الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4112 [ 2158 ] وعنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن هذا الوجع - أو السقم - رجز عذب به بعض الأمم قبلكم، ثم بقي بعد بالأرض، فيذهب المرة ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه، ومن وقع بأرض وهو بها فلا يخرجنه الفرار منه.

                                                                                              رواه مسلم (2218) (96). [ ص: 611 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 611 ] (15) ومن باب ما جاء في الطاعون

                                                                                              قوله: " الطاعون رجز أرسل على من كان قبلكم " قد جاء هذا اللفظ مفسرا في الرواية الأخرى، حيث قال: " إن هذا الوجع - أو السقم - رجز عذب به بعض الأمم " فقد فسر الطاعون بالمرض والرجز بالعذاب، والطاعون زنة فاعول من الطعن، غير أنه لما عدل به عن أصله وضع دالا على الموت العام بالوباء على ما قاله الجوهري . وقال غيره: أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد. والوباء: عموم الأمراض. قال: وطاعون عمواس إنما كان طاعونا وقروحا.

                                                                                              قلت: ويشهد لصحة هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن الطاعون، فقال: " غدة كغدة البعير تخرج في المراق والآباط" وقال غير واحد من العلماء: تخرج في الأيدي والأصابع وحيث شاء الله من البدن.

                                                                                              قلت: وحاصله أن الطاعون مرض عام يكون عنه موت عام، وقد يسمى بالوباء، ويرسله الله نقمة وعقوبة لمن يشاء من عصاة عبيده وكفرتهم، وقد يرسله [ ص: 612 ] شهادة ورحمة للصالحين من عباده، كما قال معاذ في طاعون الشام : إنه شهادة ورحمة لكم، ودعوة نبيكم. قال أبو قلابة : يعني بدعوة نبيكم أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون. كذا جاءت الرواية عن أبي قلابة بالواو، قال بعض علمائنا: والصحيح "بالطعن أو الطاعون" بأو التي هي لأحد الشيئين; أي: لا يجتمع ذلك عليهم.

                                                                                              قلت: ويظهر لي أن الروايتين صحيحتا المعنى، وبيانه أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمته المذكورة في الحديث إنما هم أصحابه; لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد دعا لجميع أمته ألا يهلكهم بسنة عامة، ولا بتسليط أعدائهم عليهم، فأجيب إلى ذلك، فلا تذهب بيضتهم ولا معظمهم بموت عام ولا بعدو على مقتضى هذا الدعاء.

                                                                                              والدعاء المذكور في حديث أبي قلابة يقتضي أن يفنى جميعهم بالقتل والموت العام، فتعين أن يصرف الأول إلى أصحابه؛ لأنهم هم الذين اختار الله لمعظمهم الشهادة بالقتل في سبيل الله وبالطاعون الذي وقع في زمانهم فهلك به بقيتهم، فعلى هذا قد جمع الله لهم كلا الأمرين، فتبقى الواو على أصلها من الجمع، أو تحمل "أو" على التنويعية والتقسيمية، والله تعالى أعلم.

                                                                                              وقوله: " فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " على ظاهر هذا الحديث عمل عمر والصحابة معه - رضي الله عنهم أجمعين - لما رجعوا من سرغ حين أخبرهم بهذا الحديث عبد الرحمن بن عوف ، وإليه صاروا.

                                                                                              وقالت عائشة رضي الله عنها: الفرار من الوباء كالفرار من الزحف، وإنما نهي عن القدوم عليه أخذا بالحزم والحذر [ ص: 613 ] والتحرز من مواضع الضرر، ودفعا للأوهام المشوشة لنفس الإنسان. وإما نهي عن الفرار منه لأن الكائن في الموضع الذي الوباء فيه لعله قد أخذ بحظ منه، لاشتراك أهل ذلك الموضع في سبب ذلك المرض العام، فلا فائدة لفراره، بل يضيف إلى ما أصابه من مبادي الوباء مشقات السفر فيتضاعف الألم ويكثر الضرر، فيهلكون بكل طريق، ويطرحون في كل فجوة ومضيق؛ ولذلك يقال: قلما فر أحد من الوباء فسلم. ويكفي من ذلك موعظة قوله تعالى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا قال الحسن : خرجوا حذرا من الطاعون فأماتهم الله تعالى في ساعة واحدة، وهم أربعون ألفا، وقيل غير هذا. وقالت طائفة أخرى: إنه يجوز القدوم على الوباء والفرار منه، وحكي ذلك عن عمر - رضي الله عنه - فإنه ندم على رجوعه من سرغ ، وقال: اللهم اغفر لي رجوعي من سرغ . وكتب إلى عامله بالشام بأنه إذا وقع عندكم الوباء فاكتب حتى أخرج إليه. وكتب إلى أبي عبيدة في الطاعون، فعزم عليه أن يقدم عليه مخافة أن يصيبه الطاعون.

                                                                                              وروي عن مسروق والأسود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أنهم فروا من الطاعون، وروي عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه قال: تفرقوا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال.

                                                                                              واعتمد أصحاب هذا القول على أن الآجال محدودة، والأرزاق مقدرة معدودة، فلا يتقدم شيء على وقته، ولا يتأخر شيء عن أجله، فالواجب صحة الاعتماد على الله والتسليم لأمر الله، فإن الله تعالى لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، فالقدوم على الوباء والفرار سيان بالنسبة إلى سابق الأقدار.

                                                                                              وتأول بعضهم الحديث بأن مقصوده التحذير من فتنة الحي فيعتقد أن [ ص: 614 ] هلاك من هلك من أجل قدومه على الوباء ونجاة من نجا من أجل فراره، قالوا: وهذا نحو نهيه عن الطيرة والقرب من المجذوم مع قوله: " لا عدوى " فمن خرج من بلاد الطاعون أو قدم عليها جاز له ذلك إذا أيقن أن قدومه لا يعجل له أجلا أخره الله تعالى وأن فراره لا يؤخر عنه أجلا عجله الله تعالى، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: الطاعون فتنة على المقيم والفار; أما الفار فيقول: بفراري نجوت! وأما المقيم فيقول: أقمت فمت! وإلى نحو هذا أشار مالك حين سئل عن كراهية النظر إلى المجذوم، فقال: ما سمعت فيه بكراهة، وما أرى ما جاء من النهي عن ذلك إلا خيفة أن يفزعه أو يخيفه شيء يقع في نفسه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوباء: " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه " وسئل أيضا مالك عن البلد يقع فيه الموت وأمراض، فهل يكره الخروج إليه؟ فقال: ما أرى بأسا، خرج أو أقام. قيل: فهذا يشبه ما جاء في الحديث من الطاعون! قال: نعم.

                                                                                              قلت: وهذا فيه نظر سيأتي إن شاء الله في حديث ابن عباس .

                                                                                              وقوله في حديث أبي النضر : " لا يخرجكم إلا فرارا منه " رويناه بالنصب والرفع، وعلى الروايتين فهو مشكل; لأنه يفيد بحكم ظاهره أنه لا يجوز لأحد أن يخرج من الوباء إلا من أجل الفرار، وهذا محال، وهو نقيض مقصود الحديث من أوله إلى آخره قطعا، ولما ظهر هذا الفساد قيده بعض رواة الموطأ "الإفرار" بهمزة مكسورة وسكون الفاء، توهم فيه أنه مصدر، وهذا ليس بصحيح; لأنه لا يقال [ ص: 615 ] أفر - رباعيا، وإنما يقال فر، ومصدره فرار ومفر، كما قال تعالى: قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وقال: أين المفر وقد أشكل هذا الكلام على كثير من العلماء الأعلام حتى قالت جماعة: إن إدخال "إلا" فيه غلط. وقال بعضهم: إنها زائدة. كما قد تزاد "لا" في مثل قوله تعالى: ما منعك ألا تسجد أي: ما منعك أن تسجد. وقال بعض النحويين: إن "إلا" هنا للإيجاب; لأنها توجب بعض ما نفاه من الجملة ونهى عنه من الخروج، فكأنه قال: لا تخرجوا منها إذا لم يكن خروجكم إلا فرارا - وأباح الخروج لغرض آخر. والأقرب أن تكون زائدة، والصحيح إسقاطها كما قد صح في الروايات الأخر.




                                                                                              الخدمات العلمية