الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - وإن مر ببستان لغيره وهو غير مضطر لم يجز أن يأخذ منه شيئا بغير إذن صاحبه ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه }

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الحديث رواه البيهقي في كتاب الغصب من رواية علي بن زيد بن جدعان عن أبي حرة الرقاشي عن أبيه عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه } وإسناده ضعيف ، علي بن زيد ضعيف .

                                      وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فذكر الحديث وفيه : { لا يحل لامرئ من [ ص: 59 ] مال أخيه إلا ما أعطاه من طيب نفس } رواه البيهقي في كتاب الغصب بإسناد صحيح ، قال أصحابنا : إذا مر الإنسان بثمر غيره أو زرعه لم يجز أن يأخذ منه ، ولا أن يأكل منه بغير إذن صاحبه إلا أن يكون مضطرا فيأكل حينئذ ويضمن كما سبق ، قال أصحابنا : وحكم الثمار الساقطة من الأشجار حكم الثمار التي على الشجر ، إن كانت الساقطة داخل الجدار ، وإن كانت خارجة فكذلك إن لم تجر عادتهم بإباحتها فإن جرت فوجهان ( أحدهما ) لا يحل كالداخلة ، وكما إذا لم تجر عادتهم لاحتمال أن هذا المالك لا يبيح ( وأصحهما ) يحل لاطراد العادة المستمرة بذلك ، وحصول الظن بإباحته ، كما يحصل تحمل الصبي المميز الهدية ، ويحل أكلها والله أعلم .

                                      ( فرع ) هذا الذي ذكره الأصحاب حكم مال الأجنبي . أما القريب والصديق فإن تشكك في رضاه بالأكل من ثمره وزرعه وبيته لم يحل الأكل منه بلا خلاف وإن غلب على ظنه رضاه به ، وأنه لا يكره أكله منه جاز أن يأكل القدر الذي يظن رضاه به ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال والأموال ولهذا تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وفعل سلف الأمة وخلفها ، قال الله تعالى : { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم } إلى قوله تعالى : { أو صديقكم } وبينت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن مر ببستان غيره ، وفيه ثمار أو مر بزرع غيره ، فذهبنا أنه لا يجوز أن يأكل منه شيئا إلا أن يكون في حال الضرورة التي يباح فيها الميتة وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وداود والجمهور . وقال أحمد : إذا اجتاز به وفيه فاكهة رطبة وليس عليه حائط جاز له الأكل [ ص: 60 ] منه من غير ضرورة ولا ضمان عليه عنده في أصح الروايتين ، وفي الرواية الأخرى يباح له ذلك عند الضرورة ولا ضمان ، واحتج بما روى مجاهد عن أبي عياض أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( من مر منكم بحائط فليأكل في بطنه ولا يتخذ خبنة ) وعن زيد بن وهب قال ( قال عمر رضي الله عنه : إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحدا منكم فإذا مررتم براعي الإبل فنادوا يا راعي الإبل ، فإن أجابكم فاستسقوه ، وإن لم يجبكم فأتوها فحلوها واشربوا ثم صروها ) رواهما البيهقي ، وقال : هذا صحيح عن عمر بإسناديه جميعا ، قال : وهو محمول عندنا على حال الضرورة .

                                      واحتج أصحابنا بالحديث الذي ذكره المصنف مع ما ذكرته مما سبق منه وبحديث ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا يحلبن أحدكم ماشية غيره إلا بإذنه ، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه ؟ فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه } رواه البخاري ومسلم . وفي المسألة أحاديث كثيرة بمعنى ما ذكرته ، قال الشافعي - رحمه الله - : ومن مر لرجل بزرع أو ثمر أو ماشية أو غير ذلك من ماله لم يكن له أخذ شيء منه إلا بإذنه ، لأن هذا مما لم يأت فيه كتاب ولا سنة ثابتة بإباحته فهو ممنوع إلا بإذن مالكه قال : وقد قيل : من مر بحائط فليأكل ولا يتخذ خبنة ، وروي فيه حديث لو كان ثبت عندنا لم نخالفه ، والكتاب والحديث الثابت أنه لا يجوز أكل مال أحد إلا بإذنه ، قال البيهقي : فالحديث الذي أشار إليه الشافعي هو حديث يحيى بن سليم الطائفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة } " قال البيهقي : وقد أخبرنا أبو محمد السكري فذكر إسناده إلى يحيى بن معين قال : حديث يحيى بن سليم هذا عن عبيد الله في الرجل يمر بالحائط فيأكل منه ، قال : هذا غلط وقال أبو عيسى الترمذي : سألت [ ص: 61 ] محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال : يحيى بن سليم يروي أحاديث عن عبيد الله يهم فيها ، قال البيهقي : وقد جاء من أوجه أخر وليست بقوية ( منها ) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : سمعت { رجلا من مزينة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن الضالة فذكر الحديث قال : ثم سأله عن الثمار يصيبها الرجل فقال : ما أخذ في أكمامه يعني رءوس النخل فاحتمله فثمنه ومثله معه وضرب نكال ، وما كان في أجرانه فأخذه ففيه القطع إذا بلغ ذلك ثمن المجن ، وإن أكل بفيه ولم يأخذ خبنة فليس عليه شيء } .

                                      قال البيهقي : وهذا إن صح فمحمول عليه أنه ليس فيه قطع حين لم يخرجه من الحرز ، ( ومنها ) ما رواه أبو داود في سننه عن الحسن عن سمرة بن جندب { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه ، فإن أذن له فليحلب وليشرب ، وإن لم يكن ما فليصوت ثلاثا ، فإن أجابه فليستأذنه وإلا فليحلب وليشرب ولا يحمل . } قال البيهقي : أحاديث الحسن عن أصب لا يثبتها بعض الحفاظ ، ويزعم أنها من كتاب غير حديث العقيقة الذي ذكر فيه السماع ، فإن صح فهو محمول على حال الضرورة ( ومنها ) حديث يزيد بن هارون عن سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا أتى أحدكم على راع فليناد يا راعي الإبل ثلاثا ، فإن أجابه ، وإلا فليحلب وليشرب ، لا يحملن وإذا أتى أحدكم على حائط فليناد ثلاثا يا صاحب الحائط ، فإن أجابه فليأكل ولا يحملن } قال البيهقي : تفرد به سعيد الجريري وهو ثقة ، إلا أنه اختلط في آخر عمره ، وسماع يزيد بن هارون منه بعد اختلاطه فلا يصح ، قال : وقد [ ص: 62 ] روي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ، ثم ذكره بإسناده عن شريك عن عبد الله بن عاصم قال : سمعت أبا سعيد الخدري يقول : { لا يحل لأحد أن يحل صرار ناقة إلا بإذن أهلها ، فإن خاتم أهلها عليها } ، فقيل لشريك : أرفعه ؟ قال : نعم " قال البيهقي : وهذا يوافق حديث ابن عمر الصحيح السابق ، ثم روى البيهقي بإسناده عن أبي عبيد القاسم بن سلام ، قال : إنما هذا الحديث يعني حديث عمر ، وحديث عمرو بن شعيب في الرخصة أنه أرخص فيه للجائع المضطر ، الذي لا شيء معه يشتري به وهو معسر ، وفي حديث ابن جريج عن عطاء قال : { رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للجائع المضطر إذا مر بالحائط أن يأكل منه ولا يتخذ خبنة } وعن الحجاج بن أرطاة عن سليط بن عبد الله التميمي عن ذهيل بن عوف بن أصب عن أبي هريرة قال : { كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ناس : يا رسول الله ما يحل للرجل من مال أخيه ؟ قال : أن يأكل ولا يحمل ، ويشرب ولا يحمل } قال البيهقي : هذا إسناده مجهول لا يقوم به حجة والحجاج بن أرطاة لا يحتج به ، قال : وقد روي من وجه آخر عن الحجاج ما دل على أنه في المضطر ، والله تعالى أعلم .



                                      ( فرع ) الضيافة سنة ، فإذا استضاف مسلم لا اضطرار به مسلما استحب له ضيافته ، ولا تجب ، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ، وقال الليث بن سعد وأحمد بن حنبل : هي واجبة يوما وليلة ، قال أحمد : هي واجبة يوما وليلة على أهل البادية وأهل القرى دون أهل المدن ، واحتجوا بحديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه عليه جائزته ، قال : وما جائزته يا رسول الله ؟ قال : يومه وليلته ، والضيافة ثلاثة أيام ، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه ، ولا يحل لرجل مسلم يقيم عند أخيه حتى يؤثمه ، قالوا : يا رسول الله [ ص: 63 ] وكيف يؤثمه ؟ قال : يقيم عنده ولا شيء له يقريه به } رواه البخاري ومسلم ، وروى أبو داود في سننه عن أشهب قال : " سئل مالك رضي الله عنه عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : جائزته يوم وليلة فقال : يكرمه ويتحفه ويحفظه يوما وليلة وثلاثة أيام ضيافة " .

                                      قال الخطابي : معناه أنه يتكلف له في اليوم الأول ما اتسع له من بر وإلطاف ، وأما في اليوم الثاني والثالث فيقدم له ما كان بحضرته ، ولا يزيد على عادته ، وما كان بعد الثلاث فهو صدقة ومعروف ، إن شاء فعل وإن شاء ترك ، قال : وقوله صلى الله عليه وسلم : " ولا يحل أن يقيم عنده حتى يؤثمه ، معناه لا يحل للضيف أن يقيم عنده بعد الثلاث من غير استدعاء منه حتى يوقعه في الإثم " وعن أبي كريمة المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ليلة الضيف حق على كل مسلم ، فمن أصبح بفنائه فهو عليه دين إن شاء اقتص ، وإن شاء ترك } رواه أبو داود بإسناد صحيح ، وعنه قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيما رجل أضاف قوما فأصبح الضيف محروما ، فإن نصره حق على كل مسلم ، حتى يأخذ بقرى ليلة من زرعه وماله } رواه أبو داود بإسناد حسن . وعن عقبة بن عامر قال : { قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا ، فما ترى ؟ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم } رواه مسلم في صحيحه ، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه بأسانيد صحيحة .

                                      وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الضيافة ثلاثة أيام ، فما سوى ذلك فهو صدقة } رواه أبو داود بإسناد جيد ، واحتج أصحابنا والجمهور بالأحاديث السابقة في مسألة ثمار الإنسان وزرعه ( وأجابوا ) عن هذه الأحاديث الواردة في الضيافة بأنها محمولة على الاستحباب [ ص: 64 ] ومكارم الأخلاق ، وتأكد حق الضيف كحديث : { غسل الجمعة واجب على كل محتلم } أي متأكد الاستحباب وتأول بعض هذه الأحاديث الخطابي وغيره على المضطر ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية