الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن كان مما يحرم فيهما الربا بعلتين ، كبيع الحنطة بالذهب والشعير بالفضة حل فيه التفاضل والنساء والتفرق قبل التقابض ، لإجماع الأمة على جواز إسلام الذهب والفضة في المكيلات والمطعومات ) .

                                      [ ص: 158 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 158 ] الشرح ) هذا قسيم قوله : فإن كان مما يحرم فيهما الربا بعلة واحدة والضمير في كان لا يمكن عوده على الثمن وحده ، لأنه لا يحرم الربا فيه وحده بعلتين ويعود ضمير التثنية عليه ولا إلى المبيع وحده كذلك ولا إليهما لامتناع عود الضمير المفرد إلى اثنين ، فتعين أن يكون عائدا إلى جنس ما اشتملت عليه الصفقة من الجانبين . وهو ما يحرم فيه الربا الذي هو قدر مشترك بينهما ، وهو الذي صدر به المصنف الفصل وهو قوله : فيهما أعاد الضمير على مثنى على معنى ما لأن المراد به التثنية وكان يجوز أن يعيده على لفظها فيقول : فيه والمراد بذلك حرمة الربا في كل منهما على الإفراد ، وأما المجموع حالة المقابلة المذكورة فلا يحرم فيه الربا أصلا ، لا بعلة ولا بعلتين وذلك واضح فلم تجتمع العلتان على حكم واحد بعينه بل الطعم علة لحرمة الربا في المطعومات فقط ، والثمنية علة حرمة الربا في النقد فالعلتان موجبتان لنوع حرمة الربا المقيد بذلك المحل .

                                      وعبارة المصنف أخص من عبارته في التنبيه على قوله : وإن لم يحرم فيهما الربا بعلة واحدة فإن ذلك شامل لما إذا باع الربوي بغير ربوي ، وإن كان التمثيل بعيدا والحكم لا يختلف وعبارته في المهذب خاصة بما إذا كان العوضان ربويين وأما غير الربوي فإنه أفرد له الفصل الذي قبل هذا فلم يحتج أن يدرجه في كلامه ولو كان مقصوده إدراجه في الكلام لجاءت الأقسام خمسة ، لأنه إما ألا يكون العوضان ربويين أو أحدهما ربويا دون الآخر ، وهذان القسمان لا يحرم فيهما شيء من أنواع الربا ، وإما أن يكونا جميعا ربويين . فإما ألا يكون العوضان من جنس واحد فيحرم فيهما جميع أنواع الربا ، وإما أن يكونا من جنسين ، فإما أن يشتركا في علة الربا أو يختلفا ، فإن اشتركا حرم النساء والتفرق ، وإن اختلفا لم يحرم شيء كما لو لم يكن أحدهما ربويا . إذا عرف ذلك فإذا باع الربوي بربوي آخر يخالفه في علة الربا حل فيه التفاضل والنساء والتفرق قبل التقابض ، لما ذكره المصنف - رحمه الله - وللإجماع المذكور نقله الشافعي - رحمه الله تعالى - في الإملاء ، واقتضاه كلامه في الأم والمختصر ولفظه في الإملاء أصرح قال فيه : لأن المسلمين أجمعوا على أن الذهب والورق يسلمان فيما سواهما وقال في الأم في باب الآجال في [ ص: 159 ] الصرف ( ولا أعلم المسلمين اختلفوا في أن الدنانير والدراهم يسلمان في كل شيء إلا أن أحدهما لا يسلم في الآخر ) وقال في مختصر المزني رحمه الله ( ولا أعلم بين المسلمين خلافا في أن الدينار والدرهم يسلمان في كل شيء ولا يسلم أحدهما في الآخر ) ا هـ .

                                      والاستدلال بجواز السلم على جواز النساء - إذا منعنا التسلم الحال - واضح . وأما إذا جوزناه فطريق تقريره قد تقدم في الصرف على الذمة ، فكل سلم هو بيع نسيئة ، وأما إن كل بيع نسيئة سلم فإنه ينبني على أنه إذا باع موصوفا في الذمة هل يكون سلما أو بيعا ؟ وفيه وجهان ( إن قلنا ) يكون سلما فصار السلم والبيع نسيئة شيئا واحدا فيقال على هذا في هذا القسم الذي نحن فيه : يجوز نقدا ونسيئا ولا يذكر بعد ذلك أنه يجوز إسلام أحدهما في الآخر ( فإن قلنا ) إنه يكون بيعا لا سلما ، فإنا نقول يجوز نقدا ونسيئا ، ويجوز إسلام أحدهما في الآخر . ذكر معنى ذلك أو قريبا منه الشيخ أبو حامد الإسفراييني وقال أيضا : ومعنى قولنا نقدا ونسيئا أن يقول : بعتك ثوبا صفته كيت وكيت إلى أجل كذا ، ولا يريد به أن يشتري عينا ، ويشترط تسليمه إلى أجل ، فإن هذا لا يجوز .

                                      ( قلت ) ولا ينحصر الفساد فيما قاله ، بل تارة يكون النساء في المبيع وصورته ما ذكر ، كما إذا قال : بعتك إردب قمح في ذمتي إلى شهر بهذا الدينار ، وتارة يكون في الثمن كما إذا قال بعتك هذا الإردب القمح بدينار في ذمتك إلى شهر ، وفي القسم الأول يشترط قبض رأس المال إذا جعلناه سلما . وفي القسم الثاني لا يشترط قبض واحد منهما لأنه بيع محض وكلام المصنف - رحمه الله - يحتمل كلا من المعنيين أن تكون الحنطة مبيعة في الذمة نساء بالذهب ، فيكون سلما على أحد الوجهين أو بيعا في معنى السلم على الوجه الآخر ، وحينئذ يكون الاستدلال بالإجماع في عين المسألة وهذا الذي يشعر به كلام الشيخ أبي حامد .

                                      ويحتمل أن يكون مراده بيع الحنطة المعينة بذهب في الذمة نساء ، وحينئذ لا يكون نساء فيكون حكمه مأخوذا من القياس على السلم الثابت بالإجماع فالإجماع المذكور دليل الأصل المقيس عليه ، ولما كان الإلحاق جليا بعد ثبوت [ ص: 160 ] الأصل المقيس عليه سكت عن ذكره ، ثم إذا جاز البيع نسيئة تبعه جواز التفرق قبل التقابض ، لأن كل عوضين حرم التفرق فيهما قبل التقابض حرم النساء فيهما ، وما لا فلا ، ولا ينتقض ببيع الجوهرة بالجوهرة ، فإنه يجوز التفرق قبل القبض إذا كانتا حاضرتين ، ولا يجوز النساء فيهما ، لأن التحريم في ذلك لا يرجع إلى النساء ، بل لكونه لا يضبط بالصفة فيكون المسلم مجهولا ، ولم أر أحدا من أصحابنا ولا من غيرهم ذكر خلافا في هذه المسألة أعني جواز بيع الحنطة بالذهب والشعير بالفضة نساء ولا أشعر به ، إلا أبا محمد بن حزم الظاهري فإنه قال في كتابه المسمى مراتب الإجماع : " واتفقوا على أن الابتياع بدينارين أو دراهم حالة في الذمة غير مقبوضة وبها إلى أجل محدود بالأيام أو الأهلة والساعات والأعوام القمرية ، ما لم يتطاول الأجل جدا جائز ، ما لم يكن المبيع شيئا مما يؤكل أو يشرب ، فإن الاختلاف في جواز بيع ذلك بالدراهم أو الدنانير إلى أجل موصوف ، وأما حالا فلا خلاف أن ذلك جائز ، واختلفوا فيما عدا الدراهم والدنانير في كلا الوجهين المذكورين ، فتضمن كلام ابن حزم إثبات خلاف في ذلك ، ويمكن أن يحتج له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بعد ذكره الأشياء الستة " { فإذا اختلفت هذه الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } " لفظ مسلم واختلاف الأصناف ، ويشمل اختلافهما على وجه تكون علة الربا فيهما واحدة أو متعددة وقد شرط في ذلك التقابض . وقال صاحب المغني من الحنابلة : ويحتمل كلام الخرقي وجوب التقابض على كل حال لقوله " { يدا بيد } " ا هـ واقتصار المصنف على المكيلات والمطعومات وإن كان الحكم عاما في جميع ما سوى الذهب والفضة كما يدل عليه عبارة الشافعي كان غرضه بذلك - والله أعلم - التنبيه على ما يخالف الذهب والفضة في العلة عندنا وعند الحنفية ، فعندنا المطعومات وعندهم المكيلات .




                                      الخدمات العلمية