الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير

الدسوقي - محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي

صفحة جزء
باب في الشهادة وما يتعلق بها : الشهادة إخبار حاكم عن علم ليقضي بمقتضاه وإنما تصح شهادة العدل وبينه بقوله ( العدل ) أي حقيقته [ ص: 165 ] في عرف الفقهاء ( حر ) حال الأداء فلا تصح شهادة الرقيق أو من فيه شائبة رق ( مسلم ) لا كافر ولو على مثله ( عاقل ) حال التحمل والأداء معا ( بالغ ) ولو تحمل صبيا إن كان ضابطا فلا تصحشهادة الصبيان إلا على بعضهم بشروط تأتي ( بلا فسق ) بجارحة ( و ) بلا ( حجر ) لسفه فلا تصح من فاسق ولا مجهول حال ولا من سفيه محجور عليه ( و ) بلا ( بدعة وإن تأول ) فأولى لو تعمد أو جهل ( البدعة كخارجي وقدري ) حال الأداء فلا تصح منه ( لم يباشر كبيرة ) أي لم يتصف بها أصلا أو حال الأداء فقط [ ص: 166 ] بأن تاب وظهرت عليه التوبة وإلا فلا لصدق التلبس عليه ( أو ) لم يباشر ( كثير كذب ) لم يترتب عليه فساد وإلا ضر ولو الواحدة بخلافها إذا لم يترتب عليها ذلك ( أو صغيرة خسة ) كتطفيف حبة أو سرقة نحو لقمة لدلالة ذلك على دناءة الهمة وقلة المروءة بخلاف نظرة واحدة ( و ) لم يباشر ( سفاهة ) أي مجونا بأن يكثر الدعابة ولم يبال بما يقع منه من الهزل ( و ) لم يباشر ( لعب نرد ) وطاب ولو بغير قمار ( ذو مروءة ) نعت لحر أو خبر ثان أي همة وحياء ( بترك غير لائق ) تفسير للمروءة باللازم وبين غير اللائق بقوله ( من ) لعب ( حمام ) بلا قمار وإلا فهو كبيرة ( وسماع غناء ) بالمد متكررا بغير آلة لإخلال سماعه بالمروءة وهو مكروه إذا لم يكن بقبيح ولا حمل عليه ولا بآلة وإلا حرم [ ص: 167 ] ( ودباغة وحياكة اختيارا ) أي لا لضرورة معاش وإلا لم يخلا بالمروءة كما لو كان من أهلهما وإن لم يضطر وقد تكون الحياكة في بعض البلاد من الحرف الشريفة وأما الخياطة فهي من الحرف الرفيعة ومثل ما ذكر المصنف الحجامة ( وإدامة ) لعب ( شطرنج ) لأنه من صغائر غير الخسة بل قيل بكراهته وإدامته تكرره في السنة

التالي السابق


قوله ( الشهادة ) أي اصطلاحا وأما لغة فمعناها البيان وسمي الشاهد شاهدا لأنه بين عند الحاكم الحق من الباطل وهو أحد معاني اسمه تعالى الشهيد وإلى هذا أشار بعضهم في قوله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو } أي بين وقيل هي فيهما بمعنى العلم ( قوله إخبار حاكم ) من إضافة المصدر لمفعوله أي إخبار [ ص: 165 ] الشاهد الحاكم وقوله عن علم أي إخبارا ناشئا عن علم لا عن ظن أو شك وهذا التعريف هو معنى قول بعضهم الشهادة إخبار بما حصل فيه الترافع وقصد به القضاء وبت الحكم وأما الرواية فهي إخبار بما لم يحصل فيه الترافع ولم يقصد به فصل القضاء وبت الحكم بل قصد به مجرد عزوه لقائله بحيث لو رجع عنه رجع الراوي وهل يشترط في تأدية الشهادة لفظ أشهد بخصوصه أو لا يشترط قولان والأظهر منهما عدم الاشتراط وإنما المدار فيها على ما يدل على حصول علم الشاهد بما شهد به كرأيت كذا وسمعت كذا أو أتحقق أن لهذا عند هذا كذا فلا يشترط لأدائها صيغة معينة .

( قوله في عرف الفقهاء ) أي لا في عرف المحدثين لأن العدل عندهم يكون عبدا وامرأة وأشار بقوله أي حقيقته إلى أن أل في العدل للحقيقة ويصح أن تكون للعهد الذكري المتقدم في قوله أهل القضاء عدل لأن العدالة المطلوبة في القاضي هي المطلوبة في الشاهد ( قوله حر ) أي ولو عتيقا لكن إن شهد لمعتقه فله شرط آخر وهو التبريز وقوله حال الأداء أي لا حال التحمل إذ يصح تحمل الرقيق للشهادة ويؤديها بعد عتقه ( قوله مسلم ) أي حال الأداء لا حال التحمل فيصح تحملها وهو كافر وأداؤها وهو مسلم وقوله ولو على مثله أي خلافا لأبي حنيفة المجوز لشهادة الكافر على مثله ( قوله ولو تحمل صبيا ) فإذا تحمل البالغ الشهادة في حال صباه وأداها بعد بلوغه فإنها صحيحة وقوله إن كان ضابطا أي حيث تحملها وهو صغير .

( تنبيه ) لا يشترط في صحة الشهادة عدم الإكراه فمن تحمل الشهادة وحلف بالطلاق أنه لا يؤديها فأكره على أدائها إكراها حراما فأداها وهو بالغ عاقل كانت صحيحة ولذا عدل المصنف عن التعبير بمكلف لقوله بالغ عاقل إذ لو عبر بمكلف لاقتضى عدم صحتها لأن المكره غير مكلف كذا في عبق والمج وفي بن الحق عدم قبول شهادة المكره لأنه قد يؤدي بخلاف ما يعلم فالإكراه يمنع الثقة بشهادته ( قوله بلا فسق ) أي ملتبس بثبوت عدم الفسق من ملابسة الموصوف لصفته فهو في قوة المعدولة المحمول فيفيد أن مجهول الحال لا تصح شهادته لأن الأصل في الناس الجرحة ولم يثبت عدم فسقه لا في قوة السالبة وأن المعنى وإن يكون غير ثابت الفسق وإلا لأفاد صحة شهادة مجهول الحال لأنه غير ثابت الفسق وإنما قيد بقوله بجارحة لأنه سيأتي للمصنف الكلام في الفاسق بالاعتقاد ( قوله وبلا حجر لسفه ) إنما قيد بقوله لسفه للاحتراز عن الحجر للزوجية والمرض والفلس فإنه لا يمنع شهادتهم .

( قوله فلا تصح من فاسق ولا مجهول حال ) أي لأن كلا منهما ليس ملتبسا بثبوت عدم الفسق لأن الأول ملتبس بالفسق والثاني ملتبس بعدم ثبوت الفسق لا بثبوت عدمه الذي هو مشترط ( قوله ولا من سفيه محجور عليه ) أي وأما السفيه غير المحجور عليه فشهادته صحيحة ( قوله وبلا بدعة ) أي وملتبس بعدم البدعة فلا تصح شهادة البدعي كالقدري القائل بتأثير القدرة الحادثة والخارجي الذي يكفر بالذنب هذا إذا تعمد البدعة أو جهلها بل وإن كان متأولا في ارتكابها فالبدعي لا يعذر بجهل ولا تأويل والمراد بالمتأول المجتهد وبالجاهل المقلد من الفريقين ( قوله حال الأداء فلا تصح ) أي وأما لو كان ملتبسا بالبدعة حال التحمل فقط فلا يضر .

( قوله لم يباشر كبيرة ) اعترض بأن هذه يغني عنها قوله وبلا فسق لأن التباسه بعدم الفسق هو عدم مباشرته للكبيرة وأجيب بأن كلامه هنا في كبيرة الباطن كغل وحسد وكبر ورياء كما يدل عليه لفظ المباشرة التي هي المخالطة وقوله سابقا وبلا فسق أي بالجوارح الظاهرة كما هو المناسب لتعريف الفسق بالخروج عن الطاعة وإلى هذا الجواب أشار الشارح بقوله سابقا وبلا فسق بجارحة وأجاب بعضهم بجواب آخر وحاصله أن قوله وبلا فسق أي بالباطن وبالجوارح الظاهرة وأتى بقوله لم يباشر إلى قوله خسة تفسيرا لعدم التلبس بالفسق أي أن عدم التلبس به عبارة عن عدم مباشرة الكبائر وكثرة الكذب وصغائر الخسة ( قوله لم يتصف بها أصلا ) [ ص: 166 ] أي لا حال الأداء ولا حال التحمل وقوله أو حال الأداء أي أو لم يتصف بها حال الأداء فقط أي وإن اتصف بها حال التحمل ( قوله بأن تاب ) أي بعد التحمل ( قوله وإلا فلا ) أي وإلا يتب فلا تصح شهادته لصدق التلبس عليه وكان الأولى أن يقول لصدق المباشرة عليه ( قوله أو لم يباشر كثير كذب ) أي فإن باشر كثير الكذب بطلت شهادته والمراد بالكثير ما زاد على الكذبة الواحدة يعني في السنة وهذا في كذب لا يترتب عليه فساد وإلا ضر ولو واحدة والحاصل أن الكذب إما أن يترتب عليه فساد أو لا فالأول مضر ولو واحدة وهي كبيرة والثاني مضر منه الكثير وهو ما زاد على الواحدة وأما الواحدة يعني في السنة فلا تضر لعسر الاحتراز منها وهي صغيرة وقيل كبيرة وإن كانت غير قادحة في الشهادة .

( قوله أو سرقة نحو لقمة ) ظاهره أنها صغيرة مطلقا ولو كان المسروق منه فقيرا وقيد بعضهم ذلك بما إذا لم يكن المسروق منه فقيرا وإلا كانت كبيرة ( قوله بخلاف نظرة واحدة ) أي فإنها ليست من صغائر الخسة سواء كانت لأمرد أو لامرأة بل من صغائر غير الخسة فلا تقدح إلا بشرط الإدمان ومثل النظرة في ذلك القبلة وسائر المقدمات وهي ما عدا الإيلاج واعلم أن صغيرة الخسة تقدح في الشهادة وإن لم يدمنها فمتى صدرت منه ولو مرة ردت شهادته إلا أن يتوب كالكبيرة بخلاف صغيرة غير الخسة فالمضر إدمانها ( قوله وسفاهة ) هو بالجر عطف على كذب أي ولم يباشر كثير سفاهة فالمضر إنما هو كثرتها لأنه هو المخل بالمروءة خلافا لقول الشارح ولم يباشر سفاهة المفيد أنها مضرة مطلقا وكلامه بعد بقوله بأن يكثر إلخ صريح في المقصود .

( قوله أي مجونا ) المجون والدعابة هو الهزل وقوله بأن لا يبالي بما يقع منه من الهزل أي كإخراج الصوت من فيه وكالنطق بألفاظ الخنا في الملإ مما يستبشع النطق به ولا يعترض على قوله وسفاهة بأنه يغني عنه قوله ذو مروءة لأنه يلزم من كونه ذا مروءة عدم مباشرته لكثير السفاهة لأن الأول وقع في مركزه فلا يعترض بعموم ما بعده له فتأمل ( قوله ولم يباشر لعب نرد ) أي فإن باشره ردت شهادته ولو لم يداوم عليه بل ولو مرة في السنة ولو لم يكن فيه قمار ومثله يقال في الطاب والسيجة والمنقلة ، ولعب كل من هذه الأربعة حرام كما قال شيخنا ( قوله ذو مروءة ) بضم الميم وفتحها مع الهمزة وتشديد الواو ( قوله بترك غير لائق ) أي مصورة بترك غير لائق فالباء للتصوير .

( قوله باللازم ) أي لأن المروءة كمال الرجولية ويلزم من كمالها ترك غير اللائق وإنما اشترطت المروءة في العدالة لأن من تخلق بما لا يليق وإن لم يكن حراما جره ذلك غالبا لعدم المحافظة على دينه واتباع الشهوات واعلم أنه إذا تعذر وجود العدل الموصوف بما ذكره المصنف من الأوصاف أو تعسر كما في زماننا هذا اكتفى بمن لا يعرف كذبه للضرورة وقيل يجبر بزيادة العدد أفاده شيخنا ( قوله من لعب حمام ) أي من لعب به مع إدامته وإلا لم يخل بالمروءة وكلام المصنف يشمل اللعب به الذي ليس بمحرم كاللعب به على وجه المسابقة لأنه يخل بالمروءة ويشمل اللعب به المحرم الذي ليس من الكبائر ولا من صغائر الخسة كلعب به على وجه فيه نوع تعذيب له ولا يشمل اللعب به مقامرة لأنه كبيرة .

( قوله وهو مكروه إذا لم يكن بقبيح ) أي بكلام قبيح ولا حمل عليه أي على القبيح كتعلق بامرأة أو بأمرد ولا بآلة أي كعود وقانون وقوله وإلا حرم أي وإلا بأن تخلف شرط من الشروط الثلاثة كان سماعه وكذا فعله حرام ولو في عرس على المعتمد وهل ترد به الشهادة سواء كان مكروها أو حراما ولو مرة في السنة وهو ما لتت أو لا بد من التكرار في السنة وهو ما يفيده المواق وهو المعتمد خلافا لما في عبق كذا قرر شيخنا العدوي وحاصل ما في عبق أن الغناء إن حمل على تعلق بمحرم كامرأة أو أمرد حرم فعلا وسماعا تكرر أم لا بآلة أم لا كان في عرس أو صنيع كولادة وختان وقدوم من سفر وعقد نكاح أو كان في غيرهما ومتى لم يحمل على محرم جاز بعرس وصنيع سواء كان بآلة أو غيرها سماعا وفعلا تكرر [ ص: 167 ] أم لا لا بغير عرس وصنيع فيمنع إن تكرر سواء كان بآلة أو غيرها فعلا وسماعا وإن لم يتكرر كره سماعا وهل كذا فعلا أو يمنع خلاف ا هـ .

ولكن المعتمد كما قال شيخنا إنه متى كان بكلام قبيح أو يحمل على قبيح أو كان بآلة كان حراما سواء كان بعرس أو صنيع أو غيرهما تكرر أم لا فعلا أو سماعا وإن لم يكن بقبيح ولم يحمل عليه ولم يكن بآلة فالكراهة سواء كان بعرس أو صنيع أو غيرهما تكرر أم لا فعلا أو سماعا ترد به الشهادة إذا تكرر في السنة كان بآلة أو بغيرها على ما للمواق وفي بن عن ابن عرفة قال ابن عبد الحكم سماع العود جرحة إلا أن يكون في صنيع لا شرب فيه فلا يجرح وإن كره على كل حال ا هـ وهو ضعيف كما قال شيخنا ( قوله ودباغة وحياكة اختيارا ) أي بأن كان غير مضطر لهما في معاشه أي وكان في بلد يزريان بفاعلهما فيها والحال أنه ليس من أهلهما فالقدح في الشهادة بالدباغة والحياكة مقيد بالشروط الثلاثة فإن تخلف واحد منها لم تكن واحدة منهما قادحة .

( قوله وأما الخياطة فهي من الحرف الرفيعة ) أي مطلقا سواء حصلت من أهلها أو من غيرهم لحديث في الجامع الصغير ورد فيه مدحها في حق الرجال ومدح صناعة الغزل في حق النساء وإن كان ضعيفا ولفظه { عمل الأبرار من الرجال الخياطة وعمل الأبرار من النساء الغزل } ( قوله الحجامة ) أي لإخلالها بالمروءة لكن لا ترد الشهادة بها إلا عند وجود الشروط الثلاثة المعتبرة في الدباغة والحياكة فإن اختل شرط منها لم تكن قادحة في الشهادة ( قوله شطرنج ) بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح أوله من لحن العامة كما قال ابن جني ويقال بالشين المعجمة وبالسين المهملة لأنه إما مأخوذة من المشاطرة أو من التسطير ا هـ بن لكن الذي في الغرر والدرر للوطواط أن شطرنج معرب ششرنك ومعناه ستة ألوان الشاة والفرز والفيل والفرس والرخ والبيدق فعلى هذا لا يقال إنه مشتق من المشاطرة بالمعجمة ولا من التسطير بالمهملة كما قال بن ا هـ .

مج ثم إن ظاهر المصنف أن لعبه غير حرام لجعله من أفراد ما لا يليق مع تقييده بالإدامة ويوافقه تصحيح القرافي أنه مكروه ولكن المذهب أن لعبه حرام وفي ح قول بجواز لعبه في الخلوة مع نظيره لا مع الأوباش وعلى كل من القول بالكراهة والحرمة ترد الشهادة بلعبة لكن عند الإدامة ابن رشد لا خلاف بين مالك وأصحابه أن الإدمان على اللعب بها جرحة وقد قيل الإدمان أن يلعب بها في السنة أكثر من مرة واحدة وإنما اشترط الإدمان في الشطرنج دون ما عداه من النرد والطاب والسيجة والمنقلة لاختلاف الناس في إباحته إذ قد روي عن جماعة من التابعين أنهم كانوا يلعبونه




الخدمات العلمية