الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى وإذا انعقد البيع ثبت لكل واحد من المتبايعين الخيار بين الفسخ والإمضاء إلى أن يتفرقا أو يتخايرالما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر } والتفرق أن يتفرقا بأبدانهما بحيث إذا كلمه على العادة لم يسمع كلامه لما روى نافع " أن ابن عمر رضي الله عنهما { كان إذا اشترى شيئا مشى أذرعا ليجب البيع ثم يرجع } ولأن التفرق في الشرع مطلق ، فوجب أن يحمل على التفرق المعهود ، وذلك يحصل بما ذكرناه وإن لم يتفرقا ولكن جعل بينهما حاجز من ستر أو غيره لم يسقط الخيار لأن ذلك لا يسمى تفرقا . وأما التخاير فهو أن يقول أحدهما للآخر : اختر إمضاء البيع أو فسخه ، فيقول الآخر : اخترت إمضاءه أو فسخه فينقطع الخيار لقوله عليه السلام : { أو يقول أحدهما للآخر اختر } فإن خير أحدهما صاحبه فسكت لم ينقطع خيار المسئول وهل ينقطع خيار السائل ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا ينقطع خياره كما لو قال لزوجته : اختاري فسكتت فإن خيار الزوج في طلاقها لا يسقط ( والثاني ) أنه ينقطع لقوله عليه السلام { : أو يقول أحدهما للآخر اختر } فدل على أنه إذا قال يسقط خياره ويخالف تخيير المرأة فإن المرأة لم تكن مالكة للخيار ، وإذا خيرها فقد ملكها ما لم تكن تملكه فإذا سكتت بقي على حقه ، وها هنا المشتري يملك الفسخ فلا يفيد تخييره إسقاط حقه من الخيار . فإن أكرها على التفرق ففيه وجهان ( أحدهما ) يبطل الخيار لأنه كان يمكنه أن يفسخ بالتخاير ، فإذا لم يفعل فقد رضي بإسقاطه الخيار ( والثاني ) أنه [ ص: 206 ] لا يبطل لأنه لم يوجد منه أكثر من السكوت ، والسكوت لا يسقط الخيار .

                                      فإن باعه على أن لا خيار له ففيه وجهان ( من ) أصحابنا من قال : يصح ، لأن الخيار جعل رفقا بهما ، فجاز لهما تركه ، لأن الخيار غرر فجاز إسقاطه ، وقال أبو إسحاق : لا يصح وهو الصحيح لأنه خيار يثبت بعد تمام البيع فلم يجز إسقاطه قبل تمامه كخيار الشفيع ( فإن قلنا ) بهذا فهل يبطل العقد بهذا الشرط ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا يبطل ، لأن هذا الشرط لا يؤدي إلى الجهل بالعوض والمعوض ( والثاني ) يبطل لأنه يسقط موجب العقد فأبطله ، كما لو شرط أن لا يسلم المبيع

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم بلفظه .

                                      وأما الأثر المذكور عن ابن عمر أنه كان يمشي أذرعا فهو في الصحيحين بغير هذا اللفظ ، لفظ البخاري : " فارق صاحبه " ولفظ مسلم : " قام فمشى هنيهة ثم رجع " ولفظ الترمذي قال نافع : " فكان ابن عمر إذا ابتاع بيعا وهو قاعد قام ليجب له البيع " وقوله : " أو يقول " هكذا هو في الصحيحين وفي المهذب أو يقول وهو منصوب اللام وأو هنا ناصبة بتقدير إلا أن يقول ، ولو كان معطوفا على " ما " لكان مجزوما ، ولقال . أو ليقل ( وقوله ) ليجب البيع معناه ليلزم ، ( قوله ) وهاهنا المشتري يملك الفسخ ، كان الأجود للقابل بدل المشتري ، لأن القابل قد يكون البائع ، وقد يكون المشتري ( وقوله ) لأنه خيار ثبت بعد تمام البيع ، قال القلعي : قيل : هو احتراز عن خيار القبول في البيع ، قال : والظاهر أنه لا احتراز فيه ، وإنما ذكره لبيان معنى العلة .

                                      ( أما الأحكام ) فقال أصحابنا : الخيار ضربان : خيار نقص وهو ما يتعلق بفوات شيء مظنون الحصول وخيار شهوة وهو ما لا يتعلق بفوات شيء .

                                      فالأول له باب مستقل ، وهو الذي سماه المصنف بعد هذا ( باب بيع المصراة والرد بالعيب ) وأما الثاني فله سببان : المجلس والشرط ، فيقال : [ ص: 207 ] خيار المجلس وخيار الشرط ، وإذا صححنا بيع الغائب أثبتنا فيه خيار الرؤية ، فتصير الأسباب ثلاثة ، ثم في الفصل مسائل : ( إحداها ) فيما ثبت فيه خيار المجلس من العقود ، وقد جمعها أصحابنا هنا ، وأعادوها في أبوابها مفرقة ، واقتصر المصنف على ذكرها في أبوابها مفرقة ، والمختار طريقة الجمهور فنسلكها ، قال أصحابنا : العقود ضربان : ( أحدهما ) العقود الجائزة إما من الطرفين كالشركة والوكالة الوديعة والعارية والدين والفرائض والجعالة ، وإما من أحدهما كالضمان والرهن والكتابة ، فلا خيار فيها كلها ، لأنه متمكن من الفسخ متى شاء ، وفي وجه ضعيف يثبت الخيار في الكتابة والضمان وهو ضعيف ، وممن حكاه في خيار المجلس وخيار الشرط الدارمي وهو شاذ . قال أصحابنا : وقد يتطرق الفسخ بسبب آخر إلى الرهن إن كان مشروطا في بيع وأقبضه قبل التفرق ، فيمكن فسخ الرهن بأن يفسخ البيع فيفسخ الرهن تبعا .

                                      ( والضرب الثاني ) العقود اللازمة ، وهي نوعان ، واردة على العين ، وواردة على المنفعة والأول كالبيع والصرف وبيع الطعام بالطعام والسلم والتولية والتشريك وصلح المعاوضة فيثبت فيها كلها خيار المجلس ، ويستثنى منها صور ( إحداها ) إذا باع ماله لولده ، أو مال ولده لنفسه ، ففي ثبوت خيار المجلس وجهان ( أصلحهما ) ثبوته فعلى هذا يثبت خيار للولد وخيار للأب ، ويكون الأب نائب الولد ، فإن ألزم البيع لنفسه وللولد لزم ، وإن ألزم لنفسه بقي الخيار للولد ، فإذا فارق المجلس لزم العقد على الأصح من الوجهين ( والثاني ) لا يلزم إلا بالإلزام لأنه لا يفارق نفسه ، وإن فارق المجلس ، وذكر الماوردي أن الوجه الأول قول أبي إسحاق المروزي قال : والثاني قول جمهور أصحابنا . قال : فعلى الثاني لا ينقطع الخيار إلا بأن يختار الأب لنفسه وللولد ، فإن لم يختر ثبت الخيار للولد [ ص: 208 ] إذا بلغ والمذهب الأول .

                                      قال البغوي : ولو كان العقد بينه وبين ولده صرفا ففارق المجلس قبل القبض . بطل العقد على الوجه الأول ، ولا يبطل على الثاني إلا بالتخاير .

                                      ( الثانية ) لو اشترى من يعتق عليه كولده ووالده ، قال جمهور الأصحاب : يبنى خيار المجلس على أقوال الملك في زمن الخيار ( فإن قلنا ) هو للبائع فلهما الخيار ، ولا يحكم بالعتق حتى يمضي زمن الخيار ( وإن قلنا ) موقوف فلهما الخيار فإذا أمضيا العقد تبينا أنه عتق بالشراء . فإن قلنا : الملك للمشتري فلا خيار له ويثبت للبائع ، وفي عتقه وجهان ( أصحهما ) لا يعتق حتى يمضي زمن الخيار ، ثم حكم بعتقه من يوم الشراء ( والثاني ) يحكم بعتقه حين الشري ، وعلى هذا هل ينقطع خيار البائع ؟ فيه وجهان كالوجهين فيما إذا أعتق المشتري العبد الأجنبي في زمن الخيار - وقلنا : الملك له . قال البغوي : ويحتمل أن يحكم بثبوت الخيار للمشتري أيضا ، تفريعا على أن الملك له ، وأن لا يعتق العبد في الحال لأنه لم يوجد منه الرضا إلا بأصل العقد ، هذه طريقة الجمهور ، وهي المذهب وقال إمام الحرمين : المذهب أنه لا خيار ، وقال الأودني : يثبت وتابع الغزالي إمامه على ما اختاره ، قال الرافعي : واختيارهما شاذ ، والصحيح ما سبق عن الأصحاب وحكى القاضي حسين في بيع الأعطية عن الأودني أنه يثبت الخيار ، قال : وعليه حمل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه } قال : وصورته إذا كان الخيار للمشتري ، وقلنا : الملك للبائع وأعتقه صح ، قال : ولو قلنا : الملك للمشتري صح العقد ولم يتصور إعتاقه ، لأنه صار بمجرد الشراء حرا .

                                      ( الثالثة ) الصحيح المنصوص أن شراء العبد نفسه من سيده جائز ، وفيه قول ضعيف أو وجه أنه لا يصح ، وقد ذكر المصنف المسألة في أول [ ص: 209 ] كتاب الإقرار ، وذكر فيها طريقين ، المذهب والمنصوص صحته .

                                      ( والثاني ) على قولين ، فإذا قلنا بالصحة ففي ثبوت خيار المجلس وجهان حكاهما أبو الحسن العبادي والقاضي حسين ، وما لا إلى ترجيح ثبوته ، وقطع الغزالي والمتولي بترجيح ثبوته ، وهو الأصح لأن مقصوده العتق فأشبه الكتابة .

                                      ( الرابعة ) في ثبوت الخيار في شري الجمد في شدة الحر وجهان حكاهما المتولي والروياني وآخرون ، لأنه يتلف بمضي الزمان ( والأصح ) ثبوته .

                                      ( الخامسة ) إن صححنا بيع الغائب ولم يثبت خيار المجلس مع خيار الرؤية ، فهذا المبيع من صور الاستثناء .

                                      ( السادسة ) إن باع بشرط نفي خيار المجلس فثلاثة أوجه ، سنذكرها مبسوطة قريبا إن شاء الله تعالى ( أحدها ) يصح البيع والشرط ، فعلى هذا تكون هذه الصورة مستثناة ، هذا حكم البيع بأنواعه ، والله أعلم لا يثبت خيار المجلس في صلح الحطيطة ، ولا في الإبراء ، ولا في الإقالة ( إن قلنا ) إنها فسخ ( وإن قلنا ) هي بيع ففيها الخيار ولا يثبت في الحوالة إن قلنا : إنها ليست معاوضة ( وإن قلنا ) معاوضة لم يثبت أيضا على أصح الوجهين ، لأنها ليست على قاعدة المعاوضات ، ولا يثبت في الشفعة للمشتري ، وفي ثبوته للشفيع وجهان مشهوران ( أصحهما ) لا يثبت ، وممن صححه المصنف في التنبيه ، والفارقي والرافعي في المحرر ، وقطع به البغوي في كتابيه التهذيب وشرح مختصر المزني ، وهو الراجح في الدليل أيضا ، فإن أثبتنا فقيل : معناه أنه بالخيار بين الأخذ والترك ما دام في المجلس مع تفريعنا على قولنا : الشفعة على الفور ( قال ) إمام الحرمين : هذا الوجه غلط ، بل الصحيح أنه على الفور ، ثم له الخيار في [ ص: 210 ] نقض الملك ورده ما دام في المجلس ، وهذا هو الصواب ، وهي حقيقة خيار المجلس .

                                      ( وأما ) من اختار عين ماله لإفلاس المشتري فلا خيار له ، وفيه وجه أنه يثبت له الخيار ما دام في المجلس ، والصحيح الأول ، ولا خيار في الوقف والعتق والتدبير والطلاق والرجعة وفسخ النكاح وغيره والوصية ، ولا في الهبة إن لم يكن ثواب ، فإن كان ثواب ، فإن كان ثواب مشروط أو قلنا نقيصته الإطلاق فلا خيار أيضا على أصح الوجهين لأنها لا تسمى بيعا ، والحديث ورد في المتبايعين قال المتولي وغيره : موضع الوجهين من الهبة بعد القبض ، أما قبله فلا خيار قطعا ( وأما ) إذا رجع البائع في المبيع لفلس المشتري فالأصح أنه لا خيار له ، وحكى الدارمي فيه قولين عن حكاية ابن القطان ، ويثبت الخيار في القسمة إن كان فيها رد ، وإلا فإن جرت بالإجبار فلا رد ، وإن جرت بالتراضي ( فإن قلنا ) إنها إقرار فلا خيار ( وإن قلنا ) بيع فلا خيار أيضا على أصح الوجهين ، هكذا ذكرهما الأصحاب ( وقال المتولي ) : إن كانت قسمة إجبار وقلنا : هي بيع فلا خيار للمجبر وفي الطالب وجهان كالشفيع .

                                      ( النوع الثاني ) العقد الوارد على المنفعة ، فمنه النكاح ولا خيار فيه بلا خلاف ، ولا خيار في الصداق على أصح الوجهين فإن أثبتناه ففسخت وجب مهر المثل ، وعلى هذين الوجهين يكون ثبوت خيار المجلس في عوض الخلع والأصح أيضا أنه لا يثبت فيه ، ولا تندفع الفرقة بحال ، ومنه الإجارة ، وفي ثبوت خيار المجلس فيها وجهان ( أصحهما ) عند المصنف وشيخه أبي القاسم الكرخي بالخاء - يثبت وبه قال الإصطخري وابن القاص ( وأصحهما ) عند إمام الحرمين والبغوي والجمهور لا يثبت ، وبه قال أبو علي بن خيران وأبو إسحاق المروزي .

                                      قال القفال وطائفة : الخلاف في إجارة العين ( أما ) الإجارة على الذمة فيثبت فيها قطعا كالسلم ، فإن أثبتنا الخيار في إجارة العين ففي ابتداء [ ص: 211 ] مدتها وجهان ( أحدهما ) من وقت انقضاء الخيار بالتفرق ، فعلى هذا لو أراد المؤجر أن يؤجره لغيره في مدة الخيار ( قال ) الإمام : لم يجوزه أحد فيما أظن ، وإن كان محتملا في القياس ( وأصحهما ) أنه يحسب من وقت العقد . فعلى من تحسب مدة الخيار ؟ إن كان قبل تسليم العين إلى المستأجر فهي محسوبة على المؤجر إن كان بعده ( فوجهان ) بناء على أن المبيع إذا هلك في يد المشتري في زمن الخيار على ضمان من يكون ؟ فيه وجهان ( الأصح ) من ضمان المشتري فعلى هذا تحسب على المستأجر ، وعليه تمام الأجرة ( والثاني ) من ضمان البائع ، فعلى هذا تحسب على المؤجر ، ويحط من الأجرة قدر ما يقابل تلك المدة .

                                      ( وأما ) المساقاة ففي ثبوت خيار المجلس فيها طريقان أصحهما فيه الخلاف السابق في الإجارة ( والثاني ) القطع بالمنع لعظم الغرر فيها ، فلا يضم إليه غرر الخيار ( وأما المساقاة ) فكالإجارة إن قلنا : إنها لازمة ، وكالعقود الجائزة إن قلنا : إنها جائزة ، والله تعالى أعلم .

                                      ( المسألة الثانية ) لو تبايعا بشرط نفي خيار المجلس ، ففيه ثلاثة أوجه ، ذكرها المصنف بأدلتها وهي مشهورة ، وذكرها القاضي حسين أقوالا ( أصحها ) أن البيع باطل ، وهو المنصوص في البويطي والقديم ( والثاني ) أنه صحيح ولا خيار ( والثالث ) صحيح والخيار ثابت ، ولو شرطا نفي خيار الرؤية على قولنا يصح بيع الغائب ، فالمذهب القطع ببطلان البيع ، وبه قطع الأكثرون ، وطرد الإمام والغزالي فيه الخلاف ، وهذا الخلاف يشبه الخلاف في شرط البراءة من العيوب ، ويتفرع على نفي خيار المجلس ما إذا قال لعبده : إن بعتك فأنت حر ، ثم باعه بشرط نفي الخيار ( فإن قلنا ) البيع باطل أو صحيح ولا خيار لم يعتق ( وإن قلنا ) صحيح والخيار ثابت عتق ، لأن عتق البائع في مدة الخيار نافذ ، والله أعلم .

                                      ( المسألة الثالثة ) فيما ينقطع به خيار المجلس ، قال أصحابنا : كل عقد ثبت فيه هذا الخيار حصل انقطاع الخيار فيه بالتخاير ، ويحصل أيضا [ ص: 212 ] بالتفرق بأبدانهما عن مجلس العقد ( أما ) التخاير فهو أن يقولا : تخايرنا أو اخترنا إمضاء العقد ، أو أجزناه أو ألزمناه وما أشبهها ، ولو قال أحدهما : اخترت إمضاءه انقطع خياره ، وبقي خيار الآخر ، كما إذا أسقط أحدهما خيار الشرط ، وفيه وجه شاذ أنه لا يبقى للآخر خيار أيضا ، لأن هذا الخيار لا يتبعض ثبوته ، ولا يتبعض سقوطه ، حكاه المتولي وغيره وهو فاسد ، وفيه وجه ثالث حكاه القاضي حسين وإمام الحرمين أنه لا يبطل خيار القائل ولا صاحبه لأن شأن الخيار أن يثبت بهما أو يسقط في حقهما ، ولا يسقط حق الساكت فينبغي أن لا يسقط حق القائل وهذا الوجه شاذ فاسد ، فحصل ثلاثة أوجه ( الصحيح ) سقوط خيار القائل فقط ( والثاني ) يسقط خيارهما ( والثالث ) يبقى خيارهما .

                                      ( أما ) إذا قال أحدهما للآخر : اختر أو خيرتك ، فقال الآخر : اخترت فإنه ينقطع خيارهما بلا خلاف ، لما ذكرهالمصنف ، وإن سكت الآخر لم ينقطع خيار الساكت بلا خلاف لما ذكره المصنف وفي خيار القائل وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أحدهما ) لا يسقط خياره قال الروياني : هو قول القفال ( وأصحهما ) باتفاق الأصحاب : يسقط ، وممن صرح بتصحيحه صاحب الشامل والبغوي والمتولي والروياني والرافعي وآخرون .

                                      قال أصحابنا : ولو اختار واحد وفسخ الآخر حكم بالفسخ ، لأنه مقصود الخيار ، ولو قالا : أبطلنا الخيار ، أو قالا : أفسدنا ( فوجهان ) حكاهما إمام الحرمين عن حكاية والده أبي محمد ( أحدهما ) لا يبطل الخيار ، لأن الإبطال يشعر بمناقضة الصحة ومنافاة الشرع ، وليس كالإجارة ، فإنها تصرف في الخيار ( والثاني ) يبطل الخيار ، وهو الأصح ( قال ) الإمام : الوجه الأول ضعيف جدا ، ولكن رمز إليه شيخي ، وذكره الصيدلاني ( أما ) إذا تقابضا في المجلس وتبايعا العوضين بيعا [ ص: 213 ] ثانيا ، فيصح البيع الثاني أيضا على المذهب وبه قطع الجمهور ، لأنه رضاء بلزوم الأول ، وقيل : فيه خلاف مبني على أن الخيار هل يمنع انتقال الملك إلى المشتري أم لا ؟ ( فإن قلنا ) يمنع لم يصح ، وإلا فسخ والصواب الأول ، ولو تقابضا في الصرف ثم أجازا في المجلس لزم العقد ، فإن اختاراه قبل التقابض فوجهان ( أحدهما ) تلغو الإجازة فيبقى الخيار ( وأصحهما ) يلزم العقد ، وعليهما التقابض ، فإن تفرقا قبل التقابض انفسخ العقد ولا يأثمان إن تفرقا عن تراض ، وإن انفرد أحدهما بالمفارقة أثم هو وحده ، وفيه وجه ثالث أنه يبطل العقد بالتخاير قبل القبض ، لأن التخاير كالتفرق ، ولو تفرقا قبل القبض في الصرف بطل العقد ، وسنوضح المسألة إن شاء الله تعالى مبسوطة في باب الربا حيث ذكرها المصنف ، والله أعلم .

                                      وأما التفرق فهو أن يتفرقا بأبدانهما ، فلو أقاما في ذلك المجلس مدة متطاولة كسنة أو أكثر ، أو قاما أو تماشيا مراحل ، فهما على خيارهما ، هذا هو الصحيح وبه قطع الجمهور ، وفيه وجه ضعيف حكاه القاضي حسين وإمام الحرمين والغزالي وآخرون من الخراسانيين أنه لا يزيد على ثلاثة أيام ، لئلا يزيد على خيار الشرط ، وفيه وجه ثالث أنهما لو شرعا في أمر آخر وأعرضا عما يتعلق بالعقد فطال الفصل انقطع الخيار ، حكاه الرافعي ، والمذهب الأول ، قال أصحابنا : والرجوع في التفرق إلى العادة ، فما عده الناس تفرقا فهو تفرق ملتزم للعقد ، وما لا فلا ، قال أصحابنا : فإذا كانا في دار صغيرة فالتفرق أن يخرج أحدهما منها أو يصعد السطح ، وكذا لو كانا في مسجد صغير أو سفينة صغيرة فإن كانت الدار كبيرة حصل التفرق بأن يخرج أحدهما من البيت إلى الصحن أو من الصحن إلى بيت أو صفة . وإن كانا في سوق أو صحراء أو ساحة أو بيعة فإذا ولى أحدهما ظهره ومشى قليلا حصل التفرق على الصحيح من الوجهين ( والثاني ) قاله [ ص: 214 ] الإصطخري بشرط أن يبعد عن صاحبه ، بحيث لو كلمه على العادة من غير رفع الصوت لم يسمع كلامه ، وبهذا قطع المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب في تعليقه ، وصححه أبو الطيب في المجرد ، والمذهب : الأول ، وبه قطع الجمهور ونقله المتولي والروياني عن جميع الأصحاب سوى الإصطخري . واحتجوا له بما رواه المصنف عن ابن عمر وهو صحيح كما سبق ، ودلالته للجمهور ظاهرة وحكى القاضي أبو الطيب والروياني وجها أنه يكفي أن يوليه ظهره ، ونقله الروياني عن ظاهر النص لكنه مؤول ، والمذهب : الأول ، والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : فلو لم يتفرقا ولكن جعل بينهما حائل من ستر أو نحوه ، أو شق بينهما نهر لم يحصل التفرق بلا خلاف ، وإن بني بينهما جدار فوجهان حكاهما القاضي حسين والبغوي والرافعي وآخرون ( أصحهما ) لا يحصل التفرق كما لو جعل بينهما ستر ، ولأنهما لم يتفرقا ، وممن صححه البغوي والرافعي وظاهر كلام المصنف القطع به ، لأنه قال : لو جعل بينهما حاجز من ستر وغيره لم يسقط الخيار ( والثاني ) يسقط ، وبه قطع المتولي ، وادعى أنه يسمى تفرقا ، وليس كما قال وقال الروياني إن جعل بينهما حائط أو غيره لم يحصل التفرق ، لأنهما لم يتفرقا ، ولأنهما لو غمضا أعينهما لم يحصل التفرق ، وقال والدي : إن جعل الحائط بينهما بأمرهما فوجهان ( الصحيح ) لا يحصل التفرق قال : وقيل إن أرخي ستر لم يحصل ، وإن بني حائط حصل ، وليس بشيء ، قال أصحابنا وصحن الدار والبيت الواحد إذا تفاحش اتساعهما كالصحراء فيحصل التفرق فيه بما ذكرناه ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) لو تناديا وهما متباعدان وتبايعا صح البيع بلا خلاف ( وأما ) الخيار فقال إمام الحرمين : يحتمل أن يقال : لا خيار لهما لأن التفرق الطارئ يقطع الخيار فالمقارن يمنع ثبوته قال : ويحتمل أن يقال : ثبت ما داما في موضعهما فإذا فارق أحدهما موضعه بطل خياره وهل [ ص: 215 ] يبطل خيار الآخر ؟ أم يدوم إلى أن يفارق مكانه ؟ فيه احتمالان للإمام ، وقطع المتولي بأن الخيار يثبت لهما ما داما في موضعهما فإذا فارق أحدهما موضعه ووصل إلى موضع لو كان صاحبه معه في الموضع عد تفرقا حصل التفرق وسقط الخيار ، هذا كلامه ، والأصح في الجملة ثبوت الخيار وأنه يحصل التفرق بمفارقة أحدهما موضعه وينقطع بذلك خيارهما جميعا ، وسواء في صورة المسألة كانا متباعدين في صحراء أو ساحة أو كانا في بيتين من دار ، أو في صحن وصفة ، صرح به المتولي ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) إذا أكره أحد العاقدين على مفارقة المجلس فحمل مكرها حتى أخرج منه ، أو أكره حتى خرج بنفسه ، فإن منع من الفسخ بأن سد فمه لم ينقطع خياره على المذهب وبه قطع الشيخ أبو حامد وجمهور الأصحاب ، وهو مقتضى كلام الأصحاب وقيل : في انقطاعه وجهان ، قاله القفال : وحكاه جماعات من الخراسانيين وصاحب البيان . قالوا : وهما مبنيان على الخلاف الذي سنذكره إن شاء الله تعالى في انقطاع الخيار بالموت ، قالوا : وهنا أولى ببقائه لأن إبطال حقه قهرا بعيد أما إذا لم يمنع من الفسخ فطريقان ( أحدهما ) ينقطع وجها واحدا قاله القفال ، وحكاه جماعات ( والثاني ) هو الصحيح وبه قطع المصنف والجمهور : فيه وجهان ، ذكر المصنف بدليليهما ( أحدهما ) ينقطع ، قاله أبو إسحاق المروزي ( والثاني ) لا ينقطع ، وهو الصحيح باتفاقهم ، وهو قول جمهور أصحابنا المتقدمين وغيرهم ، وهو داخل في القاعدة السابقة قريبا أن الإكراه يسقط أثر ذلك المشي ويكون كأنه لم يوجد .

                                      فالحاصل أن المذهب أنه لا ينقطع الخيار سواء منع من الفسخ أم لا . قال أصحابنا : ( فإن قلنا : ) ينقطع خياره انقطع أيضا خيار الماكث في المجلس لحصول التفرق ، وإلا فله التصرف فيه بالفسخ والإجازة إذا تمكن ، وهل خياره بعد التمكن على الفور ؟ أم يمتد امتداد مجلس التمكن ؟ فيه وجهان كالوجهين اللذين سنذكرهما إن شاء الله تعالى ، فيما [ ص: 216 ] إذا مات ، وقلنا : يثبت الخيار لوارثه ( فإن قلنا : ) لا يقيد بالفور ، وكان مستقرا حين زايله الإكراه في مجلس ، امتد الخيار امتداد ذلك المجلس ، وإن كان مارا فإذا فارق في مروره مكان التمكن - انقطع خياره ، وليس عليه الرجوع إلى مجلس العقد ليجتمع هو والعاقد الآخر إن طال الزمان ، لأن المجلس قد انقطع حسا فلا معنى للعود إليه ، هكذا نقله الإمام وجزم به قال : فإن قصر الزمان ففي تكليفه الرجوع احتمال ، والله أعلم . وإذا قلنا : لا يبطل خيار المكره على المفارقة لم يبطل خيار الماكث أيضا إن منع الخروج معه ، فإن لم يمنع فوجهان ( أصحهما ) يبطل ، وهكذا ذكر الأصحاب المسألة ، ولم يفرقوا بين من حمل مكرها أو أكره على التفرق وقال المتولي والبغوي وطائفة : هذا التفصيل فيما إذا حمل مكرها ، فإن أكره حتى تفرقا بأنفسهما ففي انقطاع الخيار قولان كحنث الناس ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) لو هرب أحد العاقدين ولم يتبعه الآخر ، فقد أطلق الأكثرون أنه ينقطع خيارهما ، ممن أطلق ذلك وجزم به الفوراني والمتولي وصاحبا العدة والبيان وغيرهم ، وقال البغوي والرافعي : إن لم يتبعه الآخر مع المتمكن بطل خيارهما ، وإن لم يتمكن بطل خيار الهارب دون الآخر ، والصحيح ما قدمناه عن الأكثرين ، لأنه متمكن من الفسخ بالقول ، ولأنه فارقه باختياره فأشبه إذا مشى على العادة ، بخلاف ما قدمناه في المكره ، فإنه لا فعل له بسبب الإكراه ، فكأنه لم يفارق ، والله تعالى أعلم .

                                      فلو هرب وتبعه الآخر ، قال المتولي : يدوم الخيار ما داما متقاربين ، فإن تباعدا بحيث يعد فرقة بطل خيارهما ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : لو جاء المتعاقدان معا فقال أحدهما : تفرقنا بعد العقد فنلزمه وقال الثاني : لم نتفرق ، وأراد الفسخ ، فالقول قول الثاني مع يمينه ، لأن الأصل عدم التفرق ولو اتفقا على التفرق وقال أحدهما فسخت قبله وأنكر الآخر فوجهان الصحيح أن القول قول [ ص: 217 ] المنكر عملا بالأصل ، وبه قطع القاضي حسين وصححه الروياني والباقون ( والثاني ) قول مدعي الفسخ لأنه أعلم بتصرفه ، قال المتولي والروياني : وهذا محكي عن صاحب التقريب . ولو اتفقا على عدم التفرق وادعى أحدهما الفسخ وأنكر الآخر فدعواه الفسخ فسخ . ولو أراد الفسخ فقال الآخر : أنت أجزت قبل هذا فأنكر الإجازة فالقول قول المنكر ، لأن الأصل عدمها ، والله أعلم .

                                      ولو قال أحدهما : فسخت قبل التفرق وقال الآخر : بعده ، قال الدارمي : قال ابن القطان : فيه خلاف مبني على الخلاف فيما إذا قال : راجعتك ، فقالت : بعد العدة ، قال : وحاصله أربعة أوجه ( أحدها ) يصدق البائع ( والثاني ) المشتري ( والثالث ) السابق بالدعوى ( والرابع ) يقبل قول من يدعي الفسخ في الوقت الذي فسخ فيه ، وقول الآخر في وقت التفرق ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) لو مات من له الخيار أو من لو أغمي عليه في المجلس ، لم يبطل خياره بل ينتقل إلى وارثه والناظر في أمره ، هذا هو المذهب وفيه خلاف ذكره المصنف بعد خيار الشرط ، وسنوضحه بفروعه إن شاء الله تعالى ، وإن خرس ، قال أصحابنا : إن كانت له إشارة مفهومة أو كتابة فهو على خياره ، وإلا نصب الحاكم نائبا عنه يعمل ما فيه حظه من الفسخ والإجازة ، والله أعلم .

                                      ( أما ) إذا ناما في المجلس فلا ينقطع خيارهما بلا خلاف ، صرح به المتولي وغيره لأن النوم لا يسمى تفرقا ، والله أعلم . ( فرع ) يثبت خيار المجلس للوكيل دون الموكل باتفاق الأصحاب ، لأنه متعلق بالعاقد ، فلو مات الوكيل ، هل ينتقل الخيار إلى الموكل ؟ قال المتولي : فيه الخلاف الذي سنوضحه في المكاتب إن شاء الله تعالى [ ص: 218 ] إذا مات هل ينتقل خياره إلى سيده ؟ ( الأصح ) الانتقال قال : ووجه الشبه أن الملك حصل بعقد الوكيل للموكل ، لا بطريق الإرث ، كما أنه حصل للسيد بحكم العقد لا بطريق الإرث ، هذا كلام المتولي ، وهو الأصح وفيه خلاف آخر سنذكره هناك إن شاء الله تعالى .

                                      ( فرع ) قال القاضي حسين في تعليقه : لو باع الكافر عبده المسلم يثبت له خيار المجلس والشرط ، فلو فسخ البيع في مدة الخيار صح فسخه وأجبرناه على بيعه ثانيا ، ويثبت له الخيار والفسخ وهكذا أبدا



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في خيار المجلس . مذهبنا ثبوته للمتعاقدين ، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وأبي برزة الأسلمي الصحابي ، وسعيد بن المسيب وطاوس وعطاء وشريح والحسن البصري والشعبي والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد ، وبه قال سفيان بن عيينة وابن المبارك وعلي بن المديني وسائر المحدثين ، وحكاه القاضي أبو الطيب عن علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي هريرة وابن أبي ذؤيب ، وقال مالك وأبو حنيفة : لا يثبت بل يلزم البيع بنفس الإيجاب والقبول ، وحكي هذا عن شريح والنخعي وربيعة واحتج لهم بقول الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فظاهر الآية جوازه في المجلس ، وبحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يستوفيه } فدل على أنه إذا جاز له بيعه ففي المجلس قبل التفرق . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله } رواه أبو داود والترمذي وغيره بأسانيد صحيحة [ ص: 219 ] وحسنة ، قال الترمذي : هو حديث حسن . قالوا : وهذا دليل على أن صاحبه لا يملك الفسخ إلا من جهة الاستقالة وقياسا على النكاح والخلع وغيرهما ، ولأنه خيار بمجهول فإن مدة المجلس مجهولة فأشبه لو شرطا خيارا مجهولا .

                                      واحتج أصحابنا والجمهور بحديث ابن عمر قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار } رواه البخاري ومسلم وعن نافع قال سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا تبايع المتبايعان وكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيار ، } قال : وكان ابن عمر إذا تبايع البيع وأراد أن يجب ، مشى قليلا ، ثم رجع " رواه مسلم .

                                      وعن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن المتبايعين بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع خيارا } ، قال نافع : وكان ابن عمر إذا اشترى الشيء يعجبه فارق صاحبه " رواه البخاري ومسلم .

                                      وعن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع } رواه البخاري ومسلم وفي رواية { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر } رواه البخاري ومسلم . وعن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار } وعن حكيم بن حزام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { البائعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما } رواه البخاري ومسلم . وعن أبي الوضيء - بكسر الضاد المعجمة وبالهمز - واسمه عباد بن نسيب بضم النون وفتح السين المهملة وإسكان الياء قال : { غزونا غزوة فنزلنا منزلا فباع صاحب لنا فرسا [ ص: 220 ] لغلام ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما فلما أصبحا من الغد حضر الرحيل فقام إلى فرسه يسرجه وندم وأتى الرجل وأخذه بالبيع ، فأبى الرجل أن يدفعه إليه فقال بيني وبينك أبو برزة صاحب النبي صلى الله عليه وسلم فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالوا له القصة ، فقال أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا } وفي رواية قال : { ما أراكما افترقتما } رواه أبو داود بإسناد صحيح . وعن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم { خير أعرابيا بعد البيع } رواه الترمذي وقال حديث صحيح وعن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع رجلا فلما بايعه قال : اختر ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هكذا البيع } رواه أبو داود الطيالسي ، ورواه البيهقي ، وفي المسألة أحاديث كثيرة من رواية أبي هريرة وجابر وسمرة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وغيرهم ، وذكر البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم عن ابن عمر قال : " بعت أمير المؤمنين عثمان مالا بالوادي بمال له بخيبر ، فلما تبايعا رجعت على عقبي حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني في البيع ، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا ، قال ابن عمر : فلما وجب بيعي وبيعه رأيت أني قد غبنته بأني سقته إلى أرض ثمود بثلاث ليال ، وساقني إلى المدينة بثلاث ليال " روى البيهقي هذا متصلا بإسناده . وروى البيهقي عن ابن المبارك قال " الحديث في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا . أثبت من هذه الأساطير " وروى البيهقي بإسناده عن علي بن المديني عن ابن عيينة أنه حدث الكوفيين بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا قال : فحدثوا به أبا حنيفة فقال أبو حنيفة : [ ص: 221 ] ليس هذا بشيء . أرأيت إن كانا في سفينة ؟ قال ابن المديني إن الله سائله عما قال . قال القاضي أبو الطيب والأصحاب : اعترض مالك وأبو حنيفة على هذه الأحاديث فإنها بلغتهما فأما مالك فهو راوي حديث ابن عمر وأما أبو حنيفة فقال : ما قدمناه عنه الآن من قوله : أرأيت لو كانا في سفينة ؟ فإنه لا يمكن تفرقهما وأما مالك فقال : العمل عندنا بالمدينة خلاف ذلك فإن فقهاء المدينة لا يثبتون خيار المجلس ، ومذهبه أن الحديث إذا خالف عمل أهل المدينة تركه ، قال أصحابنا : هذه الأحاديث صحيحة والاعتراضان باطلان مردودان لمنابذتهما السنة الصحيحة الصريحة المستفيضة ( وأما ) قول أبي حنيفة : لو كانا في سفينة فنحن نقول به ، فإن خيارهما يدوم ما داما مجتمعين في السفينة ، ولو بقيا سنة وأكثر ، وقد سبقت المسألة مبينة ودليلها إطلاق الحديث .

                                      ( وأما ) قول مالك فهو اصطلاح له وحده منفرد به عن العلماء فلا يقبل قوله في رد السنن ، لترك فقهاء المدينة العمل بها وكيف يصح هذا المذهب ؟ مع العلم بأن الفقهاء ورواة الأخبار لم يكونوا في عصره ، ولا في العصر الذي قبله منحصرين في المدينة ، ولا في الحجاز ، بل كانوا متفرقين في أقطار الأرض مع كل واحد قطعة من الأخبار لا يشاركه فيها أحد ، فنقلها ووجب على كل مسلم قبولها ، ومع هذا فالمسألة متصورة في أصول الفقه غنية عن الإطالة فيها هنا . هذا كله لو سلم أن فقهاء المدينة متفقون على عدم خيار المجلس ، ولكن ليس هم متفقين ، فهذا ابن أبي ذئب أحد أئمة فقهاء المدينة في زمن مالك أنكر على مالك في هذه المسألة ، وأغلظ في القول بعبارات مشهورة ، حتى قال : يستتاب مالك من ذلك ، وكيف يصح دعوى اتفاقهم ، ( فإن قيل ) قوله صلى الله عليه وسلم : المتبايعان بالخيار [ ص: 222 ] أراد ما داما في المساومة وتقرير الثمن قبل تمام العقد ، لأنهما بعد تمام العقد لا يسميان متبايعين حقيقة ، وإنما يقال كانا متبايعين .

                                      ( قال أصحابنا ) : فالجواب من أوجه : ( أحدها ) جواب الشافعي - رحمه الله - ، وهو أنهما ما داما في المقاولة يسميان متساومين . ولا يسميان متبايعين ، ولهذا لو حلف بطلاق أو غيره أنه ما بايع وكان مساوما ، وتقاولا في المساومة وتقرير الثمن ، ولم يعقدا لم يحنث بالاتفاق .

                                      ( والثاني ) أن المتبايعين اسم مشتق من البيع ، فما لم يوجد البيع لم يجز أن يشتق منه ، لأن كل اسم من معنى لا يصح اشتقاقه حتى يوجد .

                                      ( المعنى الثالث ) إن حمل الخيار على ما قلنا يحصل به فائدة لم تكن معروفة قبل الحديث ، وحمله على المساومة يخرجه عن الفائدة ، فإن كل أحد يعلم أن المتساومين بالخيار إن شاءا عقدا وإن شاءا تركا ( الرابع ) أنه صلى الله عليه وسلم مد الخيار إلى التفرق ، وهذا تصريح بثبوته بعد انقضاء العقد .

                                      ( الخامس ) أن راوي الحديث ابن عمر كان إذا أراد إلزام البيع مشى قليلا لينقطع الخيار ، كما ثبت عنه في الصحيحين على ما قدمناه عنه ، وهو أعلم بمراد الحديث .

                                      ( فإن قيل ) : المراد بالتفرق التفرق بالقول كقوله عز وجل ( { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } ) فالمراد التفرق بالقول ( قلنا ) الإيجاب والقبول ليس تفرقا منهما في القول لأن من أوجب القول فغرضه أن يقبله صاحبه ، فإذا قبله فقد وافقه ولا يسمى مفارقة ، وذكر أصحابنا أقيسة كثيرة وقياسات لا حاجة إليها مع الأحاديث السابقة .

                                      ( وأما ) الجواب عن احتجاجهم بقوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فهو أنه عام مخصوص بما ذكرناه ، وهكذا الجواب عن حديث : { فلا يبيعه حتى يستوفيه } فإنه عام مخصوص بما ذكرناه [ ص: 223 ] وأما ) الجواب عن حديث : { لا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله } فهو أنه دليل كما جعله الترمذي في جامعه دليلا لإثبات خيار المجلس ، واحتج به على المخالفين لأن معناه مخافة أن يختار الفسخ فعبر بالإقامة عن الفسخ ، والدليل على هذا أشياء ( أحدها ) أنه صلى الله عليه وسلم أثبت لكل واحد منهما الخيار ما لم يتفرقا ، ثم ذكر الإقالة في المجلس ، ومعلوم أن من له الخيار لا يحتاج إلى الإقالة ، فدل أن المراد بالإقالة الفسخ ( والثاني ) أنه لو كان المراد حقيقة الإقالة لا يمنعه من المفارقة مخافة أن يقيله ، لأن الإقالة لا تختص بالمجلس ، والله تعالى أعلم .

                                      ( وأما ) الجواب عن قياسهم على النكاح والخلع أنه ليس المقصود منهما المال ، ولهذا لا يفسدان بفساد العوض بخلاف البيع ، والجواب عن قولهم خيار مجهول أن الخيار الثابت شرعا لا يضر جهالة زمنه كخيار الرد بالعيب والأخذ بالشفعة ، بخلاف خيار الشرط فإنه يتعلق بشرطهما ، فاشترط بيانه ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) ذكرنا أنهما إذا قاما من مجلس وتماشيا جميعا دام خيارهما ما داما معا ، وإن بقيا شهرا أو سنة ، هذا مذهبنا ، وحكى الروياني عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال : ينقطع به مفارقة مجلسهما وإن كانا باقيين معا ، ودليلنا عموم الحديث : " ما لم يتفرقا " .



                                      ( فرع ) لو حكم حاكم بإبطال خيار المجلس هل ينقض حكمه ؟ حكى الدارمي فيه وجهين ( أحدهما ) لا ينقض للاختلاف ( والثاني ) ينقض ، قاله الإصطخري




                                      الخدمات العلمية