا يزيد في وزنه بعد الجفاف شيئا . والله أعلم . [ ص: 401 ] فرع ) بعد أن ذكر الإمام ما ذكر في السكر قال : وهذا الذي ذكرناه يعني من الخلاف جار في كل ما ينعقد ، كذا نقله عنه ابن الرفعة ، قال : وقد صرح بإجراء الخلاف في القند الفوراني ، وأجراه الإمام والغزالي في الفانيذ ، وأجراه الغزالي رحمه الله أيضا في القند وفي اللبأ



                                      ( فرع ) إذا بيع السكر فالمعيار فيه الوزن نص عليه الشافعي ومن الأصحاب نصر المقدسي وقد تقدم قول الجوري وتنبيهه على أن ذلك لا خلاف فيه وقال ابن أبي الدم : إن أبا إسحاق قال : يباع كيلا وجعل الوجهين فيه كالسمن ولم أر ذلك لغير ابن أبي الدم وعلل وجه أبي إسحاق على ما زعم بأن أصله الكيل وكأنه يعني العصير فإنه مكيل وبيع الفانيذ كبيع السكر بالسكر قاله الماوردي والقاضي حسين والبغوي والإمام والرافعي .



                                      ( فرع ) قال نصر المقدسي في الكافي : يجوز بيع السكر بالسكر وزنا إذا تساويا في اليبس والصفة ، فأما اشتراطه اليبس فصحيح وأما اشتراطه التساوي في الصفة ، فمشكل ، لأن ذلك غير شرط في الربويات ، بدليل أنه يجوز بيع التمر من نوع بالتمر من نوع آخر ، وما أشبهه ، وظاهر كلام نصر هذا أنه لا يجوز بيع السكر بالسكر إذا اختلفت صفتهما ، ولم أر من تعرض لذلك غيره ، ولا يجوز بيع قصب السكر بقصب السكر ولا بالسكر كبيع الرطب بالتمر أو بالرطب قاله البغوي والرافعي وهو الصواب .



                                      وقال الإمام : في السكر الفانيذ منهم من قال : هما جنس وهذا بعيد ; ومنهم من قال : جنسان ، فإن قصبهما مختلف ، وليس للفانيذ عكر السكر ، وأما السكر الأحمر الذي يسمى القوالب فهو عكر السكر الأبيض ومن قصبه ، وفيه مع ذلك تردد من حيث إنه مخالف صفة الأبيض مخالفة ظاهرة ، وقد يشتمل أصل واحد على مختلفات كاللبن ولعل الأظهر من جنس السكر . وقال القاضي حسين : إن بيع قصب الفانيذ بقصب الفانيذ جائز ، وبالفانيذ [ ص: 402 ] لا يجوز ، وبقصب السكر هل يجوز أم لا ؟ إن كانا من أصل واحد لا يجوز متفاضلا ، وإن كانا من أصلين يجوز متفاضلين ، وتابعه صاحب التهذيب على ذلك . ( قلت ) وهذا كلام عجيب فإن القصب كله الذي يعمل منه السكر الفانيذ جنس واحد .

                                      ( فرع ) لما ذكر الماوردي حكم السكر الفانيذ قال : وكذلك دبس التمر ورب الفواكه .

                                      ( فرع ) بيع الفانيذ بالسكر قال القاضي حسين : إن كان أصلهما واحدا فهو كبيع الفانيذ بالفانيذ ، وإن كان أصلهما مختلفا فيجوز كيفما كان . ( قلت ) وهذا مثل الأول فإن أصل السكر الفانيذ قصب واحد ، والظاهر أن القاضي رحمه الله تعالى قال ذلك لأنه ليس القصب في بلادهم .



                                      فائدة قال ابن الرفعة : إن النار في القند فوق النار في السكر الفانيذ ، لأن عصير القصب يوضع في قدر كبير كالخابية ، ويغلى عليه غليانا شديدا إلى أن تزول منه مائية كثيرة ، ويسمى ذلك صلقا ثم يطبخ في قدر ألطف من ذلك بكثير وتقوى ناره إلى أن تذهب مائيته ، فيوضع في أوعية لطاف فوق الأوعية التي يصب فيها السكر والنار فيه فوق النار في الذي يطبخ عسلا من ذلك الماء المصلوق في الخابية ، وكثيرا ما تقوى نار الذي يطبخ عسلا فتصير أجزاؤه إذا برد قريبا من عقد أجزاء القند ، عند ذلك يسمى بالجالس ، ويطبخ منه السكر كما يطبخ من القند ، لكن طعمهما متباين .

                                      وقال في موضع آخر : ومن عصير قصب السكر يتخذ العسل المرسل ، ويتخذ القند ، وعن القند ينفصل العسل المسمى بالقصب ، وهو ما يقطر من أسفل أناليلج القند بعد أخذه في الجفاف ، والقند يختلف في الجودة [ ص: 403 ] والرداءة بحسب تبريد القصب وجودة الطبخ ، ومن الطيب من القند يتخذ السكر وإذا جمد استقطر ما فيه من العسل من ثقب في أسفل الإجانة التي يوضع فيها بعد طبخه ، وهذا العسل يسمى كما قال القاضي أبو الطيب بعسل الطبرزد . ونحن نسميه بالقطارة وهو يتنوع بحسب تنوع السكر الذي يستقطر منه . وأنواع السكر ثلاثة : الوسط وهو أدونه ومن أعلا إناء يتجه يكون الآخر لأن القطارة تنحبس فيه والعالي وهو فوق ذلك في الجودة والمكرر هو أعلا الثلاثة لأنه يطبخ مرة ثانية من السكر الوسط والسكر النبات يطبخ من السكر الوسط أيضا لكنه يجعل في قدر من الفخار قد صلب فيه عيدان من الجريد رقاق ليثبت فيها السكر وما يخرج منه من عسل عند كمال نباته يسمى بقطر النبات . الفانيذ تارة من السكر غير النبات وتارة من العسل المسمى بالمرسل المطبوخ من ماء القصب في أول أمره وطبعه مخالف طبع السكر ، ولونه يخالف لونه ، والاسم مختلف لكن الأصل فيها واحد القصب ، وعند ذلك يتقرر الخلاف في الفانيذ والسكر هل هما جنس واحد باعتبار [ أصلهما كما في عسل القند وعسل السكر المعبر عنه بالطبرزد أو جنسان باعتبار ] اختلاف الصفة والاسم ؟ فهذا فصل مفيد من كلام ابن الرفعة ، فإنه كان عارفا بذلك ، وكلام القاضي حسين وشبهه يدل على أنهم لم يحققوا الحال في ذلك ، لأنه ليس في بلادهم أو ليس لهم به خبرة والله أعلم .

                                      قال ابن الرفعة أيضا : وأما السكر الأحمر والأبيض والنبات فجنس واحد للاشتراك في الاسم الخاص ، وقرب الطباع ، وهل يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا ؟ فيه الخلاف السابق ، الفانيذ قد يجعل فيه شيء من الدقيق ، وعند ذلك إذا قلنا : هو والسكر جنسان لم يضر ( وإن قلنا ) جنس واحد فلا يجوز بيعه بالسكر إن لم ينظر إلى تأثير النار ، ولأنه من قاعدة مد عجوة ، وقال : ومع تفاوت النار في القند والسكر الفانيذ لم يذكر المصنف . يعني الغزالي فرقا بينهما . كما لم يفرق الأصحاب بين ذلك في السكر ، بل جوزوه في الجميع على رأي مرجح في الحاوي ، وممنوع على وجه جزم به العراقيون فوجه التسوية في الجميع أن للنار في ذلك حدا [ ص: 404 ] بحسب العرف ، فأحيل الحكم عليه ، وعلى هذا فقد يقال : الأمر كذلك في النار التي تدخل في الدبس ، وقد قطع فريق فيه بالمنع وإن حكي الخلاف في السكر ونحوه فما الفرق ؟ ويقال فيه : إن زيادة النار في السكر ونحوه تفسده فيحترز منها ، وزيادتها في الدبس ونحوه تصلحه فلا يحترز عنها ، فلذلك افترقا . قال : وإنما قلت ذلك لأني رأيت حكاية عن الأمالي أن تأثير النار في الشيء إن لم يكن له نهاية كالدبس فكلما كثر النار كان أجود ، وليس له نهاية إلى أن يتلابس فلا يصح بيع بعضه ببعض ، لأن تأثير النار في تنقيص رطوبته تتفاوت ، وإن كان له نهاية كالسكر الفانيذ ففيه وجهان .

                                      ( قلت : ) هذه الحكاية عن الأمالي ، وذكر الوجهين فيها لم أفهمه ، ولا يقع في كلام الشافعي رضي الله عنه ذكر وجهين ، فليتأمل ذلك إلا أن يكون المراد أمالي السرخسي .




                                      الخدمات العلمية