الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 72 ] الغريب ، والعزيز ، والمشهور


748 . وما به مطلقا الراوي انفرد فهو الغريب وابن مندة فحد      749 . بالانفراد عن إمام يجمع
حديثه فإن عليه يتبع      750 . من واحد واثنين فالعزيز أو
فوق فمشهور وكل قد رأوا      751 . منه الصحيح والضعيف ثم قد
يغرب مطلقا أو إسنادا فقد

التالي السابق


قال ابن الصلاح : " الحديث الذي ينفرد به بعض الرواة ، يوصف بالغريب ، قال : وكذلك الحديث الذي ينفرد فيه بعضهم بأمر لا يذكره فيه غيره ، إما في متنه ، وإما [ ص: 73 ] في إسناده" . وروينا عن أبي عبد الله بن منده قال : الغريب من الحديث كحديث الزهري وقتادة وأشباههما من الأئمة ممن يجمع حديثهم إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث يسمى غريبا ، فإذا روى عنهم رجلان ، أو ثلاثة ، واشتركوا يسمى عزيزا ، فإذا روى الجماعة عنهم حديثا ، يسمى مشهورا ، وهكذا قال محمد بن طاهر المقدسي ، وكأنه أخذه من كلام ابن منده .

وقولي : (وكل قد رأوا ، منه الصحيح والضعيف) أي : إن وصف الحديث بكونه مشهورا ، أو عزيزا ، أو غريبا ، ينافي الصحة ، ولا الضعف ، بل قد يكون مشهورا صحيحا ، أو مشهورا ضعيفا ، أو غريبا صحيحا ، أو غريبا ضعيفا ، أو عزيزا صحيحا ، أو عزيزا ضعيفا . ولم يذكر ابن الصلاح كون العزيز يكون منه الصحيح والضعيف ، بل ذكر ذلك في المشهور والغريب فقط . ومثل المشهور الصحيح بحديث : "الأعمال بالنيات" وتبع في ذلك الحاكم ، وفيه نظر ، فإن الشهرة إنما طرأت له من عند يحيى بن سعيد ، وأول الإسناد فرد ، كما تقدم . وقد نبه على ذلك ابن الصلاح في آخر النوع الحادي والثلاثين ، وهو الذي يلي نوع المشهور ، وكان ينبغي له أن يمثل بغيره مما مثل به الحاكم أيضا ، كحديث : "إن الله لا يقبض العلم [ ص: 74 ] انتزاعا ، . . . " وحديث : "من أتى الجمعة فليغتسل ، . . . " ، وحديث رفع اليدين في الصلاة ، وغير ذلك . ومثل ابن الصلاح المشهور الذي ليس بصحيح ، بحديث : "طلب العلم فريضة على كل مسلم" ، وتبع في ذلك أيضا الحاكم ، وقد صحح [ ص: 75 ] بعض الأئمة بعض طرق الحديث ، كما بينته في تخريج أحاديث الإحياء . ومثله الحاكم أيضا ، بحديث : "الأذنان من الرأس" . وبأمثلة كثيرة بعضها صحيح ، وإن لم تخرج في واحد من الصحيحين .

وذكر ابن الصلاح في أمثلته ما بلغه عن أحمد بن حنبل ، قال : أربعة أحاديث تدور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأسواق ، ليس لها أصل : "من بشرني بخروج آذار بشرته بالجنة" ، "ومن آذى ذميا ، فأنا خصمه يوم القيامة" ، "ويوم نحركم يوم صومكم" ، "وللسائل حق ، وإن جاء على فرس" ، قلت : [ ص: 76 ] وهذا لا يصح عن أحمد ، وقد أخرج أحمد في مسنده هذا الحديث الرابع عن وكيع ، وعبد الرحمن بن مهدي ، كلاهما عن سفيان ، عن مصعب بن محمد ، عن يعلى ابن أبي يحيى ، عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها حسين بن علي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو إسناد جيد . ويعلى وإن جهله أبو حاتم ، فقد وثقه أبو حاتم بن حبان . وأما مصعب ، فوثقه يحيى بن معين ، وغيره . وأخرجه أبو داود في سننه وسكت عنه ، فهو عنده صالح . وأخرجه أيضا من حديث علي ، وفي إسناده من لم يسم . ورويناه أيضا من حديث ابن عباس ، ومن حديث الهرماس بن زياد .

وأما حديث : "من آذى ذميا" فقد رواه بنحوه أبو داود أيضا ، وسكت عليه ، من رواية صفوان بن سليم ، عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن آبائهم دنية عن [ ص: 77 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : "ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه ، أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئا من غير طيب نفس ، فأنا حجيجه يوم القيامة" . وهذا إسناد جيد ، وإن كان فيه من لم يسم ، فإنهم عدة من أبناء الصحابة يبلغون حد التواتر الذي لا يشترط فيه العدالة . فقد روينا في سنن البيهقي ، وفيه : "عن ثلاثين من أبناء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" .

وأما الحديثان الآخران فلا أصل لهما كما ذكر . وأما مثال الغريب الصحيح ، فكأفراد الصحيح ، وهي كثيرة ، منها حديث مالك عن سمي ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، مرفوعا : "السفر قطعة من العذاب" . وأما الغريب الذي ليس بصحيح فهو الغالب على الغرائب . وقد روينا عن أحمد بن حنبل ، قال : "لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب ، فإنها مناكير ، وعامتها عن الضعفاء" . وروينا عن مالك قال : شر العلم الغريب ، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس . وروينا عن عبد الرزاق قال : كنا نرى أن غريب الحديث خير ، فإذا هو شر . وقسم الحاكم الغريب إلى ثلاثة أنواع : غرائب الصحيح ، وغرائب الشيوخ ، وغرائب المتون . وقسمه ابن طاهر إلى خمسة أنواع . وقال ابن الصلاح : إن من الغريب ما هو [ ص: 78 ] غريب متنا ، وإسنادا ، وهو الحديث الذي تفرد برواية متنه راو واحد . ومنه ما هو غريب إسنادا لا متنا ، كالحديث الذي متنه معروف ، مروي عن جماعة من الصحابة ، إذا تفرد بعضهم بروايته عن صحابي آخر ، كان غريبا من ذلك الوجه . قال ومن ذلك : غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة ، قال : وهذا الذي يقول فيه الترمذي : غريب من هذا الوجه ، قلت : وأشرت إلى القسم الأول بقولي : (ثم قد يغرب مطلقا) ، وإلى الثاني بقولي : (أو إسنادا فقد) أي : فقط .

قال ابن الصلاح : ولا أرى هذا النوع ينعكس ، فلا يوجد إذا ما هو غريب متنا ، وليس غريبا إسنادا ، وإلا إذا اشتهر الحديث الفرد عمن تفرد به ، فرواه عنه عدد كثيرون ، فإن إسناده متصف بالغرابة في طرفه الأول ، متصف بالشهرة في طرفه الآخر ، كحديث : "إنما الأعمال بالنيات" ، وكسائر الغرائب التي اشتملت عليها التصانيف المشتهرة ، هكذا قال ابن الصلاح : إنه لا يوجد ما هو غريب متنا لا سندا ، إلا بالتأويل الذي ذكره . وقد أطلق أبو الفتح اليعمري ذكر هذا النوع في جملة أنواع الغريب من غير تقيد بآخر السند ، فقال في شرح الترمذي : "الغريب على أقسام : غريب سندا ومتنا ، ومتنا لا سندا ، وسندا لا متنا ، وغريب بعض السند فقط ، وغريب بعض المتن فقط" . فالقسم الأول واضح ، والقسم الثاني هو الذي أطلقه أبو الفتح ، ولم يذكر له مثالا ، والقسم الثالث مثاله حديث رواه عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : "الأعمال بالنية" . قال الخليلي في [ ص: 79 ] الإرشاد : "أخطأ فيه عبد المجيد ، وهو غير محفوظ من حديث زيد بن أسلم بوجه ، قال : فهذا مما أخطأ فيه الثقة عن الثقة" . وقال أبو الفتح اليعمري : "هذا إسناد غريب كله ، والمتن صحيح" ، والقسم الرابع مثاله حديث رواه الطبراني في المعجم الكبير من رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، ومن رواية عباد بن منصور ، فرقهما كلاهما عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة بحديث أم زرع .

والمحفوظ ما رواه عيسى بن يونس عن هشام بن عروة عن أخيه عبد الله بن عروة ، عن عروة عن عائشة . هكذا اتفق عليه الشيخان . وكذا رواه مسلم من رواية سعيد بن سلمة بن أبي الحسام ، عن هشام . قال أبو الفتح : "فهذه غرابة تخص موضعا من السند ، والحديث صحيح" قلت : ويصلح ما ذكرناه من عند الطبراني مثالا للقسم الخامس ; لأن عبد العزيز وعبادا جعلا جميع الحديث مرفوعا ، وإنما المرفوع منه قوله - صلى الله عليه وسلم - : "كنت لك كأبي زرع لأم زرع" ، فهذا غرابة بعض المتن ، أيضا .

والله أعلم .




الخدمات العلمية