الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      [ ص: 120 - 121 ] وهذه النقابة موضوعة على صيانة ذوي الأنساب الشريفة عن ولاية من لا يكافئهم في النسب ولا يساويهم في الشرف ليكون عليهم أحبى وأمره فيهم أمضى .

                                      روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم فإنه لا قرب بالرحم إذا قطعت وإن كانت قريبة ولا بعد بها إذا وصلت وإن كانت بعيدة } .

                                      وولاية هذه النقابة تصح من إحدى ثلاث جهات : إما من جهة الخليفة المستولي على كل الأمور ، وإما ممن فوض الخليفة إليه تدبير الأمور كوزير التفويض وأمير الإقليم ، وإما من نقيب عام الولاية استخلف نقيبا خاص الولاية ، فإذا أراد المولى أن يولي على الطالبيين نقيبا أو على العباسيين نقيبا يخير منهم أجلهم بيتا وأكثرهم فضلا وأجزلهم رأيا فيولى عليهم لتجتمع فيه شروط الرياسة والسياسة فيسرعوا إلى طاعته برياسته وتستقيم أمورهم بسياسته .

                                      والنقابة على ضربين : خاصة وعامة : فأما الخاصة فهو أن يقتصر بنظره على مجرد النقابة من غير تجاوز لها إلى حكم وإقامة حد ، فلا يكون العلم معتبرا في شروطها .

                                      ويلزمه في النقابة على أهله من حقوق النظر اثنا عشر حقا : أحدها حفظ أنسابهم من داخل فيها وليس منها أو خارج عنها وهو منها ، فيلزمه حفظ [ ص: 122 ] الخارج منها كما يلزمه حفظ الداخل فيها ليكون النسب محفوظا على صحته معزوا إلى جهته .

                                      والثاني : تمييز بطونهم ومعرفة أنسابهم حتى لا يخفى عليه منهم بسنوات ولا يتداخل نسب في نسب ويثبتهم في ديوانه على تمييز أنسابهم .

                                      والثالث معرفة من ولد منهم من ذكر أو أنثى فيثبته ومعرفة من مات منهم فيذكره حتى لا يضيع نسب المولود إن لم يثبته ولا يدعي نسب الميت غيره إن لم يذكره .

                                      والرابع : أن يأخذهم من الآداب بما يضاهي شرف أنسابهم وكرم محتدهم لتكون حشمتهم في النفوس موفورة وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم محفوظة .

                                      والخامس : أن ينزههم عن المكاسب الدنيئة ويمنعهم من المطالب الخبيثة حتى لا يستقل منهم مبتذل ولا يستضام منهم متذلل .

                                      والسادس : أن يكفهم عن ارتكاب المآثم ويمنعهم من انتهاك المحارم ليكونوا على الدين الذي نصروه أغير ، وللمنكر الذي أزالوه أنكر ، حتى لا ينطلق بدمهم لسان ولا يشنأهم إنسان .

                                      والسابع : أن يمنعهم من التسلط على العامة لشرفهم والتشطط عليهم لنسبهم ، فيدعوهم ذلك إلى المقت والبغض ، ويبعثهم على المناكرة والبعد ، ويندبهم إلى استعطاف القلوب وتأليف النفوس ليكون الميل إليهم أوفى والقلوب لهم أصفى والثامن أن يكون عونا لهم في استيفاء الحقوق حتى لا يضعفوا عنها وعونا عليهم في أخذ الحقوق منهم حتى لا يمنعوا منها ليصيروا بالمعونة فهم منتصفين وبالمعونة عليهم منصفين ، فإن عدل السيرة فيه إنصافهم وانتصافهم .

                                      والتاسع : أن ينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم العامة في سهم ذوي القربى في الفيء والغنيمة الذي لا يختص به أحدهم حتى يقسم بينهم بحسب ما أوجبه الله تعالى لهم .

                                      والعاشر : أن يمنع أياماهم أن يتزوجن إلا من الأكفاء لشرفهن على سائر النساء صيانة لأنسابهن وتعظيما لحرمتهن أن يزوجهن غير الولاة أو ينكحهن غير الكفاة .

                                      والحادي عشر أن يقوم ذوي الهفوات منهم فيما سوى الحدود بما لا يبلغ به حدا ولا ينهر به دما ، ويقيل ذو الهيئة منهم عثرته ، ويغفر بعد الوعظ زلته .

                                      والثاني عشر : مراعاة وقوفهم بحفظ أصولها وتنمية فروعها ، وإذا لم يرد إليه جبايتها راعى الجباة لها فيما أخذوه وراعى قسمتها إذا قسموه وميز المستحقين لها إذا خصت وراعى أوصافهم [ ص: 123 ] فيها إذا شرطت حتى لا يخرج منهم مستحق ولا يدخل فيها غير محق .

                                      ( فصل ) وأما النقابة العامة فعمومها أن يرد إليه في النقابة عليهم مع ما قدمنا من حقوق النظر خمسة أشياء :

                                      أحدها الحكم بينهم فيما تنازعوا فيه .

                                      والثاني : الولاية على أيتامهم فيما ملكوه .

                                      والثالث : إقامة الحدود عليهم فيما ارتكبوه .

                                      والرابع : تزويج الأيامى اللاتي لا يتعين أولياؤهن أو قد تعينوا فعضلوهن .

                                      والخامس : إيقاع الحجر على من عته منهم أو سفه ، وفكه إذا أفاق ورشد ، فيصير بهذه الخمسة عامة النقابة ، فيعتبر حينئذ في صحة نقابته وعقد ولايته أن يكون عالما من أهل الاجتهاد ليصح حكمه وينفذ قضاؤه فإذا انعقدت ولايته لم يخل حالها من أحد أمرين : إما أن يتضمن صرف القاضي عن النظر في أحكامه أو لا يتضمن فإن كانت ولايته مطلقة العموم لا تتضمن صرف القاضي عن النظر في أحكامهم ولم يكن تقليد النقيب للنظر في أحكامهم موجبا لصرف القاضي عنها جاز لكل واحد من النقيب والقاضي النظر في أحكامهم ، أما النقيب فخصوص ولايته التي أوجب دخولهم فيها ، وأما القاضي فعموم ولايته التي أوجب دخولهم فيها ، فأيهما حكم في تنازعهم وتشاجرهم وفي تزويج أياماهم نفذ حكمه وجرى أمرهما في الحكم على أهل هذا النسب مجرى قاضيين في بلد فأيهما حكم نفذ حكمه بين متنازعين ولم يكن للآخر إذا كان بحكمه في الاجتهاد مساغ أن ينقضه ، وإن اختلف متنازعان منهم فدعا أحدهما إلى حكم النقيب ودعا الآخر إلى حكم القاضي ، فقد قيل إن الداعي إلى نظر النقيب أولى لخصوص ولايته ، وقيل بل هما سواء فيكونان كالمتنازعين في التحاكم إلى قاضيين في بلد فيغلب قول الطالب على المطلوب ; فإن تساويا كان على ما قدمناه من الوجهين :

                                      أحدهما يقرع بينهما ويعمل على قول من قرع منهما .

                                      والثاني : يقطع التنازع بينهما حتى يتفقا على أحدهما ، فإن كان في ولاية النقيب صرف القاضي عن النظر بين أهل هذا النسب لم يجز للقاضي أن يتعرض للنظر في أحكامهم سواء استعدى إليه منهم مستعد أو لم يستعد ، وخالف ذلك حال القاضيين في جانبي بلد إذا استعدى إليه من الجانب الآخر مستعد يلزمه أن يعديه على خصمه للفرق [ ص: 124 ] بينهما وذلك أن ولاية كل واحد من القاضيين محصورة بمكانه فاستوى حكم الطارئ إليه والقاطن فيه لأنهما يصيران من أهله .

                                      وولاية النقابة محصورة بالنسب الذي لا يختلف حاله باختلاف الأماكن ; فلو تراضى المتنازعان من أهل هذا النسب بحكم القاضي لم يكن له النظر بينهما ولا أن يحكم لهما أو عليهما لأنه بالصرف منهي عنه وكان النقيب أحق بالنظر بينهما إذا كان التنازع بينهم لا يتعداهم إلى غيرهم ، فإن تعداهم فتنازع طالبي وعباسي فدعا الطالبي إلى حكم نقيبه ودعا العباسي إلى حكم نقيبه لم تجب على واحد منهما الإجابة إلى حكم غير نقيبه لخروجه عن ولايته فإذا أقاما على تمانعهما من الإجابة إلى نقيب أحدهما ففيه وجهان : أحدهما يرجعان إلى حكم السلطان الذي هو عام الولاية عليهما إذا كان القاضي مصروفا عن النظر بينهما ليكون السلطان هو الحاكم بينهما إما بنفسه أو بمن يستنيبه على الحكم بينهما .

                                      والوجه الثاني : وهو أشبه أن يجتمع النقيبان ويحضر كل واحد منهما صاحبه ويشتركان في سماع الدعوى وينفرد بالحكم بينهما نقيب المطلوب دون الطالب لأنه مندوب إلى أن يستوفي من أهله حقوق مستحقيها ، فإن تعلق ثبوت الحق ببينة تسمع على أحدهما أو يمين يحلف بها أحدهما سمع البينة نقيب المشهود عليه دون نقيب المشهود له وأحلف نقيب الحالف دون نقيب المستحلف ليصير الحاكم بينهما هو نقيب المطلوب دون الطالب ، وإن تمانع النقيبان أن يجتمعا لم يتوجه عليهما في الوجه الأول مأثم وتوجه عليهما المأثم في الوجه الثاني وكان أغلظ النقيبين مأثما نقيب المطلوب منهما لاختصاصه بتنفيذ الحكم .

                                      فلو تراضى الطالبي والعباسي بالتحاكم إلى أحد النقيبين فحكم بينهما نقيب أحدهما نظر ، فإن كان الحاكم بينهما نقيب المطلوب صح حكمه وأخذ به خصمه . وإن حكم بينهما نقيب الطالب ففي نفوذ حكمه عليه وجهان : ينفذ حكمه في أحدهما ويرد في الآخر ، ولو أحضر أحدهما بينة عند القاضي ليسمعها على خصمه ويكتب بها إلى نقيبه وهو منصرف عن النظر بينهما لم يجز أن يسمع بينة وإن كان يرى القضاء على الغائب ، لأن حكمه لا ينفذ على من تقوم عليه البينة لو حضر فأولى أن لا ينفذ حكمه عليه مع [ ص: 125 ] الغيبة .

                                      ولو أراد القاضي الذي يرى القضاء على الغائب سماع بينة على رجل من غير عمله ليكتب بما ثبت عنده منها إلى قاضي بلده جاز .

                                      والفرق بينهما إن كان في غير عمله لو حضر عنده نفذ حكمه عليه فلذلك جاز سماع البينة عليه وأهل هذين النسبين إن حضر أحدهم عنده لم ينفذ حكمه عليه ، فكذلك لم يجز أن يسمع البينة عليه ، ولو كان أحد هذين أقر عند القاضي لصاحبه بحق جاز أن يكون القاضي شاهدا به عليه عند نقيبه ولم يجز أن يجبر به حكما لأن حكمه لا ينفذ عليه ، وهكذا لو أقر به عند غير النقيبين كان شاهدا فيه عند نقيبه ، جاز وكان حاكما عليه بإقراره ولو أقر به عند نقيب خصمه ففيه ما قدمناه من الوجهين يكون في أحدهما شاهدا ويكون في الوجه الآخر حاكما فيه لما بيناه من الفرق بين نقيب الطالب والمطلوب وهكذا القول في ولايات زعماء العشائر وولاة القبائل المنفردين بالولايات على عشائرهم وقبائلهم .

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية