الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 229 ] باب صدقة التطوع قال المصنف رحمه الله تعالى : ( لا يجوز أن يتصدق بصدقة التطوع وهو محتاج إلى ما يتصدق به لنفقته أو نفقة عياله ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه { أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله عندي دينار ، فقال : أنفقه على نفسك ، قال : عندي آخر . قال : أنفقه على ولدك ، قال : عندي آخر ، قال : أنفقه على أهلك ، قال : عندي آخر : قال أنفقه على خادمك ، قال : عندي آخر ، قال : أنت أعلم به } وقال صلى الله عليه وسلم : { كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت } ولا يجوز لمن عليه دين ، وهو محتاج إلى ما يتصدق به لقضاء دينه ; لأنه حق واجب ، فلم يجز تركه بصدقة التطوع كنفقة عياله ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي هريرة حديث حسن رواه أبو داود والنسائي في سننهما بإسناد حسن ، ولكن وقع في المهذب في الدينار الثالث { أنفقه على أهلك } وفي سنن أبي داود { تصدق به على زوجتك أو زوجك } كذا جاء على الشك ، وهما لغتان في المرأة ، يقال لها : زوج وزوجة ، وحذف الهاء أفصح وأشهر ، وبه جاء القرآن العزيز ، ووقع في المهذب في كل الدنانير { أنفقه على كذا } وفي سنن أبي داود { تصدق به } بدل أنفقه . وأما الحديث الآخر { كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت } فرواه أبو داود بلفظه بإسناد صحيح رواه مسلم في صحيحه بمعناه { كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته } وهو من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص .

                                      ( أما الأحكام ) ففيه مسألتان ( إحداهما ) إذا كان محتاجا إلى ما معه لنفقة نفسه أو عياله ، هل يتصدق صدقة التطوع ؟ فيه ثلاثة أوجه : ( أحدها ) لا يستحب ذلك ، ولا يقال : مكروه ، وبهذا قطع الماوردي والغزالي وجماعة من الخراسانيين وتابعهم الرافعي فقال : لا يستحب له التصدق ، وربما قيل يكره ، وقال الماوردي : صدقة التطوع قبل أداء الواجبات من الزكوات والكفارات ، وقيل : الإنفاق على من [ ص: 230 ] تجب نفقتهم من الأقارب والزوجات غير مستحبة ولا مختارة . هذا لفظه .

                                      ( والثاني ) يكره ذلك ، وبه قطع المتولي .

                                      ( والثالث ) وهو الأصح لا يجوز ، وبه قطع المصنف هنا وفي التنبيه وشيخه القاضي أبو الطيب والدارمي وابن الصباغ والبغوي وصاحب البيان وآخرون ، وظاهر نص الشافعي رضي الله عنه إشارة إلى الوجه الأول لأنه قال في مختصر المزني : أحب أن يبدأ بنفسه ثم بمن يعول ; لأن نفقة من يعول فرض ، والفرض أولى به من النفل ، ثم بقرابته ، ثم من شاء ، هذا نصه رضي الله عنه ( فإن قيل ) : يرد على المصنف وموافقيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه " أن رجلا من الأنصار بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبيان ، وأطفئ السراج ، وقدمي للضيف ما عندك " فنزلت هذه الآية { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } هذا حديث صحيح رواه الترمذي بهذا اللفظ ، وهو في صحيحي البخاري ومسلم أبسط من هذا ( فالجواب ) من وجهين : ( أحدهما ) أن هذا ليس من باب صدقة التطوع ، إنما هو ضيافة ، والضيافة لا يشترط فيها الفضل عن عياله ونفسه لتأكدها ، وكثرة الحث عليها ، حتى إن جماعة من العلماء أوجبوها . ( والثاني ) أنه محمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين حينئذ ، بل كانوا قد أكلوا حاجتهم ، ( وأما ) الرجل وامرأته فتبرعا بحقهما ، وكانا صابرين فرحين بذلك ، ولهذا جاء في الآية والحديث الثناء عليهما .

                                      ( فإن قيل ) : قوله : نومي صبيانك ، وغير هذا اللفظ مما جاء في الحديث يدل على أن الصبيان كانوا جياعا ، ( فالجواب ) أن الصبيان لا يتركون الأكل عند حضور الطعام ، ولو كانوا شباعا ، فخاف إن بقوا مستيقظين أن يطلبوا الأكل عند حضور الطعام على العادة فينكدوا عليهما ، وعلى الضيف لقلة الطعام . والله تعالى أعلم .

                                      ( المسألة الثانية ) إذا أراد صدقة التطوع وعليه دين ، فقد أطلق المصنف وشيخه أبو الطيب وابن الصباغ والبغوي وآخرون ، [ ص: 231 ] أنه لا تجوز صدقة التطوع لمن هو محتاج إلى ما يتصدق به لقضاء دينه ، وقال المتولي وآخرون : يكره ، وقال الماوردي والغزالي وآخرون : لا يستحب ، وقال الرافعي : لا يستحب ، وربما قيل : يكره هذا كلامه ، والمختار أنه إن غلب على ظنه حصول الوفاء من جهة أخرى فلا بأس بالصدقة وقد تستحب ، وإلا فلا تحل ، وعلى هذا التفصيل يحمل كلام الأصحاب المطلق ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية