الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              4107 (14) باب التداوي بالعسل

                                                                                              [ 2156 ] عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي قد استطلق بطنه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسقه عسلا! فسقاه، ثم جاءه فقال: إني سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا! فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال: اسقه عسلا! فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله، وكذب بطن أخيك - فسقاه فبرأ.

                                                                                              وفي رواية: فقال إن أخي عرب بطنه! فقال له: اسقه عسلا - نحو ما تقدم.

                                                                                              رواه أحمد (3 \ 92) والبخاري (5684) ومسلم (2217) (91) والترمذي (2083). [ ص: 608 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 608 ] (14) ومن باب التداوي بالعسل

                                                                                              قول الرجل: " إن أخي استطلق بطنه " قيدناه بضم التاء وكسر اللام مبنيا للمفعول، بطنه - مرفوعا - مفعول لما لم يسم فاعله، ومعناه أصيب بالإسهال، وقد عبر عنه في الرواية الأخرى "تعرب بطنه" أي: تغير عن حال الصحة إلى هذا المرض، كما يقال: عربت معدته - بكسر الراء - إذا تغيرت وفسدت، تعرب عربا - بالفتح فيهما.

                                                                                              وقوله صلى الله عليه وسلم: " اسقه عسلا " قد اعترض بعض زنادقة الأطباء على هذا فقال: قد أجمعت الأطباء على أن العسل يسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال؟! فجوابه أن يقال: إن هذا الطعن صدر عن جهل بأدلة صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وبصناعة الطب:

                                                                                              أما الأول: فلو نظر في معجزاته - صلى الله عليه وسلم - نظرا صحيحا لعلم على القطع أنه يستحيل عليه الكذب والخلف، ومن حصل له هذا العلم فحقه شرعا وعقلا إذا وجد من كلامه ما يقصر عن إدراكه أن يعلم أن ذلك القول حق في نفسه وأن يضيف القصور إلى نفسه، فإن أرشده هذا الصادق إلى فعل ذلك الشيء على وجه فيستعمله على الوجه الذي عينه وفي المحل الذي أمره بعقد نية وحسن طوية; [ ص: 609 ] فإنه يرى منفعته ويدرك بركته، كما قد اتفق لصاحب هذا العسل، وإن لم يعين له كيفية ولا وجها فسبيل العاقل ألا يقدم على استعمال شيء حتى يعرف كيفية العمل به، فليبحث عن وجه العمل اللائق بذلك الدواء، فإذا انكشف له ذلك فهو الذي أراده الصادق، وهذا البحث إنما يكون مع العلماء بالطب من المسلمين الموثوق بعلمهم وصحة تجربتهم.

                                                                                              وأما جهل هذا الطاعن بصناعة الطب فقد جازف في النقل حيث أطلق في موضع التقييد، وحكى إجماعا لا يصح له، وبيان ذلك بما قاله الإمام أبو عبد الله قال: ينبغي أن يعلم أن الإسهال يعرض من ضروب كثيرة، فمنها: الإسهال الحادث عن التخم والهيضات، والأطباء مجمعون في مثل هذا على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية، فأما حبسها فضرر. فإذا وضح هذا قلنا: فيمكن أن يكون هذا الرجل أصابه الإسهال عن امتلاء وهيضة، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرب العسل فزاده فزاده، إلى أن فنيت تلك المادة فوقف الإسهال، فوافقه شرب العسل، فإذا خرج هذا على صناعة الطب أذن ذلك بجهل المعترض بتلك الصناعة.

                                                                                              قال: ولسنا نستظهر على قول نبينا بأن يصدقه الأطباء، بل لو كذبوه لكذبناهم وكفرناهم، وصدقناه صلى الله عليه وسلم، فإن أوجدونا بالمشاهدة صحة ما قالوه فنفتقر حينئذ إلى تأويل كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتخريجه على ما يصح; إذ قامت الدلالة على أنه لا يكذب.

                                                                                              وقوله: " صدق الله، وكذب بطن أخيك " تنبيه على أنه - صلى الله عليه وسلم - انتزع هذا العلاج بالعسل من قول الله تعالى: يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس والصحيح من قوله "فيه" أنه عائد على العسل بدليل هذا [ ص: 610 ] الحديث، ولأنه ليس في الآية ذكر لغيره - وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة ، وقال مجاهد : هو عائد إلى القرآن. والأول أولى لما ذكرناه.

                                                                                              قلت: ومقتضى الآية أن العسل فيه شفاء ما، لا كل شفاء; لأن "شفاء" نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل اللسان ومحققي أهل الأصول، لكن قد حملتها طائفة من أهل الصدق والعزم على العموم فكانوا يستشفون بالعسل من كل الأوجاع والأمراض، وكانوا يستشفون من عللهم ببركة القرآن وبصحة التصديق والإيقان، وقد كان ابن عمر - رضي الله عنهما - لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا، حتى الدمل إذا خرج عليه طلاه عسلا، فقيل له في ذلك، فقال: أليس الله سبحانه يقول: فيه شفاء للناس ؟

                                                                                              وروي أن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - مرض، فقيل له: ألا نعالجك؟ فقال: ائتوني بماء، فإن الله تعالى يقول: ونـزلنا من السماء ماء مباركا ثم قال: ائتوني بعسل، فإن الله يقول: فيه شفاء للناس ثم قال: ائتوني بزيت، فإن الله تعالى يقول: من شجرة مباركة زيتونة فجاؤوه بذلك كله، فخلطه جميعا ثم شربه فبرأ.

                                                                                              وحكى النقاش عن أبي وجرة أنه كان يكتحل بالعسل، ويستمشي بالعسل، ويتداوى بالعسل - فهذا كله عمل بمطلق القرآن الكريم، وأصله صدق النية وصحة الإيمان.




                                                                                              الخدمات العلمية