الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن باع صبرة طعام بصبرة طعام ، صاعا بصاع ، فخرجتا متساويتين صح البيع ، وإن خرجتا متفاضلتين ففيه قولان ( أحدهما ) أنه باطل ، لأنه [ ص: 205 ] بيع طعام بطعام متفاضلا ( والثاني ) أنه يصح فيما تساويا فيه لأنه شرط التساوي في الكيل . ومن نقصت صبرته فهو بالخيار بين أن يفسخ البيع وبين أن يمضيه بمقدار صبرته ، لأنه دخل على أن يسلم له جميع الصبرة ولم يسلم له ، فثبت له الخيار )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) بيع الصبرة بالصبرة له حالتان ( إحداهما ) أن يكون جزافا ، وقد تقدم حكمه ( والثاني ) أن يكون مكايلة ، كما إذا باع صبرة طعام بصبرة طعام صاعا بصاع والكلام الآن فيه ، والمسألة هكذا كما ذكرها المصنف رحمه الله . منصوص عليها في الأم في باب المزابنة . قال الشافعي رضي الله عنه : ولو عقدا ببيعهما أن يتكايلا هذين الطعامين جميعا بأعيانهما مكيالا بمكيال فتكايلا فكانا مستويين جاز ، وإن كانتا متفاضلتين فقولان ( أحدهما ) أن للذي نقصت صبرته الخيار في رد البيع ، لأنه بيع شيء فلم يسلم له لأنه لا يحل له أخذه أو رد البيع ( والقول الثاني ) أن البيع مفسوخ لأنه وقع على شيء بعضه حرام وبعضه حلال فالبيع مفسوخ وبهذا أقول ، والقول الذي حكيت ضعيف ليس بقياس ، وإنما يكون له الخيار فيما نقص لا في الزيادة بعضه على بعض ، فأما فيما فيه ربا فقد انعقد البيع على الكل فوجدنا البعض محرما أن يملك بهذا العقد فكيف يكون له الخيار في أن يأخذ بعض بيعة وفيها حرام . هذا لفظ الشافعي - رحمه الله - بحروفه ، وتبعه أصحابه على ذلك القاضي أبو الطيب والقاضي الحسين والمحاملي والفوراني والشيخ أبو محمد والرافعي والعمراني وآخرون ، كلهم جزموا بالصحة فيما إذا خرجتا متساويتين . قال الشيخ أبو محمد في السلسلة : جائز قولا واحدا ، وأغرب الشاشي فقال في الحلية إن خرجتا متساويتين وقلنا عند التفاضل يبطل فهاهنا وجهان ( أحدهما ) يبطل قال : وليس بشيء . وينبغي أن يتوقف في إثبات هذا الخلاف في متابع فإني أخشى أن يكون حصل في ذلك وهم ، وانتقال من الفرع الذي سيأتي إذا تقابضا مجازفة وتفرقا ، ثم تكايلا وخرجتا سواء فهناك وجهان والله أعلم .

                                      [ ص: 206 ] وقد يستشكل الجزم بالصحة في ذلك ، فإن العلم بالمماثلة حالة العقد لم يوجد وهو شرط كما تقدم ، وحصول العلم في المجلس لا يكفي عندنا بدليل ما لو تبايعا جزافا ثم ظهر التساوي في المجلس لا يكفي ، وإن تخيل متخيل أن المقصود مقابلة كل صاع بصاع لا مقابلة المجموع بالمجموع فذلك باطل ; بل المقابلتان مقصودتان وانطباق الجملة على التفصيل غير معلوم عند العقد فيندرج تحت قوله صلى الله عليه وسلم " { لا تباع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام } " ونهيه عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها . وقد يعتذر عنه بأنه لما كانت المكايلة هنا مشترطة واجبة على البائع اكتفى بها وفارق بذلك التبايع جزافا ، فإن الكيل ليس واجبا فيه بحكم العقد فبطل ، وهذا العذر لا يفيد ، قوله : وإن خرجتا متفاضلتين فقولان كما تقدم في ذلك كلام الشافعي ، وقد رجح رضي الله عنه في كلامه الذي تقدم القول بالبطلان ولذلك قال البندنيجي فيما حكي عنه : إنه المذهب وصححه البغوي في التهذيب ، وخالفه ابن أبي عصرون فصحح في الانتصار وجزم في المرشد والأحكام المختارة بالصحة فيما تساويا فيه ، والمشهور البطلان ، وعلله البغوي بأنه قابل الجملة بالجملة ، وهما متفاوتتان ، وكلام الشافعي - رحمه الله - المتقدم يرشد إلى هذه العلة ، وفي المطلب أن المأخذ في ذلك النظر إلى عدم الصحة فيما إذا باع صبرة إلا قفيزا وأن القائل الآخر ينظر إلى أن ذلك لم يقع مقصودا ، وقال إن هذا أشبه من المأخذ الذي ذكره البغوي ، لأنه لا مقابلة مع اشتراط كيل بكيل وما قاله ممنوع مخالف لكلام الشافعي فإن المقابلة حاصلة .

                                      واعلم أن كلام الشافعي وما ذكره من العلة كالصريح في أنه بنى ذلك على قوله المعروف في منع تفريق الصفقة ، وهو الذي قال الربيع في كتاب الصلح من الأم أنه الذي يذهب إليه الشافعي ، ولكنه - لو قلنا بأن الصفقة تفرق - لم يطرد ذلك هنا ، لأنه لا جريان له في الربويات ، ألا ترى أنه لو باع درهما بدرهمين لم نقل بصحته في درهم مشاعا ؟ ولو قلنا بأنه يخير بكل الثمن وهذا أحد ما يستدل به لمنع تفريق الصفقة ، والضابط فيما يجري فيه خلاف تفريق الصفقة أن يكون الفساد تخلل في بعض المعقود عليه ، والفساد في الربويات [ ص: 207 ] إنما كان تخلل في العقد نفسه ، وكون هذه المقابلة محظورة من الشارع ، ونسبة ذلك إلى كل من أجزاء المبيع على السواء ، وأجزاء كل من العوضين صالحة لإيراد العقد عليها ، وكل منهما مستجمع شرائط البيع ، فلذلك لم يمكن القول بتفريق الصفقة فيه ، وفسد في الجميع قولا واحدا بخلاف المسائل التي يجري فيها خلاف تفريق الصفقة فإن بعض المعقود عليه فيها لم يستجمع شرائط البيع من حيث الفساد في المعقود عليه فأمكن القول بالإبطال فيه ، وتصحيح غيره . والحاصل أن الحرام في صورة تفريق الصفقة هو أحد الجزأين والهيئة الاجتماعية إنما حرمت لاشتمالها عليه . فإذا فرض الإبطال زال المقتضي لتحريمها وعقود الربا بالعكس من ذلك ، فإن المحرم فيها ليس واحدا من الجزأين ، وإنما المحرم الهيئة الاجتماعية ونسبتها إلى كل الأجزاء على السواء ، ولذلك بطل في الجميع .

                                      ( فإن قلت ) قول الشافعي رضي الله عنه بأنه وقع العقد على شيء بعضه حرام وبعضه حلال يخالف ما بطل في الجميع ( قلت ) ظاهره ذلك ، ولكن من تأمله إلى آخره علم ما قلته ، فإنه فرق بين الربوي وغيره ، وذلك الوصف مشترك بينهما فلا بد من تأويل كلامه وحمله على ما قلته غير ممتنع النظر ، وإن كان فيه بعض تعسف وقول الشافعي : إنما يكون له الخيار فيما نقص لا فيما لا ربا في زيادة بعضه على بعض إلى آخره ، يؤيده إذا باعه صبرة بعشرة دراهم مثلا ، كل صاع بدرهم وخرجت ناقصة عن العشرة ، فهاهنا يمكن أن يقال : إنه يصح في الصبرة بجميع العشرة ، لأنه لا ربا فيها ، ويثبت له الخيار ، وفيه مخالفة لما صححه صاحب التهذيب هناك ، فإنه صحح أنها متى خرجت ناقصة أو زائدة ببطلان البيع ، وعلله بأنه باع جملة الصبرة بعشرة ، وشرط مقابلة كل صاع منها بدرهم ، والجمع بينهما عند الزيادة والنقصان ممتنع ، وهذه العلة مطردة في مسألتنا أيضا ، لكن لا حاجة إليها لما تقدم ، وقد اتفقت طريقة الأصحاب على حكاية هذين القولين ، وفي تعليق الطبري عن ابن أبي هريرة قال وقد قيل : إنه إنما يكون البيع جائزا إذا كان ليس مما لا ربا فيه ، مثل [ ص: 208 ] الحمص وما أشبهه ، فأما ما فيه الربا فإنه قول واحد : البيع باطل لأنه بيع الطعام متفاضلا .

                                      ( التفريع ) إن قلنا بالصحة فيما تساويا فيه فيثبت الذي باع الصبرة الناقصة وهو مشتري الناقصة وهو مشتري الصبرة الكثيرة الخيار كما نص عليه الشافعي والأصحاب لما ذكره المصنف ، قال في المطلب : وفيه نظر من جهة أن مقابلة الشيء بمثله مقصود بالعقد فلم يغب عليه شيء وهذا النظر ضعيف لأن فيه إحالة لتصوير المسألة ، فإن صورتها أن تقع مقابلة الجملة بالجملة ، ولكن المماثلة مظنونة فإذا قامت المماثلة بطل الخيار وممن وافقنا على هذه المسألة والصحة عند التساوي وثبوت الخيار عند ظهور التفاضل الحنابلة .



                                      ( فرع ) لو تفرقا بعد تقابض الجملتين ، وقيل الكيل في المكيل ، والوزن في الموزون فهل يبطل العقد ؟ فيه وجهان في الإبانة والنهاية وغيرهما ونسبهما الروياني إلى القفال ( أصحهما ) على ما قاله البغوي في التهذيب والرافعي لا ، لوجود التقابض في المجلس ( والثاني ) نعم لبقاء العلقة بينهما ، وقال ابن الرفعة : إنه الأشبه قال : لأنه يجوز أن يقول : إن القبض جزافا في هذه لا يصح فقد تفرقا قبل التقابض ( قلت ) وقد بناهما الشيخ أبو محمد في السلسلة على أن القبض على هذه الصفة هل يصح أم لا ؟ وفيه وجهان ، وإذا نظرنا إلى هذا الأصل قوي القول ببطلان العقد لأن الشافعي وسائر الأصحاب المتقدمين والمتأخرين بل والشافعي بل وسائر العلماء جازمون بأن القبض فيما يباع مكايلة لا بد فيه من الكيل . وقال الشافعي رضي الله عنه في الأم : ومن ابتاع طعاما كيلا فقبضه أن يكتاله . وقال في مختصر البويطي في باب الصرف : والقبض من البيوع كل ما كان ينتقل مثل الصيد والعروض أو يوزن ويكال فقبضه الكيل والانتقال والوزن ، وقال في مختصر المزني : ولو أعطى طعاما فصدقه في كيله لم يجز ، ونقل ابن عبد البر في التمهيد أنه : لا خلاف بين جماعة العلماء في أنه لا يكون ما بيع من الطعام على الكيل والوزن مقبوضا إلا كيلا أو وزنا وأطلق الأصحاب ومن جملتهم الرافعي أن ذلك القبض فاسد ، وذكر المصنف [ ص: 209 ] المسألة في باب السلم وجزم أنه إذا اشترى منه طعاما بالكيل فدفع إليه الطعام من غير كيل لم يصح القبض .

                                      وحكى الرافعي في باب بيع الثمار أنه لو اشترى طعاما مكايلة وقبضه جزافا فهلك في يده ففي انفساخ العقد وجهان لبقاء الكيل بينهما ، لكنه في باب القبض أطلق القول بأنه يدخل في ضمانه ، واقتصر على حكاية الخلاف في كونه مسلطا على التصرف في القدر المستحق قال أبو إسحاق المروزي إنه يصح قال في البحر : وهذا أقيس وقال ابن أبي هريرة : لا يصح وادعى المصنف في باب السلم وأبو الطيب هنا أنه المنصوص وقال إمام الحرمين : إنه الذي قطع به شيخة وطوائف من الأصحاب . وقال الرافعي إن الجمهور عليه . ورد الشيخ أبو حامد والمحاملي ذلك على ابن أبي هريرة وقالا وغيرهما من الأصحاب : إن المراد بفساد القبض هاهنا أن القول قول القابض في مقداره . وهذا ليس محملا واضحا . قال : وإنما يستمر إطلاق الفساد ممن يمنع التصرف من القدر المستيقن . وسنوضح المسألة إن شاء الله تعالى في السلم حيث ذكرها المصنف ، والمقصود هنا أن الرافعي من القائلين بعدم صحة التصرف ، وذلك يقتضي عدم اعتباره القبض المذكور فينبغي على قياس ذلك ألا يعتبره في الصرف ، ويبطل العقد بالتفرق ، ويكتفى بصورة القبض ، وإن كان معتبرا من وجه كونه ناقلا للضمان على أشكاله ، لكن باب الربا يجب الاحتياط فيه ، وألا يكتفى إلا بما هو قبض تام ، ويعضده مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم " { لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء } " فاقتضى اشتراط ألا يبقى شيء من العلق ، ومن جملة ذلك الكيل .

                                      وقد أجاز الإمام فبنى الوجهين في بطلان العقد بالتفرق المذكور على الخلاف المذكور في أن التقابض على المجازفة هل يسلط على بيع ما استتبعته ؟ ( إن قلنا ) نعم لم يبطل العقد ، وإلا فوجهان ( أحدهما ) يبطل لنقصان القبض ( والثاني ) لا ، لجريانه واقتضائه لنقل الضمان ، وسبقه إلى ذلك الشيخ أبو محمد فقال : الوجهان يبنيان على أصل وهو أن القبض على هذه الصفة من غير مكايلة هل يكون قبضا صحيحا في انبرام العقد أم لا ؟ فعلى [ ص: 210 ] وجهين ( أحدهما ) صحيح لانتقال الضمان ( والثاني ) لا لعدم التصرف ( فإن قلت ) كيف يقال : إن القبض المذكور لا يكفي وقد قال صاحب البيان إن الشافعي قال في الصرف : إذا اشترى دينارا بدينار وتقابضا ، ومضى كل منهما يستعير الدينار الذي قبضه بالوزن جاز ، ونزله صاحب البيان على أن يكون كل واحد منهما عرف وزن الدينار فصدقه الآخر وتقابضا ، ويقتضي أن لا يبطل العقد بالتفرق حينئذ فيدل على أن القبض المذكور كاف كما قال الرافعي رحمه الله ( قلت ) قد تقدم الكلام مع صاحب البيان في ذلك ، وتأويل كلام الشافعي ، فتأمله هناك في الفروع السالفة أولا ، والله أعلم .

                                      ثم اعلم أن القبض من غير كيل له صورتان ( إحداهما ) أن يحصل مع اعتقاد المماثلة اعتمادا على خبر من يوثق به من أحد المتعاقدين أو غيره ( والثانية ) أن يحصل التقابض بالجزاف مع الجهل والتردد ( فأما ) هذه الصورة الثانية فيظهر فيها الحكم بفساد القبض ، وأن التفرق بعده قبل جريان قبض صحيح مبطل لبقاء علق العقد ولا يتحقق به بيع لازم في صبرة بصبرة لا يعلمان كيلهما ، وذلك مصادم للحديث ( وأما ) الصورة الأولى فوجه الحكم بفساد القبض فيها أن الاكتيال مستحق بالعقد ، لقوله صلى الله عليه وسلم " { من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله } " رواه مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " { نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه } رواه أبو داود والنسائي ، ولأن البائع شرط الكيل فيجب عليه الوفاء به ، على أن الشيخ أبا حامد في شرح قول الشافعي إذا أعطاه طعاما فصدقنا في كيله صور المسألة فيما إذا كان الطعام في الذمة أو اشتراه مشاعا من صبرة فعزل الذي عليه الطعام قدرا وقال : قد كلت هذا والحكم بعد الاكتفاء بذلك ظاهر ، وعليه يخرج ما نقلته فيه مما تقدم من موافقة صاحب البيان ، لكن القاضي أبا الطيب وصاحب الشامل جعلوا من صور المسألة إذا اشترى منه طعاما بعينه بكيل معلوم ، مثل أن يبيعه صبرة على أنها عشرة أقفزة ، ثم قبضه منه جزافا إن قال له : [ ص: 211 ] قد كلته أو هو عشرة أقفزة فقبل قوله وقبضه فإن القبض فاسد ، قال : لأن من شرطه الكيل لما قدمنا من السنة ، يريد بذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعثمان : " { إذا ابتعت فاكتل وإذا بعت فكل } " رواه البيهقي ، وقول جابر من رواية ابن الزبير " { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان : صاع البائع وصاع المشتري } " .

                                      ولولا الأحاديث المذكورة كان تقوي الفرق بين أن يكون الطعام في الذمة فلا يكتفي بالقبض المذكور ، وبين أن يكون معينا فيكتفي به . لكن السنة أحق بالاتباع لا سيما وقد عضدها الإجماع الذي يقتضي كلام ابن عبد البر نقله ، مع أن السنة غنية عن الاعتضاد بغيرها . ومهما ثبت في الطعام ثبت مثله في النقد بالقياس عليه ، فإن التقدير فيهما ، فظهر من هذا أن الراجح فساد القبض المذكور في هذه المسألة ، وفي الفرع المتقدم عن صاحب البيان في بيع الدينار بالدينار ، وأنه لا يكفي بذلك القبض ، وأنه يبطل العقد بالتفرق قبل الكيل والوزن ، والله سبحانه أعلم . ولا بد من مراجعة ما قدمته في بيع الدينار بالدينار في الفرق المذكور فيهما حتى يحصل الغرض من هذه المسألة إن شاء الله تعالى .

                                      ( فرع ) على هذا الفرع : إذا قلنا بما صححه صاحب التهذيب والرافعي أنه لا يبطل العقد بذلك ، فعلى هذا إن كيلتا بعد ذلك فخرجتا متساويتان صح ، وإن خرجتا متفاضلتين جرى الخلاف المذكور في أصل المسألة ، فعلى الصحيح من ذلك الخلاف يتبين بطلان العقد والقبض ، وعلى القول الآخر يصح ويثبت الخيار ( وإن قلنا ) بالوجه الآخر ، وهو أنه يبطل فلا فرق على ذلك بين أن يكالا بعد ذلك فيخرجا متساويتين أو متفاضلتين . وسلك القاضي حسين وصاحب التتمة ترتيبا آخر ليس بينه وبين ما تقدم اختلاف فقال : إذا تقابضا جزافا ثم تكايلا بعد التفرق - فإن خرجتا متفاوتتين - هل يجوز في القدر الذي تساويا فيه أم لا ؟ فيه قولان . وقال صاحب التتمة : وجهان ، إن قلنا لا يجوز فلأي معنى ؟ فيه معنيان ( أحدهما ) أنهما تفرقا وبقي بينهما علقة التقابض ، والباب باب ربا و ( الثاني ) لوجود الفضل في أحد البدلين ، وإن خرجتا متساويتين ( فإن قلنا ) لو خرجتا [ ص: 212 ] متفاوتتين يجوز فهاهنا أولى ، وإن قلنا هناك لا يجوز فهاهنا وجهان بناء على المعنيين ( إن قلنا ) المعنى فيه بقاء العلقة لم يجز ( وإن قلنا ) بالثاني جاز ، وذكر القاضي أن القولين فيما إذا خرجتا متفاوتتين قبل التفرق يبنيان على هذين المعنيين ، وليس في هذا زيادة على ما تقدم إلا حسن الترتيب والبناء ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) قال القاضي حسين : إذا كانت الصبرتان معلومتي المقدار متساويتين في القدر فقال أحدهما لصاحبه : بعت منك هذه الصبرة بهذه الصبرة فإنه يجوز ، قلت : ولا يحتاج في هذه الحالة في قبضها إلى كيل ، بل حكمه في القبض حكم الجزاف لأنه لم يشترط فيه الكيل ، والكيل إنما يشترط فيما بيع مكايلة لا أعلم في ذلك خلافا في المسألتين أنه يشترط الكيل فيما بيع مكايلة ، ولا يشترط فيما بيع مجازفة قال القاضي أبو الطيب : فأما إذا اشتراه جزافا فلا يحتاج إلى الكيل بالإجماع ، وما ذكره القاضي حسين من هذه المسألة واضح لا إشكال فيه . وقد نقل الإمام الشافعي في الأم بسنده إلى طاوس أنه كان يكره أن تباع صبرة بصبرة من طعام لا يعرف مكيلهما أو يعلم مكيلة إحداهما ، ولا يعلم مكيلة الأخرى ، أو يعلم مكيلتهما جميعا هذه بهذه ، وهذه بهذه ، قال : لا ، إلا كيلا بكيل يدا بيد ، فهذا يقتضي أن طاوسا يقول بالمنع في الصورة المذكورة ، وينبغي أن يحمل كلام القاضي حسين على أن الصبرتين معلومتا المقدار عند كل من المتبايعين ، فلو كانت كل واحدة منهما معلومة عند بائعها فقط جاء فيه البحث المتقدم في الدينارين ، والأحوال الأربعة التي قدمتها في الدينارين جارية في الصبرتين من غير فرق



                                      ( فرع ) إذا قال بعتك هذه الصبرة بكيلها من صبرتك ، وصبرة المخاطب كبيرة صح جزم بذاك القاضي حسين والبغوي والمتولي والرافعي ، وزاد القاضي في تصويرها أن يقول كيلا بكيل وقال ابن الرفعة : إنه يأتي فيه وجه أنه لا يصح أخذا مما إذا قال : بعتك صاعا من هذه الصبرة ، لأن المقابل بالصبرة الصغيرة غير متميز ، قال : ولا شك عندي فيه ، إذ لا فرق بين أن يكون الثمن نقدا أو من النوع . [ ص: 213 ] قلت ) وما جزم به القاضي والمتولي والرافعي يمكن فرضه فيما إذا كانت الصبرتان معلومتي المقدار ، فلا يأتي فيهما الوجه الذي أشار إليه ، وإن فرض فيما إذا كانت مجهولة ، فلعلهم إنما سكتوا عن ذلك تفريعا على ما هو المشهور في المهذب واكتفوا بذكره في موضعه ، وإلا فالذي قاله ابن الرفعة من التخريج متجه ، إذ لا فرق بين النقد وغيره ، ولا فرق بين أن يكون من الصبرة مبيعا أو ثمنا . وإذا ثبت أن ذلك صحيح قال الرافعي : فإن كالا في المجلس وتقابضا تم العقد وما زادت الكبيرة لصاحبها ، وإن تقابضا الجملتين وتفرقا قبل الكيل فعلى ما سبق من الوجهين ، والله عز وجل أعلم ، ومن جملة أمثلة المسألة أن يقول : بعتك هذه القطعة الذهب بقدرها من دينارك ، أو هذا الإناء الفضة بما يوازنه من فضتك يصح . قاله في التهذيب .



                                      فرع له تعلق بالكيل قال ابن أبي الدم : لو اشترى منه بمكيال فاكتاله بغير جنس ذلك المكيال لم يجز مثل أن يشتري منه مائة صاع من طعام فاكتاله بالقفيز لم يتم القبض ، فلو اشترى منه قفيزا من طعام فاكتاله منه بالمكوك الذي هو ربع القفيز ففيه وجهان وهذا لو اكتال الصاع بالمد ففيه وجهان ا هـ



                                      ( فرع ) لو باع صاعا من صبرة بصاع من صبرة أخرى جاز . قاله في الإبانة والتتمة ، وفيه من البحث ما تقدم ، ينبغي إن كانتا معلومتي الصيعان صح جزما وإن كانتا مجهولتين يأتي فيهما خلاف القفال الذي أشار إليه ابن الرفعة فيما تقدم ، والله تعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية