الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن قلنا ) : إن اللحم جنس واحد لم يجز بيع لحم شيء من الحيوان بلحم غيره متفاضلا ، وهل يدخل لحم السمك في ذلك ؟ فيه وجهان وقال أبو إسحاق [ ص: 181 ] يدخل فيها فلا يجوز بيعه بلحم شيء من الحيوان متفاضلا لأن اسم اللحم يقع عليه والدليل عليه قوله تعالى ( { لتأكلوا منه لحما طريا } ) ومن أصحابنا من قال : لا يدخل فيه لحم السمك وهو المذهب لأنه لا يدخل في إطلاق اسم اللحم ولهذا لو حلف لا يأكل اللحم لم يحنث بأكل السمك

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا قلنا : إن اللحمان كلها جنس واحد فلحم الإبل والبقر والغنم مع اختلاف أنواعها ، والوحوش كلها والطيور كلها جميع ذلك صنف واحد ، لا فرق فيه بين الوحشي والأهلي ، لا يجوز بيع شيء منه بآخر إلا مثلا بمثل ، فلا يباع لحم العصفور بلحم الجمل إلا سواء بسواء وكذلك بقيتها . وهكذا تحرم البحريات بعضها مع بعض كلها جنس واحد . وعلى هذا القول قال الفوراني : بل أولى ، ولعل الأولوية التي ادعاها من جهة أنه لم يثبت لأصولها حكم الأجناس المختلفة ، بخلاف لحمان البر ، فإن أصولها ثبت لها حكم الأجناس المختلفة كما تقدم . وأما السمك مع البريات ففيه وجهان حكاهما العراقيون الخراسانيون ( أحدهما ) وهو قول أبي إسحاق المروزي والقاضي أبي حامد والقاضي أبي الطيب وابن الصباغ ، وهو الذي أورده في التهذيب أنه من جنس سائر اللحوم ، وادعى القاضي أبو الطيب أنه الذي نص عليه الشافعي رحمه الله ، وأخذ ذلك من قوله في الأم الذي حكيته عنه قريبا - ومن قال بهذا لزمه عندي أن يقول في الحيتان : إن اسم اللحم جامع - ، واستدل القاضي أبو الطيب وغيره لهذا القول بقوله تعالى { ومن كل تأكلون لحما طريا } واستدل المصنف بالآية التي في الكتاب ، وهي أنص في الاستدلال ، لأنه أطلق فيها اللحم عليه بصراحة . وأما قوله { ومن كل تأكلون } فأطلق فيها ما في البر والبحر معا ، فجاز أن يكون للتغليب .

                                      ( والثاني ) وهو قول أبي علي الطبري واختيار الشيخ أبي حامد الإسفراييني والمصنف والمحاملي ، وقال : إن المنصوص أنها مستثناة من اللحوم [ ص: 182 ] وأنها معها جنسان ، وقال الروياني : إنه الأصح في القياس ، وعن البندنيجي وسليم أنه المذهب لأن لها اسما أخص من اللحم وهو السمك . وحمل الشيخ أبو حامد قول الشافعي المذكور على أنه ألزم من قال : اللحمان صنف أن يكون منها على سبيل الإنكار ، ولم يرتض أبو الطيب هذا . وحمل قول الشافعي - وهذا ما لا يجوز لأحد أن يقوله - على التمر ، وقد تقدم قول الشافعي رضي الله عنه ذلك . وأجاب أبو الطيب عن كون السمك أخص بأن اسم اللحم جامع بدليل الآية ، والراجح ما قاله الشيخ أبو حامد ومتابعوه ولا دلالة لأبي الطيب من كلام الشافعي رضي الله عنه بل هو محتمل لذلك ولما قاله أبو حامد . والجواب عن قول أبي الطيب عن اسم اللحم أنه وإن كان جامعا لكنه عند الإطلاق يتبادر الذهن منه إلى ما سوى لحم السمك ، والآية فيها قرينة تبين إرادته وهو قوله ( لتأكلوا منه ) أي من البحر ، فلم تتناوله مطلقا ، ومما يبين أن اسم اللحم عند الإطلاق لا ينصرف إلى السمك أنه لو حلف لا يأكل اللحم لم يحنث بأكل لحم السمك . كذا قال الشيخ أبو حامد والماوردي وغيرهما ، وهو الصحيح المشهور . وفيه وجه عن بعض الخراسانيين ، ولو كان يدخل في مطلقه لحنث به ، فإما أن يقول : إن صدق اللحم على لحم السمك بطريق المجاز . وإما أن يقول إنه عند الإطلاق يتقيد بما عدا السمك ، ولا يستبعد أن يكون إطلاق الشيء يدل على ما هو أخص من حقيقته ، كالماء المطلق يختص ببعض ما يسمى ماء . والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                      واحتج الأصحاب أيضا بأن السمك لا يضاف لحمه إليه فلا يقال لحم سمك ، وإنما يقال سمك فلا ينطلق عليه اسم اللحم ، ولو كان من اللحمان لصح أن يضاف باسم اللحم إلى جنسه ، فيقال لحم السمك كما يقال لحم الغنم ، فلما لم يصح أن يقال ذلك ثبت أنه ليس من جنس اللحمان . قال الماوردي : فعلى هذا الوجه يكون اللحمان كلها صنفين ، فلحوم حيوان البر على اختلافها صنف واحد ، ولحوم حيتان البحر على اختلافها صنف واحد [ ص: 183 ] واعلم أن كلام المصنف والأكثرين إنما فرضوه في السمك مع حيوانات البر ، وفي البحر أنواع من الحيوانات فهل الخلاف المذكور جار في جميعها ؟ أم كيف الحال فيها ؟ أما الفوراني فكلامه يقتضي تعميم ذلك الخلاف ، وأن الوجهين في لحمان البر مع لحمان البحر مطلقا وكذلك الإمام ، وأما القاضي حسين فتوقف فقال في السمك مع اللحم وجهان ، وأما حيوانات البحر فقد تقدم القول فيها إذا قلنا بأن اللحوم جنس واحد ، وأما على القول بأن حيوانات البر أجناس فلا شك في أن حيوانات البحر مخالفة لحيوانات البر ، وأما حيوانات البحر بعضها مع بعض ففيها خلاف ، وهذان القولان مبنيان كما قاله الفوراني وأفهمه كلام القاضي حسين والإمام ، على أن اسم السمك والحوت هل يشمل الجميع حتى يحل أكل خنزير الماء وكلبه أو لا ؟ فإن قلنا إن اسم السمك والحوت شامل للجميع كانت كلها جنسا واحدا ذا أنواع ( وإن قلنا ) إن اسم السمك والحوت لا يشمل الجميع فالحوت مع ما لا يسمى حوتا جنسان ، وما عدا الحوت أجناس أيضا ، فغنم الماء وبقره عند هذا القائل جنسان لا يطلق على الكل اسم السمك ، فهي أجناس مختلفة ، وجماعة من الأصحاب منهم الرافعي أطلق الخلاف في ذلك من غير بناء وهو أولى ، فإن الأصح أن اسم السمك يقع على جميعها .

                                      والأصح أنها أجناس كحيوانات البر ، كما هو ظاهر كلام الشافعي ، وفصل القاضي حسين فقال في السمك مع اللحم وجهان ، فأما سائر حيوانات البحر - إن قلنا إن السمك مع حيوانات البر جنسان - فسائر حيوانات البحر مع حيوانات البر أيضا جنسان ، بل أولى ، وإن قلنا إن السمك مع حيوانات البر جنس واحد فهل ينبني على أن الكل هل يسمى سمكا أم لا ؟ وفيه قولان ( إن قلنا ) الكل يسمى سمكا فحكم الكل حكم السمك وإلا فهي أجناس مختلفة ( قلت : ) والأصح على ما قاله صاحب التهذيب أن الكل يسمى سمكا فلذلك أتى المصنف وغيره بلفظ السمك لشموله للجميع ، والله أعلم .

                                      ثم فيما قاله القاضي حسين مناقشة ، وهي أن المدرك في استثناء السمك ، أنها اختصت باسم ، وهذا المعنى لا يوجد في بقية حيوانات البحر ، فينبغي ، [ ص: 184 ] أن يقال : إن قلنا السمك من جنس لحوم البر فبقية حيوانات البحر أولى ( وإن قلنا ) السمك جنس آخر ففي بقية حيوانات البحر وجهان مبنيان على أن الكل يسمى سمكا أو لا ؟ ( إن قلنا ) يسمى سمكا كانت من جنس اللحوم فيكون جنسا آخر ( وإن قلنا ) لا يسمى سمكا كانت من جنس اللحوم لعدم الاسم الخاص ، أعني أن لحمها ليس له اسم بخصوصه ، فإن صح هذا الترتيب فيجيء في حيوانات البحر ثلاثة أوجه : ( أحدها ) أنها من جنس اللحم مطلقا ( والثاني ) جنس آخر مطلقا ( والثالث ) أن غير السمك من جنس اللحم ، والسمك جنس آخر وهذه الثلاثة أوجه تفريع على أن اللحوم جنس واحد ، وحكم بيع اللحم باللحم على هذا القول سنذكره إن شاء الله تعالى في الفصل السادس بعد هذا الفصل .

                                      ( فرع ) عن التتمة على قول أبي إسحاق : الجراد هل يكون من جنس اللحم ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) نعم كالسمك ( والثاني ) لا ، لأن اسم اللحم لا يطلق على الجراد ، وصورته ليست صورة اللحم ، وإذا قلنا بقول أبي علي في أن السمك لا يدخل في اللحم فالجراد هل يلحق بحيوان البحر لحل ميتتهما ؟ ولأنه نقل في الآثار أن أصله سمك ؟ فيه وجهان ، ولخص الرافعي ذلك




                                      الخدمات العلمية