الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الأول في معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النساء وتبيين علة ذلك

فنقول : أجمع العلماء على أن التفاضل والنساء مما لا يجوز واحد منهما في الصنف الواحد من الأصناف التي نص عليها في حديث عبادة بن الصامت ، إلا ما حكي عن ابن عباس ، وحديث عبادة هو قال : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى " ، فهذا الحديث نص في منع التفاضل في الصنف الواحد من هذه الأعيان . وأما منع النسيئة فيها فثابت من غير ما حديث ، أشهرها حديث عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب ربا ، إلا هاء وهاء ، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء " . فتضمن حديث عبادة منع التفاضل في الصنف الواحد ، وتضمن أيضا حديث عبادة منع النساء في الصنفين من هذه ، وإباحة التفاضل ، وذلك في بعض الروايات الصحيحة ، وذلك أن فيها بعد ذكره منع التفاضل في تلك الستة " وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد ، والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد " [ ص: 500 ] وهذا كله متفق عليه بين الفقهاء إلا البر بالشعير . واختلفوا فيما سوى هذه الستة المنصوص عليها ، فقال قوم منهم أهل الظاهر : إنما يمتنع التفاضل في صنف صنف من هذه الأصناف الستة فقط ، وأن ما عداها لا يمتنع الصنف الواحد ، منها التفاضل ، وقال هؤلاء أيضا : إن النساء ممتنع في هذه الستة أيضا فقط ، اتفقت الأصناف أو اختلفت ، وهذا أمر متفق عليه ( أعني : امتناع النساء فيها مع اختلاف الأصناف ) ، إلا ما حكي عن ابن علية أنه قال : إذا اختلف الصنفان جاز التفاضل والنسيئة ما عدا الذهب والفضة . فهؤلاء جعلوا النهي المتعلق بأعيان هذه الستة من باب الخاص أريد به الخاص . وأما الجمهور من فقهاء الأمصار ، فإنهم اتفقوا على أنه من باب الخاص أريد به العام . واختلفوا في المعنى العام الذي وقع التنبيه عليه بهذه الأصناف ( أعني : في مفهوم علة التفاضل ومنع النساء فيها ) . فالذي استقر عليه حذاق المالكية أن سبب منع التفاضل : أما في الأربعة : فالصنف الواحد من المدخر المقتات ، وقد قيل الصنف الواحد المدخر ، وإن لم يكن مقتاتا ، ومن شرط الادخار عندهم أن يكون في الأكثر ، وقال بعض أصحابه : الربا في الصنف المدخر ، وإن كان نادر الادخار . وأما العلة عندهم في منع التفاضل في الذهب والفضة فهو الصنف الواحد أيضا مع كونهما رءوسا للأثمان وقيما للمتلفات ، وهذه العلة هي التي تعرف عندهم بالقاصرة ، لأنها غير موجودة عندهم في غير الذهب والفضة .

وأما علة منع النساء عند المالكية في الأربعة المنصوص عليها فهو الطعم والادخار دون اتفاق الصنف ، ولذلك إذا اختلفت أصنافها جاز عندهم التفاضل دون النسيئة ، ولذلك يجوز التفاضل عندهم في المطعومات التي ليست مدخرة ( أعني : في الصنف الواحد منها ) ، ولا يجوز النساء .

أما جواز التفاضل ، فلكونها ليست مدخرة ، وقد قيل إن الادخار شرط في تحريم التفاضل في الصنف الواحد . وأما منع النساء فيها فلكونها مطعومة مدخرة ، وقد قلنا إن الطعم بإطلاق علة لمنع النساء في المطعومات .

وأما الشافعية : فعلة منع التفاضل عندهم في هذه الأربعة هو الطعم فقط مع اتفاق الصنف الواحد . وأما علة النساء فالطعم دون اعتبار الصنف مثل قول مالك .

وأما الحنفية : فعلة منع التفاضل عندهم في الستة واحدة وهو الكيل ، أو الوزن مع اتفاق الصنف ، وعلة النساء فيها اختلاف الصنف ما عدا النحاس والذهب ، فإن الإجماع انعقد على أنه يجوز فيها النساء ، ووافق الشافعي مالكا في علة منع التفاضل والنساء في الذهب والفضة ، ( أعني : أن كونهما رءوسا للأثمان وقيما للمتلفات هو عندهم علة منع النسيئة إذا اختلف الصنف ، فإذا اتفقا منع التفاضل ) ، والحنفية تعتبر في المكيل قدرا يتأتى فيه الكيل ، وسيأتي أحكام الدنانير والدراهم بما يخصها في كتاب الصرف ، وأما هاهنا فالمقصود هو تبيين مذاهب الفقهاء في علل الربا المطلق في هذه الأشياء ، وذكر عمدة دليل كل فريق منهم ، فنقول : [ ص: 501 ] إن الذين قصروا صنف الربا على هذه الأصناف الستة فهم أحد صنفين : إما قوم نفوا القياس في الشرع ( أعني : استنباط العلل من الألفاظ ) ، وهم الظاهرية ، وإما قوم نفوا قياس الشبه ، وذلك أن جميع من ألحق المسكوت هاهنا بالمنطوق به ، فإنما ألحقه بقياس الشبه لا بقياس العلة ، إلا ما حكي عن ابن الماجشون أنه اعتبر في ذلك المالية ، وقال : علة منع الربا إنما هي حياطة الأموال ، يريد منع العين . وأما القاضي أبو بكر الباقلاني فلما كان قياس الشبه عنده ضعيفا ، وكان قياس المعنى عنده أقوى منه اعتبر في هذا الموضع قياس المعنى ، إذ لم يتأت له قياس علة ، فألحق الزبيب فقط بهذه الأصناف الأربعة ، لأنه زعم أنه في معنى التمر ، ولكل واحد من هؤلاء ( أعني : من القائسين ) دليل في استنباط الشبه الذي اعتبره في إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من هذه الأربعة : وأما الشافعية : فإنهم قالوا في تثبيت علتهم الشبهية : إن الحكم إذا علق باسم مشتق دل على أن ذلك المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم مثل قوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ، فلما علق الحكم بالاسم المشتق وهو السارق علم أن الحكم متعلق بنفس السرقة . قالوا : وإذا كان هذا هكذا ، وكان قد جاء من حديث سعيد بن عبد الله أنه قال : كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الطعام بالطعام مثلا بمثل " . فمن البين أن الطعم هو الذي علق به الحكم .

وأما المالكية : فإنها زادت على الطعم إما صفة واحدة وهو الادخار على ما في الموطإ ، وإما صفتين وهو الادخار والاقتيات على ما اختاره البغداديون ، وتمسكت في استنباط هذه العلة بأنه لو كان المقصود هو الطعم وحده لاكتفى بالتنبيه على ذلك بالنص على واحد من تلك الأربعة أصناف المذكورة ، فلما ذكر منها عددا علم أنه قصد بكل واحد منها التنبيه على ما في معناه ، وهي كلها يجمعها الاقتيات والادخار . أما البر والشعير فنبه بهما على أصناف الحبوب المدخرة ، ونبه بالتمر على جميع أنواع الحلاوات المدخرة كالسكر ، والعسل ، والزبيب ، ونبه بالملح على جميع التوابل المدخرة لإصلاح الطعام ، وأيضا فإنهم قالوا : لما كان معقول المعنى في الربا إنما هو أن لا يغبن بعض الناس بعضا وأن تحفظ أموالهم ، فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش وهي الأقوات .

وأما الحنفية : فعمدتهم في اعتبار المكيل والموزون أنه - صلى الله عليه وسلم - لما علق التحليل باتفاق الصنف ، واتفاق القدر ، وعلق التحريم باتفاق الصنف واختلاف القدر في قوله صلى الله عليه وسلم لعامله بخيبر من حديث أبي سعيد ، وغيره : " إلا كيلا بكيل ، يدا بيد " ، رأوا أن التقدير ( أعني : الكيل ، أو الوزن ) هو المؤثر في الحكم كتأثير الصنف ، وربما احتجوا بأحاديث ليست مشهورة فيها تنبيه قوي على اعتبار الكيل ، أو الوزن . منها : أنهم رووا في بعض الأحاديث المتضمنة المسميات المنصوص عليها في حديث عبادة زيادة ، وهي : " كذلك ما يكال ويوزن " ، وفي بعضها : " وكذلك المكيال والميزان " ، هذا نص لو صحت الأحاديث ، ولكن إذا تؤمل الأمر من طريق المعنى ظهر - والله أعلم - أن علتهم أولى العلل ، وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه ، وأن العدل في المعاملات إنما هو [ ص: 502 ] مقاربة التساوي ، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدينار والدرهم لتقويمها ( أعني : تقديرها ) ، ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات ( أعني : غير الموزونة والمكيلة ) العدل فيها إنما هو في وجود النسبة ( أعني : أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشيء لآخر إلى جنسه ، مثال ذلك : أن العدل إذا باع إنسان فرسا بثياب هو أن تكون نسبة قيمة ذلك الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب ، فإن كان ذلك الفرس قيمته خمسون فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون ، فليكن مثلا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشرة أثواب ، فإذا اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجبة في المعاملة العدالة ، ( أعني : أن يكون عديل فرس عشرة أثواب في المثل ) .

وأما الأشياء المكيلة والموزونة : فلما كانت ليست تختلف كل الاختلاف ، وكانت منافعها متقاربة ولم تكن حاجة ضرورية لمن كان عنده منها صنف أن يستبدله بذلك الصنف بعينه إلا على جهة السرف ؛ كان العدل في هذا إنما هو بوجود التساوي في الكيل ، أو الوزن إذ كانت لا تتفاوت في المنافع ، وأيضا فإن منع التفاضل في هذه الأشياء يوجب أن لا يقع فيها تعامل لكون منافعها غير مختلفة ، والتعامل إنما يضطر إليه في المنافع المختلفة ، فإذا منع التفاضل في هذه الأشياء ( أعني المكيلة ، والموزونة ) علتان : إحداهما وجود العدل فيها ، والثانية منع المعاملة إذا كانت المعاملة بها من باب السرف . وأما الدينار والدرهم فعلة المنع فيها أظهر إذ كانت هذه ليس المقصود منها الربح ، وإنما المقصود بها تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية . روى مالك ، عن سعيد بن المسيب : أنه كان يعتبر في علة الربا في هذه الأصناف الكيل والطعم ، وهو معنى جيد لكون الطعم ضروريا في أقوات الناس ، فإنه يشبه أن يكون حفظ العين وحفظ السرف فيما هو قوت أهم منه فيما ليس هو قوتا . وقد روي عن بعض التابعين أنه اعتبر في الربا الأجناس التي تجب فيها الزكاة ، وعن بعضهم الانتفاع مطلقا ( أعني : المالية ) ، وهو مذهب ابن الماجشون .

التالي السابق


الخدمات العلمية