الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4994 [ 2902 ] وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض ؟

                                                                                              رواه أحمد (2 \ 374) ، والبخاري (4812) ، ومسلم (2787) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (21) ومن سورة تنزيل

                                                                                              (قول اليهودي : إن الله يمسك السماوات على إصبع . . . الحديث إلى آخره) . هذا كله قول اليهودي ، لا قول النبي صلى الله عليه وسلم ، والغالب على اليهود أنهم يعتقدون الجسمية ، وأن الله تعالى شخص ذو جوارح ، كما تعتقده غلاة الحشوية في هذه الملة ، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم منه ، إنما هو تعجب من جهله ، ألا ترى أنه قرأ عند ذلك : وما قدروا الله حق قدره [ الزمر : 67 ] أي : ما عرفوه حق معرفته ، ولا عظموه حق تعظيمه . وهذه الرواية هي الرواية الصحيحة المحققة ، فأما رواية من زاد في هذا اللفظ : تصديقا له ، فليست بشيء ; لأنها من قول الراوي ، وهي باطلة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدق الكاذب ولا المحال ، وهذه الأوصاف في حق الله تعالى محال ، بدليل [ ص: 390 ] ما قدمناه غير مرة ، وحاصله أنه لو كان تعالى ذا يد وأصابع وجوارح على نحو ما هو المعروف عندنا ، لكان كواحد منا ، ويجب له من الافتقار والحدث والنقص والعجز ما يجب لنا ، وحينئذ تستحيل عليه الإلهية ، ولو جازت الإلهية لمن كان على هذه الأوصاف لجاز أن يكون كل واحد منا إلها ، ولصحت الإلهية للدجال ، ولصدق في دعواه إياها ، وكل ذلك كذب ومحال ، والمفضي إليه كذب ومحال ، فقول اليهودي كذب ومحال ، ولذلك أنزل الله تعالى في الرد عليه وما قدروا الله حق قدره . وإنما تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جهله ، فوهم الراوي وظن أن ذلك التعجب تصديق ، وليس كذلك . فإن قيل : فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن " ، فقد أخبر بأن له أصابع . فالجواب : أنه إذا جاءنا مثل هذا في كلام الصادق تأولناه ، أو توقفنا فيه إلى أن يتبين وجهه ، مع القطع باستحالة ظاهره ، لضرورة صدق من دلت المعجزة على صدقه . فأما إذا جاءنا مثل هذا على لسان من يجوز عليه الكذب ، بل من أخبرنا الصادق عن نوعه بالكذب والتحريف كذبناه ، وقبحناه ، ثم لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صدقه ، وقال له : صدقت ، لما كان تصديقا له في المعنى ، بل في النقل ، أي في نقل ذلك عن كتابه أو عن نبيه ، وحينئذ نقطع بأن ظاهره غير مراد ، ثم هل نتوقف في تعيين تأويل ونسلم ، أو نبدي تأويلا له وجه في اللسان وصحة في العقل على الرأيين اللذين لأئمتنا ، وقد تقدما . وقد قلنا : إن الأصبع يصح أن يراد به القدرة على الشيء ويسارة تقليبه ، كما يقول من استسهل شيئا واستخفه مخاطبا لمن استثقله : أنا أحمله على أصبعي ، أو أرفعه بأصبعي وأمسكه بخنصري . وكما يقول من طاع بحمل شيء : أنا

                                                                                              [ ص: 391 ] أحمله على عيني وأرفعه على رأسي . يعني به : الطواعية ، وما أشبه ذلك مما في معناه ، وهو كثير ، ولما كان ذلك معروفا عند العقلاء متداولا بينهم ، خوطبوا بذلك جريا على منهاجهم ، وتوسعا معلوما عندهم . وعلى هذا فيمكن حمل الحديث وما في معناه على نحو من هذا ، وبيان ذلك أن السماوات والأرض ، وهذه الموجودات عظيمة أقدارها في إدراكنا ، وكبير خلقها في حقنا ، فقد يسبق الوهم الغالب على الإنسان ، أن خلقها وإمساكها على الله تعالى كبير ، وتكلفها عسير ، فنفى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوهم بهذا الحديث ، وبينه على طريق التمثيل بما تعارفناه ، فكأنه قال : خلق بيده المذكورات العظيمة ، وإمساكها في قدرة الله تعالى كالشيء الحقير الذي تجعلونه بين أصابعكم ، وتهزونه بين أيديكم ، وتتصرفون فيه كيف شئتم ، ولهذا أشار بقوله : " ثم يقبض أصابعه ويبسطها " . وبقوله : " ثم يهزهن " أي : هن في قدرته كالحبة مثلا في حق أحدنا ; أي : لا يبالي بإمساكها ، ولا بهزها ، ولا تحريكها ، ولا القبض والبسط عليها ، ولا يجد في ذلك صعوبة ، ولا مشقة ، ومن لا يقنعه هذا التفهيم فليس له إلا سلامة التسليم ، والله بحقائق الأمور عليم .

                                                                                              و (قوله تعالى : " أنا الملك ") أي : الحقيق بالملك والملك ، إذ لو اجتمع ملوك الدنيا من أولها إلى آخرها وجميع المخلوقات ، لما استطاعوا على إمساك مقدار ذرة من الأرضين ، ولا من السماوات ، وهذا معنى قوله : أنا الملك ، في حديث اليهودي .

                                                                                              فأما قوله : " أنا الملك " في حديث ابن عمر ، فمقصوده إظهار انفراده تعالى بالملك عند انقطاع دعاوى المدعين ، وانتساب المنتسبين ، إذ قد ذهب كل ملك وملكه ، وكل جبار ومتكبر وملكه ، وانقطعت نسبهم ودعاويهم ، وهو نحو قوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ غافر : 16 ] والإمساك المذكور في حديث اليهودي خلاف الطي والقبض الذي في حديث ابن عمر ; فإن [ ص: 392 ] ذلك الإمساك هو استدامة وجود السماوات والأرض إلى يوم يطويها ويقبضها ويبدلها ، كما قال تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا [ فاطر : 41 ] وقد بينا القبض والطي في الأنعام .




                                                                                              الخدمات العلمية